في شارع المقاتلين .. الكتابة من حافة المعركة .. هكذا يصنعون الضحايا (الجزء الأول)
يمنات
ماجد زايد
كلّ إنسان مسؤول عن أيّ حرب كما لو أنّه هو الذي ساهم في اندلاعها. “سارتر”
رأيت كل شيء ، هذا هو المكان حيث جاؤوا وحيث ماتوا ، وصلته يومها وتجولت فيه برفقة أحد الأصدقاء ، مازالت أكوام الرصاصات الفارغة في مكانها ، لم يصل اليها الأطفال بعد ليقوموا بجمعها ، هنا بقايا الأحجار المدمرة حول الأشجار البائسة والكثير من المتارس المرصوصة بجوار بعضها ، هنا حدثت معركة ، وهنا مات الكثير من الشباب..
صرخ صديقي.. هيا بنا المكان هنا غير أمن ، لدينا ساعتين فقط للوصول اليهم ، كانت روحي شاردة بينما تشاهد أكوام التراب بقرب الجروف والحفر ، ترى كم ماتوا هنا ، وكم بكى شباب هنا حينما تذكروا أمهاتهم وأبناءهم !!
مآثر الحرب والدمار في الطريق أعاقت سيرنا ، تأخرنا وتعثرنا كثيراً بالمشي ، مررنا بويلات خلفتها القذائف والصواريخ ، دمار وقصف ورائحة البارود ، لم يعد للتراب أي رائحة ، أصبح متصخراً تسكنه الحشائش وبقايا الويلات ، ملامح الموت تغشى المكان ولا أصوات تأتي اليه أو تغادر منه.
هذه أول مرة أزور فيها مناطق الحرب ، يقول عنها صديقي.. أنا أخشى عليك لكنها رغبتك ، لنرى ما سيحدث .. لا شأن لي لو ساءت الأمور هذه براءتي ، لكني تأكدت من ترحيبهم بنا ، إبتسمت نحوه وداخلي لا يتوقف عن القلق ، ثم قلت له.. لا عليك يكفي أننا وصلنا الى هنا ، لا أحد بمقدوره معرفة كل التفاصيل بنفسه.
بقي القليل ونصل.. قال لي صديقي..
قرابة الساعتين ونحن نمشي بأقدامنا حتى منتصف الجبل ، الجروف وأكوام التراب والحفر وأثار القصف في كل جزء من المكان ، بعض الجروف أصبح غرفا للسكن، وبعضها مطابخ ، وأهمها متارس للقتال.
من أحد الجروف خرج علينا شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر ، رحب بنا بأطلالته البهية ، أهلا أهلا، أنتظرناكم كثيرا ، أين البقية ، سأله صديقي ، أشار بيده وقال هناك أعلى الجبل ، هيا أذاً لنكمل الطريق ، بقدمين حافيتين ومعوز حتى منتصف ساقيه تقدم أمامنا الشاب مسرعاً ، تجاوزت صديقي ومشيت بجواره ، أريد الحديث اليه خلال الطريق..أاهلا بك يا صديقي وشكراً لك على استقبالنا ، أنا ماجد وأنت ، أنا محمد ، من هذه المدينه أنت ، لا أنا من أب ، كم لك هنا ، قرابة الشهرين، ياااه مدة طويلة ، الآ تشتاق لأسرتك وأخوتك ، نعم لكني أجاهد ، هل تدرس ، نعم أتممت تاسع وغادرت في منتصف اول ثانوي ، لِم لَم تكمل دراستك ، مش وقتها الأن ، أحنا في حرب ، تهرب محمد من أسئلتي وأسرع في مشيته أمامنا ، ها قد وصلنا، يقول الشاب، المكان باردا جداً وواسعا ومخيف ، نحن الأن فوق أرض المعركة ، من هنا تشاهد الأرجاء وفي الليل ترى ما يذهلك أكثر ، في الناحية الأخرى توجد غرفة صغيرة أو “دشمة” خرج منها أربعة شباب يحملون بنادق وجعب ممتلئة بالرصاص ، شباب تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والعشرين وأحدهم عليه ملامح الخامسة والعشرين أو أكثر ومن هيئته يبدو أنه قائد المجموعة ، رحبوا بنا وأدخلونا الغرفة الصغيرة “الدشمة” ، قاموا بتنظيف مكانين لي ولصديقي ، كانت الساعة تشير الى الرابعة عصراً حيث الجميع يتعاطون القات ، جلسنا معهم وبدأ صديقي يشكرهم على إستقبالنا وحفاوتهم بنا.
