ارشيف الذاكرة .. قصتي مع القات .. أنا والمجنون
يمنات
أحمد سيف حاشد
زميلي العزيز صالح عبد الله، و المشهور باسم “الشرعية”، من محافظة أبين، و كان يومها رئيسا للنيابة العسكرية في المنطقة الشرقية، و التي يشمل نطاق اختصاصها محافظتي حضرموت و المهرة، فاجأني بزيارته المباغتة لي، و ذلك بغرض المقيل معي .. لم أكن قد أعتدت تعاطي القات بعد، بل لا زالت في تلك المرحلة أعيش قرفي منه، و لا أتعاطاه إلا مضطرا، و زميلي هذا قادم من بعيد، و اللقاء معه ذو شجون، و رأيت أن ما يحمله من أخبار المحافظات البعيدة يستحق المقيل .. كما أن فترة غيابه عنّي و التي امتدت لشهور، و هو عز الصديق، تستحق مني كثير من الاهتمام و الحفاوة، فضلا عن تعاطي القات .. أحسست بسعادة أن ألتقي به بعد غياب، و أمضغ معه وريقات القات، و لم أشاء أن أتقاسم معه قاته أو فائضه.. هرعت إلى السوق القريب لشراء القات..
كنت يومها أقيم في منزل واقع بين نهاية شارع “مازدا” و سور الهيئة العامة للمياه، المجاورة لسلاح الصيانة في “الحصبة” .. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة بعد العصر .. هرعت مسرعا إلى رأس شارع “مازدا” لأشتري القات، غير أن القات كان قد نفذ، و البائعون قد غادروا المكان .. و لكنني شاهدت رجل قاعد في زاوية من الرصيف في “الجولة التي يباع فيها القات .. خلته من بائعي القات .. قلت لنفسي إن القدر لا يريد أن يخذلني مع ضيفي، أو يعيدني من السوق خالي الوفاض..
شاهدت أمام الرجل كيس نايلون محشوا بأوراق القات .. و لظني أنه أحد بائعي القات اتجهت نحوه، و قد أحسست أنني لن أعود من السوق بخيبتي مكسورا، بل شعرت أن لي في الحظ بقية..
قعدت أمامه و قلت له: بكم هذا القات يا حاج..؟!
فأجاب: بسبعين ريال..
لم أفكر بمساومته .. السعر استثنائي بكل المقاييس .. و القات في تلك الساعة المتأخرة لا يوجد عند رجل آخر غيره .. شعرت إن الرجل أنقذني من إحراج صديقي، و جنبني مقاسمة قات ضيفي، و أخرجني من ورطة العودة بخفي حنين .. أحسست بالامتنان للرجل .. أعطيته مائة ريال .. و استدركت بالقول له: الباقي على شأنك، و كان قد دسّها في جيبه، دون أن يهتم بإعادة أي شيء..
أجفلت راضيا عن البائع .. لم أكن أعلم أنه مجنونا، و أن كيس القات الذي أمامه، إنما هو نفايات و توالف قات لا يُشترى و لا يُمضغ، و غير صالح للاستخدام الآدمي، بل و ربما تعافه أيضا الغنم و تأبى أن تأكله .. أوراق قات متهالكة و تالفة، و بعضها قاسي و يُستصعب مضغه .. أوراق قات لفلفها الرجل من أمكنة بيع القات و زوايا و حواف الرصيف .. بعض الأوراق ربما مرت عليه الأقدام و الأحذية .. حشاها في الكيس، و تعاطى منه، و جلب له الحظ زبون طيب، ليشتري منه و يمتن له..
بدأنا المقيل أنا و زميلي .. لأول وهلة لفت كبر كيس القات نظر زميلي، و لكنه أحجم عن الفضول و السؤال تأدبا و تحاشيا لإحراجي .. بدأت بإخراج بعض أوراق القات من الكيس .. كانت أوراق مفلطحة و عريضة .. بعضها مهترئ، و بعضها قاسي و سميك و متسخ .. كنت أضع الورقة على فخضي، و أمسحها براحة يدي، ثم أعطفها أربعا أو خمسا، قبل أن أحشيها في فمي .. أول مرة أشعر إن ذلك القات يستقر في فمي وقت أطول قبل أن يغادر إلى بلعومي و معدتي..
