ارشيف الذاكرة .. حكايتي مع الاشباح .. الشبح الذي أعترض طريقي
يمنات
أحمد سيف حاشد
• في نهاية سنة أولى على الأرجح من مرحلة الثانوية، سافرت من عدن عائدا إلى القرية عن طريق منطقة “شعب” التي كنّا نرخي فيها الرحال لبعض الوقت لنستريح حتى يأتي الغلس، ثم ننتقل منها إلى قريتنا البعيدة عبر طرق تحتال على نقاط أمن الشمال..
• كانت هناك مزاعم قديمة في ذهني من أيام الطفولة الأولى تحكي أن المنطقة الخالية من السكان في “موجران” تحت الدار الأبيض من جهة الشرق، مسكونة بالأشباح والعفاريت، وقد كان لي في هذا المكان حكاية..
• كان الغلس قد دخل أوجه، وكنت حينها أحمل بيدي مسدسا نوع “تاتا” روسي الصنع، معمرا وجاهزا لإطلاق النار، والتعامل مع أي مفاجأة أو طارئ قد يعترض طريقي في ذلك المكان أو في غيره من أمكنة الطريق.. كان المسدس يعطيني شعورا بقدر من الأمان والثقة الكبيرة بالنفس حتى مع الأشباح التي بات اعتقادي بوجودها يتضاءل، أو صارت معتقداتي بها أقل حدة بكثير من تلك التي كانت تعيش في ذهني أيام طفولتي الأولى..
• فجأة وفي المكان الخالي والتي تكثر فيه مزاعم الأشباح والعفاريت، شاهدت شيئا أسودا.. مميزا يشبه الشبح ظل يكبر.. شبح أكثر سوادا مما حوله.. بدأ لي جسما ضخما يقارب حجم الفيل.. يتوسط الطريق وكأنه جاهزا لاعتراض طريقي، بل أحسست أني وطريقي بتنا مُستهدفين منه..
• أردت أن أنحو نحو اليمين بعيدا عن هذا الذي أشاهده وسط الطريق ملتبسا في الظلام، متجنبا الصدام معه على افتراض وجوده.. تنحيت يمينا في محاذاة الجبل، ولكني شاهدته ينحو معي نحو اليمين، عدت المحاولة على نحو معاكس، في الاتجاه الآخر نحو اليسار، فوجدته أيضا ينحو معي في المقابل نحو اليسار.. إنه يعترض طريقي أينما ملت..
• توجست أكثر وقلت لنفسي: يبدو هذا الشبح الضخم لا يريد لي المرور من ذلك المكان، ولكن لا طريق سواه.. لا معبر الآن غيره ممكن ومتاح.. التقهقر والعودة إلى الوراء من حيث أتيت عار وعيب إلى آخر العمر وبعده.. ماذا أقول لمن أعود إليهم؟! هل أقول عفريت أعترض طريقي؟! هل أقول لهم شبح ردّني من وسط الطريق؟! هل أقول لهم أنني رعديد، أو صرت خائفا وجبانا؟! ثم حتى إن عدت لأبحث عن مسلك آخر بعيد، أظل أمام نفسي جبانا ورعديد.. وأجيب على نفسي بحزم وتحدّي: لن أعود مهما بلغت كلفة المرور..
ثم أن خزنة المسدس محشوة بالرصاص، ورصاصة واحدة قادرة أن تقتل فيل أو على الأقل أن تعوقه.. فما البال والمسدس في خزنته ثمان طلقات، والتاسعة في بطن المسدس، جاهزات للانطلاق، تنتظر ضغطة بسيطة على الزناد، ومتابعة الاطلاق..
• يجب أن أتقدم إلى الأمام ويكون ما يكون.. لا خيار لي إلا التقدم في مواجهة هذا الشبح المريب في مقصده.. أخذت أتقدم نحوه مع وضع من الانحناء والجاهزية لإطلاق الرصاص.. أتقدم رويدا رويدا.. لا تخلوا خطواتي من بعض المخاتلة، ولكن مع التقدم إلى الأمام نحو الذي كان قد تبدّى ضخما ومرعبا..
• سبابتي معقوفة بجاهزية تامة على الزناد.. بدت لي مشحونة بإرادة الضغط في حالة اصطدامي بأي هول أو مفاجأة.. أرسل وعيي إشاراته إلى أعصابي كلها، بما فيها يدي وسبابتي الجاهزة للضغط على “المقص”..
• برمجتي العصبية باتت تسري في كل أوصالي، وبثقة إنها لن تخذلني مهما كان هول المفاجأة.. صرت جاهزا وواثقا من مسدسي وبرمجتي العصبية التي تسكن مربض سهامها في أصبعي المعقوفة على الزناد، والجاهزة لإطلاق النار على الفور.
• تقدمت إلى الأمام في وضعية منحنية ومتسللا نحو ذلك الشيء الملتبس لاكتشف ماهيته.. أصبعي على الزناد تتحين لحظة الضغط، والمسدس المسدد إلى الشبح في وضعية الجاهزية الكاملة لإطلاق الرصاص في أي لحظة..
• تقدمت أكثر وأكثر.. اقتربت ودنيت من الشبح، وعندما صرت قريبا منه، وعلى شفق خفيف تفاجأت على نحو غير ما توقعت.. اكتشفت إنها نخلة متوسطة الحجم، وريح خفيفة تحرك سعفها، وبالتباسها بالظلام وبقايا الوهم القديم الذي سمعته عن المكان بدت لي كشبح يميل يمينا ويسارا حتى توهمت أنه قاصدا اعتراض طريقي ومنعي من المرور، أو تحمل النتائج في حال اصراري على هذا المرور..
• أنكشف كل شيء وتبدد كل وهم، وأولهما وهمي ومخاوفي.. تنفست الصعداء وأنا أضحك من نفسي على نفسي.. ونصحت من حكيت لهم قصتي أن يتغلبوا على خوفهم ووهمهم، ويتغلبوا على الأشباح التي تعترض طريقهم حتى بدون مسدس أو سلاح..
يتبع..