هذه الحرب إفتعلت فينا كل شيء وأخذت منا كل شيء، ودمرت حتى قلوبنا، وجعلت من حياتنا لا شيء.. هكذا بدأت حديثي معهم متعمداً .
أجاب عني الشاب أشرف وهو أكبرهم وقائدهم ، يقول أشرف هذه الحرب فُرضت علينا، ولو لم نحارب عن أنفسنا لجاؤوا لقتلنا حتى بيوتنا ، شاب أخر بجواره تحدث وقال أيه والله أن احنا ندافع عن أنفسنا وديننا ووطننا ، سألهم صديقي.. الآ تشتاقون لحياتكم القديمة ، أجاب عليه الشاب الأخير ، صحيح نحن نشتاق لحياتنا وأصدقائنا ومدارسنا لكنا هنا في جهاد ، والجهاد ضرورة حتمية للذود عن الدين والعرض والوطن.
على جدران الدشمة يوجد الكثير من الفتحات والصور المعلقة ، الشقوق أو الفتحات هي للمراقبة وإذا لزم الأمر لضرب النار، والصور لشهداء كانوا في ذات المكان وماتوا فيه ، أستدركت الحديث بالسؤال هل تتذكرون أصدقاءكم هؤلاء ، وكيف أستشهدوا، يقول أشرف نعم نتذكرهم ونتمنى اللحاق بهم ، هؤلاء المجاهدين عليهم السلام الأن في الجنة.. قاطعته .. أخبرني كيف ماتوا وهم في ريعان شبابهم ، يتفطر القلب عليهم من مجرد النظر في صورهم مع أني لا أعرفهم ، كيف بأهلهم وأمهاتهم وأصدقائهم ، أجاب أحدهم ، هذا وهذا ماتوا بالقصف قبل شهرين ، بينما كانوا يتناولون الغداء طالهم قصف واستشهدوا ، بحثنا لساعات عن بقايا أجسادهم ، تمزقوا وأحترقوا كثيراً ، حملنا ما تبقى من أجسادهم الى أهلهم ، الله الله كيف حدث بنا يومها ، يتحدث الشاب وفي عينيه عبرة من الموت والخوف ، غصة تقول لم يجنوا شيئا ليقتلوا بذلك الشكل ، محمد شاب بهي يحمل بندقية ويرتدي ملابساً رثة وشعره الكثيف يغطي أجزاءا من وجهه، سألته ماذا لو كنت أنت من طاله القصف وتمزق جسده وأصبح صورة في حائط المعركة ، كابر محمد أمام رفاقه وقال ، الشهادة أمنيتنا جميعاً ، قاطعته وقلت دعني أتكلم عن الأمر بطريقة أخرى ، هل فكرت بوالدتك وأخوتك ، بوالدك المسكين ، لماذا أنتم لا تفكرون بمشاعر من يحبوكم ، لماذا أنتم لا تبالون بالأخرين ، يقول محمد ، الحاجة يا أخي جعلتنا نقاتل عن أنفسنا ، هم من جاء لقتالنا، لقد قتلوا أخي أيضا، لا أحد مع أسرتي الأن ، أبي توفي قبل زمن بعيد ، أنا هنا أنتقم وأدافع وأحصل على راتب جندي أصرفه على بيتنا ، قاطعه أشرف، ومن أسلوبه ونظراته وتعاطيه معنا يبدو أنه تنظيمياً وإيديولوجياً أرفع من البقية ، قال الحرب للرجال ولا أحد يموت دون أجله ، الحرب والتضحيه والوطن ومصطلحات الطبول المقروعة ، هذه خطابات رنانة تلقى لقطيع الجنود قبل المعركة.