ذكرني مشهد ما أفعله، برجل في “طور الباحة” كان معه جمل، كان الرجل يقوم بتعطيف أورق شجر الموز و أحيانا زرع ذو أوراق عريضة، حتى يصيرها بشكل عصبة صغيرة، ثم يحشيها في فم الجمل .. نعم .. إنه تشبيه مع الفارق .. و الفارق أنني كنت أعتمد على نفسي، فأنا من يعطف الورق و أحشيها في فمي، دون مساعدة أحد..
صديقي بدأ يلحظ أن ما أفعله غير طبيعي، و بدأ يشعر بحالة احتدام داخلي مع فضوله و إحراج اللحظة، فيما كنت أنا أتصرف على نحو بارد و غير مبالي، و لا يبدو عليّ أي استغراب أو دهشة و كأنني أمتحن أعصاب زميلي .. حاشا أن أفعل هذا، و لكن جرت الأمور على ذلك النحو دون علمي و إدراكي أن طريقتي و ما أفعله كان مستفزا..
بدأت أعثر في كيس القات على ربلات و مرابط .. أغطية متهتكة لقناني مياه معدنية .. كنت ما أجده أرميه على الأرض دون مبالاة، و استأنفت مضغ القات، فيما كان صديقي يعاني و يغتلي في جواري، و لم يعد يستطع أن يتمالك أعصابه، أو يمنع فضوله من التدخل و السؤال .. كل شيء كان يحدث يثيره و يستفزه .. ما أخرجه من الكيس من توالف و بقايا أشياء كان يشد الانتباه و النظر دون أن أحاول مداراة ما أفعله، ابتداء من إخراج أوراق القات من الكيس، و رمي ما أصادفه من أشياء في كيس القات، و طريقتي في التعاطي مع كل ذلك، و التي لا تخلوا من براءة و تلقائية، و أكثر من ذلك هدوئي و عدم مبالاتي و طريقة تنظيفي لأوراق القات، و تعطيفها، قبل أن أحشيها في فمي..
بعد معاناة زميلي مما يحدث، لم يستطع حبس فضوله أكثر، و أفلت سؤاله عن لجامه بعد صبر ثقيل:
– بكم اشتريت القات..؟!!
فأجبته: هو طلب سبعين ريال، و أنا أعطيته مائة ريال .. ما كان باقي قات في “المقوت” إلا عنده .. السعر و الله “عرطه” .. ما كان يطفح صديقي أنني أتحدث بتلقائية و بساطة، و دون تكلّف أو مراعاة لأصول المقيل و لضيفي الذي فاض به الكيل دون أن أعلم..
لم يتحمل صديقي مزيدا من الإطراء على بايع القات و سعره و “العرطة” التي ظفرت بها منه، لقد نفذ صبره و فاض تحمّله و صار كبح فضوله غير ممكن؛ فخطف من أمامي كيس القات، و أخذ يفتش في داخله بيده و أصابعه .. و يخرج أشياء و مخلفات و قراطيس و أغطية، و في كل مرة يخرج شيئا من الكيس كان يردد: “الله الله .. الله الله” و يرمي به، ثم رمى بالكيس بما فيه إلى باب غرفة مقيلنا، و هو يقول: كل شيء موجود في الكيس .. ما عاد شيء إلا الحنشان .. ثم قسم قاته، و حلف يمين أن لا أخزن إلا من قاته .. فبريت بيمينه و تجنبت سجاله، غير أن ذلك لم يمنع من قهقهتي بين حين و آخر بعد أن بدأت أدرك سوء ما فعلت..
بعد يومين مررت أنا و صديقي في رصيف الشارع الذي يباع فيه القات، و شاهدت الرجل الذي باع لي القات، شهقت ثم قلت: هذا الذي باع لي القات .. هذا الذي باع لي القات..!!
فرد صديقي: هذا مجنون..!! ما تشوف القراطيس الذي فوق رأسه..!! كان رأسه معصوبا بقراطيس نايلون ملونة و مرابط أخرى..
فقلت لصديقي: يا أخي أنا أصلا ما كنت مركّز على رأس الرجال .. أنا كنت مركّز على القات..
فانطلقت قهقهتنا رغم إرادتنا كصوت رشاش، استرعت انتباه المارة .. ألتفت البعض إلى مصدر الصوت مستغربا، و منهم من توقف لبرهة..
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.