من أرشيف الذاكرة .. نائب خجول ومصاب بالرهاب
يمنات
أحمد سيف حاشد
– أحيانا حالما أكون أمام جمهور، أو أمام كاميرا تلفزيونية، أو حتى أمام فتاة حسناء، أو امرأة جميلة، تجتاحني رهبة كبيرة، و خجل عظيم، و مخاوف غير مبررة .. أشعر بالخجل و الاضطراب و التوتر .. أفقد زمام السيطرة على أعصابي .. تكتظ الأفكار في رأسي .. تتضارب و تحتدم بعضها ببعض، دون اتجاه، أو إشارة مرور إلى طريق أو زقاق..
– أفقد تراتبية الحديث و تسلسل الأفكار .. تضيع مني الأولوية بين الأهم و المهم و ما دونهما .. انتقل في الحديث من فقرة في اتجاه معين قبل أن أكملها، إلى فقرة أخرى، و ربما إلى فكرة ثانية دون أن أستكمل الأولى .. أفقد كثير من التركيز، و ربما يرتعش بعض أجزاء جسمي، و يتهدج صوتي، و تتصاعد أنفاسي، و اتلعثم في القول..
– أذكر في إحدى اللقاءات مع الناخبين، توقفتُ فجاءة عن الكلام، لأكثر من خمس ثوان، حتى شعرت بالعجم، بعد أن طارت الفكرة، و هربت مني المفردة، و امتنعت الذاكرة في اللحظة من اسعافي بالكلام .. شعرت بعور أصابني، و إعاقة نفسية تسكن فيني و تحبطني، و وجود خلل كبير في جهازي العصبي .. اعتراني شعور بالنقص، و إحساس أن ثمة خالقا لم يتم خلقه..
– كنت قبل أن أصير عضوا في مجلس النواب أحدث نفسي: كيف يمكن أن أتحدث في قاعة مهابة، أمام ثلاثمائة نائب، و أمام أربع كاميرات تحيطني من كل جانب، و تنقل تفاصيلي من أربع زوايا، لملايين البشر..؟!! كيف لي أن اقتحم كل هذا و أنا الخجول الذي قمعت حبي طويلا بسبب خجلي الكبير، و فشلت في البوح أو الكلام ثلاث سنين مع الفتاة التي أحببتها بصمت مهول، و كتمان شديد، دون أن تدري أو تعلم هي أنني في حبها أشتعل و أحتظر..!!
– كنت اغالب هذه المشاعر و الأحاسيس المحبطة، بإدراك أن هناك متسعا لأن أحوّل هذه الإعاقة النفسية و الاجتماعية، إلى قوة أكبر منها، في نفس السياق، أو حتى في سياق و مضمار آخر مختلف..
– هل سيكون نموذجي و مثالي هو نيوتن البرلماني الصامت الذي قيل عنه، أنه لم يقل شيئا خلال سنوات تمثيله و وجوده في البرلمان غير مطالبته بإغلاق النافذة!! أم ذلك الفلكي الذي دعاه الملك لحضور الاحتفال في قصره، فحبس بوله حرجا و خجلا من أن يسأل عن المرحاض .. فاعترش الخلود ليس بسبب اكتشافاته الفلكية، و إنما بسبب هذه القصة المميتة..
– الخجل و الرهاب الاجتماعي مشكلة عميقة أعاني منها منذ الصغر .. إنها اعاقه نفسية، كلفتني كثيرا من الخسائر على المستوى الشخصي، و فوتت لغير صالحي كثيرا من الفرص .. و لازالت ترافقني بعض ملامحها إلى اليوم .. و أحيانا تعاود مداهمتي بسطوة و طغيان .. إنها خليط من الخجل الشديد و الرهاب الاجتماعي الأشد..
– نجحت في تجاوز كثير منها خلال حياتي الماضية، غير أنني أشعر في بعض الأحيان أنني لم أتخلص منها بعد .. بل إنها تعاود مداهمتي بعد انقطاع، و على نحو لا أتوقعه في بعض الأحيان، رغم مسيرة حياتي المشاغبة و المكتظة بالمواجهات، و المليئة بالضجيج و الجلبة و الصخب..
– أشعر أن مرد هذا الخجل و الرهاب يعود ابتدأ الى تنشئة أسرية خاطئة .. طفولتي أقل ما يمكنني أن أقول عنها إنها كانت تعيسة للغاية، تحدثت عنها و ألمحت إليها في أكثر من موضع و مكان في السابق، و تحديدا في أرشفة ذاكرة الطفولة المثقلة بالقسوة و المعاناة و الحرمان..
– لقد كانت طفولة منهكة و حساسة و مثقلة بالألم .. يضاف إليها مشاكل أسرية جمة، رافقت حياتي الأولى المتعبة، و قلق مساور في أغلب الأحيان .. كنت مطالبا بطاعة عمياء، و أي رفض لها، يتبعه دون مهل، العقاب القاسي و العجول، و من دون سؤال.
– كانت تثقل كاهلي سلطة أبوية صارمة و قاسية من عناوينها “اضرب ابنك و احسن أدبه، ما يموت إلا من وفاء سببه” .. “اضربه.. يقع رجال” .. “علموهم على سبع و أضربهم على عشر” .. ثم يزيد الحمل على كاهلك الصغير و الغض، بسلطة أخرى، هي سلطة الأستاذ أو المعلم..
– يضربك الأستاذ لأقل و أتفه خطاء، بعصى أو خيزران، في صباح صقيع، على بطن و ظهر كفك، و أحيانا يدعي أقرانك ليكبلوك، و يخمدوا قواك، بأيديهم و أرجلهم، ليفلك قاع قدميك، حتى يكاد الدم يتطاير من وجهك، و عروق عنقك، و قاع قدميك .. يضربك بقسوة تشبه الانتقام، بحضور ولائمي، و مشهد جماعي، دون أن يتفهم أسبابك، أو حتى يستمع لعذرك..
– و قبل أن تتحرر من سلطة الأب و سلطة المعلم، تداهمك سلطة قامعة ثالثة، تقتل أهلك، و تفتش دارك، و أنت لا زلت طفلا، أو دون البلوغ .. ثم تراقبك و تلاحقك و تتربص فيك، و تقمعك بقية حياتك، من أجل احتواءك، أو تدجينك، أو جلبك إلى عالم الطاعة و الخضوع..
– طالني قمع كبير لوقت طويل، لإرغامي على الولاء و الطاعة، و لأكون منقادا و تابعا و مطواعا “حسن السيرة و السلوك” .. بلا رأي و لا موقف و لا إرادة و لا حياة .. فيما كنت في المقابل، استميت في الاعتراض و الرفض المقاوم، و تأكيد ذاتي و استقلالي الجموح .. صراع خضته باكرا و لم ينته إلى اليوم..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.