إستمر الشاب في حديته وانا أستمع وأفكر وأتامل ، هذا الشاب ذكي بطريقة حديثه ، وشخصيته ذات بعد كاريزماتي ، شخصية حيكت جيداً ، أمثال هذا الشاب مهمتهم يتلاعبون كثيرا بالأفكار والكلمات ويحشدون عقول المقاتلين عقائديا ، هؤلاء يستطيعون التأثير وزرع العقائد وصناعة الشباب المفخخين ، هذا النوع يمتاز بدهاء وثقافة ووعي ورعاية وتأهيل تنظيمي من سنوات عمره الاولى، يسمى أمثاله أبن التنظيم.
دعوني أخبركم عن مجمل أفكاره بطريقتي وردودي عليه.
تتمحور أطروحاته حول الفرد عندما يقاتل في سبيل فرضية الوطن ملتحقاً بالمعركة ومضحياً لقيادتها بنفسه، المقاتل العقائدي يثبت استعداده لتخطي القيم الماديّة المتناهية (الملكيّة الخاصّة، الثروة، الأسرة…) متجاوزا مصالح المجتمع المدني الضيّقة من أجل أن يلتحم بغيره من المواطنين ليشاركهم في تحقيق هدف أسمى هو بقاء الدولة. الدولة التي يدعي الجميع أحقيتهم فيها، تبرهن مببراتهم للحرب أنّ ما يؤمن به الفرد وقت السلم من أشياء مادية وقيم دنيوية ورغبات جسدية هي قيم فانية وأشياء زائلة ومتناهية وأن القيم الروحية والرغبات المطلقة والأفكار المثالية التي تبقى وتتأبد لا تظهر إلاّ وقت الشدائد. تؤكد أفكاره أنّ الأشياء المادية زائلة وعابرة وأن العالم الشخصي ضيق ومحدود. الملكية الفرديّة أو الأنا تتزعزع وتُعرض أنانية الإنسان ومصالحه الضيّقة للخطر وتثبت أن المصير المحتوم لكلّ ما هو جزئي هو الفناء والاضمحلال. فترفع الفرد من وضع العالم الخاصّ إلى موقف أعلى، هو الخلود الدائم في الجنة. وبالطبع الجنة التي يدعي الجميع أحقيتهم لها.
هؤلاء الأفراد المنتمون عقائدياً للتنظيمات يقفون موقف اللاّمبلاة من الوجود العرضي والمؤسسات المتناهية بينما تدعي انها تعالج تفاهات الحياة الزمانية وتكشف عابرية القيم المادية وكذبوية المشاعر الانسانية سواء الحب او الكره او الحزن والأشواق. هي عندما تمر بمجتمع معين تبرز تماسك أفراده وتضامن أسره وقوّة علاقاته وصلابة طبقاته واستعدادها للتضحية بمصالحهم الشخصيّة. علاوة على ذلك تبقى الحرب على طبيعة الملكيّة كشيء خارجي إضطراري يرتبط بالذات الفرديّة الباحثة عن إحتواء عقائدي وجودي. كاشفة تفاهة الحياة نفسها. هذه الأفكار تبين مخاطر السلم الذي يدفع المجتمع المدنيّ إلى تدعيم نفسه بجعل الثروة والملكيّة الخاصّة هي الهدف الأسمى. فيصاب بالترهّل والتخمة والوهن. فتأتي الحرب والقادة ليتمكّن المجتمع من استعادة عافيته الأخلاقيّة. الحرب تعالج، على نحو جادّ، تفاهة المصطلحات الزمانية المادية والأشياء العابرة. السلام والتعايش في نظرهم تفاهة كانت في أوقات أخرى موضوعا شائعا للمواعظ المنمقة. فللحرب ذلك المغزى الرفيع.إذ بفاعليّتها حافظ الشعب على صحته الأخلاقية وأستعاد دينه وهويته ومكانته بين الدول.
تحدث كثيراً هذا الشاب وانا أستمع ، كانه يقدس الحرب ، أخافتني أفكار حديثه المليء بفلسفة متصنعة لكنها مبنية على أشلاء شباب عابرون ومستقبل شعب بأكمله ، شعب لن تؤسس له الحرب دوله وكيان ، ولن تنتج عنها طرف وحيد متماسك وقوي يحكم الجميع بأحقية القوة ، سيبقى الوطن مشتتاً ومقسماً على الجميع ، ولن تقوم له قائمة حتى الأبد طالما هناك من يقدس الحرب وأفكارها، وهذا في الأساس ما ترغب به الأطراف الخارجية الممولة للحرب بأطرافها الداخلية في ذات الوطن الواحد.
أمامي عدة نواحي للرد عليه، وبالفعل أخذ النقاش بيننا منحاً أخر ، إقتنع الشباب الأخرين بالكثير من الردود ، وبقي أبن التنظيم هائجاً هنا وهناك، لا يدري كيف يبرر أو كيف يبرر النهاية.
فيما يتعلق بفكرة السلم والسلام، الحقّ المدني وحق الشعوب…يتطور باتجاه السلام الدائم الذي يستطيع البشر أن يعِدوا أنفسهم به بشرط واحد هو أن يستمرّوا في التقارب. والحقّ أنّ الأمل في السلام كان يراود الإنسان منذ أقدم العصور وكان الشوق إلى تحقيقه عامّا وعارما بين البشر. وساهمت فيه الأساطير والأديان والفلسفات. لقد كان إله الحرب “أرز” عند الإغريق تحت مراقبة إله السلم “ايرنز “. كما أن أول معاهدة سلام في التاريخ هي تلك التي وقّعها فرعون مصر رمسيس الثاني وحيتيثار ملك الحيثيين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إضافة إلى أن النصوص الدييية التي تدعو إلى السلام جاءت لتنسخ النصوص التي تدعو إلى القتال.
ففي القرآن جاءت آيات الحرب والسلم من الآيات المتشابهات. فنحن نجد آيات تدعو إلى الجهاد والقتال مثل قوله تعالى في الآية: “قاتلوا المشركين كافّة”، وفي الآية : “قاتلوا أولياء الشيطان”. ولكنّه عز وجلّ ربط الحرب بعدة شروط منها منع اندلاع الفتنة في الآية من سورة الأنفال: “قاتلوهم حتى لا تكون فتنة”, وفي حالة الدفاع عن النفس ورد الاعتداء في سورة البقرة: “قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا”, وقد ذكر القتال وهو شيء منفر مكروه: “كتب عليكم القتال وهو كره لكم”. بيد أنّ الإسلام الحنيف يجبّ ما قبله ويدعو إلى الإخاء واللّين والرفق واليسر والسماحة ويشرعِن حقّ الاختلاف وحرية المعتقد ويدعو إلى التدافع والتكاتف وإلى السلام,إذ يقول تعالى في الآية من سورة البقرة: “يا أيّها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة”, ويقول عزّ وجلّ في الآية من سورة الأنفال: “وإن جنحوا إلى السلم فاجنح لها”.
نفس الأمر يتبيّن لنا عندما نعود إلى المسيحية، فقد نادى بولس الرسول أهالي كورنثوس قائلا: “سالموا جميع الناس” لأنّ “المحبّة هي تكميل الناموس” و”البشر أسرة واحدة فقد عمدنا جميعا روحا واحدة لنؤلف جميعا جسما واحدا ينتظم اليونانيين والعبيد والأحرار.” وهذه الرسالة جاءت لتنسخ ما ذكر في إنجيل لوقا عن السيّد المسيح: “لا تظنّوا أنّي جئت لألقي سلاما على الأرض ما جئت لألقي سلاما بل سيفا…جئت لألقي نارا على الأرض…أتظنّون أنّي جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلاّ أقول لكم…دع من لا يملك سيفا يبيع ثوبه ويشتري سيفا.” .
أمّا في الفلسفة فقد دعا الرواقيون منذ أقدم العصور إلى تحرير البشرية مما يكون سبب تنازعها واختلافها من فروق اللغات والأديان والأوطان. ونظروا إلى الناس جميعا وكأنّهم أسرة واحدة يحكمها قانون العقل المستقيم وتسيّرها الأخلاق الطبيعيّة. وفي القرن السادس عشر هاجم إيرازم الحرب ووصفها بأنّها انتحار جماعيّ في كتابه: “الإنسانيّة ضدّ الحرب” ودعا كلّ إنسان إلى بذل أقصى جهد من أجل إيقافها أينما اندلعت لتعارضها مع المبدأ الذي خلق من أجله الإنسان. فالإنسان لم يخلق من أجل الدمار والهدم والخراب بل من أجل المحبّة والصداقة وخدمة غيره من البشر.
يتبع…
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.