حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل
يمنات
القاضي عرفات جعفر
الواقعة:
تم اعتقال القاضي/ عبدالوهاب قطران واقتحام مسكنه وتفتيشه بتاريخ 2024/1/2 م بحسب المعلومات المتداولة ، ثم صدر إذن مجلس القضاء (صنعاء) بالتحقيق معه بتاريخ 2024/2/1، أي إن صدور الإذن بالتحقيق كان لاحقاً على اعتقاله وتفتيش منزله بأربعين يوماً، وهذه القضية تثير عدداً من التساؤلات أهمها:
ما مصير إجراءات القبض على القاضي قطران وتفتيش منزله التي تمت قبل صدور الإذن بالتحقيق معه؟ وهل صدور الإذن لاحقاً يصحح الإجراءات الماسة بحرية القاضي قطران وحرمة مسكنه هذا على فرض أن النيابة العامة هي التي أصدرت أوامر القبض والحبس والتفتيش؟ وهل يصح صدور الإذن باتخاذ إجراءات التحقيق مع القاضي قطران دون تحديد للواقعة محل الاتهام؟ وما نوع الاتهام المنسوب إليه الذي أجيز معه رفع الحصانة عنه؟ وهل يكفي الاذن بمباشرة التحقيق معه لرفع الدعوى الجزائية عليه؟ وهل قُبض على القاضي قطران متلبسا بجريمة حتى أبيح القبض عليه وحبسه دون صدور الإذن؟ وما طبيعة القواعد المقررة لحصانة القاضي/ عبدالوهاب قطران، وما الأثر المترتب على مخالفتها؟ وما دور مجلس القضاء في حماية حصانة منسبيه؟ يذود عن حصاة القضاة أم يحلل ويبيح الاعتداء عليها؟
وللإجابة عن التساؤلات المطروحة يمكن القول: إن التشريعات الإجرائية تقرر قواعد خاصةً لاتهام أعضاء السلطة القضائية، تتمثل في حظر التحقيق معهم أو رفع الدعوى الجزائية عليهم إلا بعد صدور إذنٍ عن مجلس القضاء الذي يتبعونه، وليس هذا فقط، بل لقد استلزمت تلك التشريعات أن ترفع الدعوى الجزائية على أعضاء السلطة القضائية أمام محكمةٍ غير المحكمة التي يشتغلون بها، وهذا ما نص عليه المُشرِّع اليمني في المادة (25) أ.ج بقوله:” لا يجوز رفع الدعوى الجزائية على القضاة وأعضاء النيابة العامة إلا بإذن من مجلس القضاء الأعلى بناءً على طلب النائب العام مع إخطار وزير العدل، ويعين المجلس المحكمة التي تتولى محاكمة القضاة وأعضاء النيابة العامة”.
وفي المادتين ( 87 ، 88) من قانون السلطة القضائية، فقد نصت المادة (87) على أنه: “في غير حالة التلبس لا يجوز القبض على القاضي او حبسه احتياطيا الا بعد الحصول على اذن من مجلس القضاء الاعلى ويجب على وزير العدل عند القبض على القاضي في حالة التلبس او حبسه ان يرفع الامر فورا الى رئيس مجلس القضاء الاعلى لياذن باستمرار حبسه او يامر باخلاء سبيله بضمان او بغير ضمان” ، ونصت المادة (88) على أنه: ” لا يجوز رفع الدعوى الجزائية على القضاة الا باذن من مجلس القضاء الاعلى بناء على طلب النائب العام ويعين مجلس القضاء الاعلى المحكمة التي تتولى محاكمة القاضي”
ويعرَّف الإذن عموماً بأنه: الموافقة على طلبٍ تتقدم به سلطة التحقيق لاتخاذ الإجراءات الجزائية ضد شخصٍ تابعٍ لجهةٍ معينةٍ علق القانون مباشرتها على موافقتها، فهو عملٌ إجرائيٌ يصدر عن إحدى هيئات الدولة للسماح بتحريك الدعوى الجنائية ضد المتهمين الذين ينتمون إليها، وقِيل هو: وبذلك يتضح أن الإذن لا يتضمن المطالبة برفع الدعوى الجزائية ضد القاضي، وإنما هو مجرد إجراءٍ سلبيٍ مضمونه عدم المعارضة في اتخاذ الإجراءات ضده، وينطوي على إقرارٍ من الجهة التي يصدر عنها بأنها لا ترى في هذه الإجراءات كيدًا أو تعسفًا.
ويترتب على صدور الإذن رفع القيد الذي يغل يد النيابة العامة في استعمال الدعوى الجزائية، وتعود لها كامل حريتها في مباشرة إجراءات التحقيق ورفع الدعوى، بل لها أن تتصرف في التحقيق وفقاً لسلطتها التقديرية في حدود الوقائع والمتهمين.
ويجب أن يصدر الإذن مكتوباً، ومحدداً به شخص المتهم والواقعة المسندة إليه، ذلك أن الإذن بطبيعته شخصيٌ، إذ يقتصر أثره على الشخص المذكور به باسمه وصفته ولا ينصرف إلى غيره ممن له حصانةٌ؛ ونتيجةً لذلك عند تعدد المتهمين في الجريمة من أصحاب الحصانات فإن صدور الإذن برفع الدعوى ضد أحدهم لا يعتبر إذناً برفعها ضد الباقين فلا يجوز رفع الدعوى الجزائية عليهم إلا بالحصول عليه، إذ لا تسري في أحوال الإذن القاعدة الخاصة بتعدد المتهمين، وإنما يشترط صدور إذنٍ بالنسبة إلى كل مساهمٍ في الجريمة مادام متمتعًا بالحصانة.
كما أن الاذن عيني الأثر فتتقيد النيابة العامة بالواقعة التي صدر بشأنها الإذن، فلا يجوز لها أن تباشر إجراءات التحقيق في واقعةٍ أخرى قِبَل القاضي المتهم ذاته الذي صدر الإذن بحقه، بل يلزم لذلك صدور إذنٍ جديدٍ بشأنها، وقد ذهب الفقه إلى أن صدور إذنٍ برفع الدعوى الجزائية على قاضٍ لارتكابه واقعةً معينةً لا يجيز للنيابة العامة رفع الدعوى عن واقعةٍ أخرى ظهرت من خلال التحقيق، وهذا يقتضي أن يتضمن طلب استصدار الاذن التهمة المسندة للقاضي، وأن تحدد أيضاً في الإذن الصادر بالتحقيق معه.
والمقرر قانوناً: أنه يمتنع رفع الدعوى الجزائية على القاضي قبل صدور الإذن، وإذا رُفعت قبل صدوره وجب الحكم بعدم قبولها، وهو حكمٌ إجرائيٌ لا يحوز حجيةً تمنع معاودة رفع الدعوى ثانيةً، إذ يجوز للنيابة العامة إعادة رفعها إلى القضاء بعد استيفاء الإذن؛ لأن المشرع لم ينص على مدةٍ محددةٍ يلزم صدوره فيها، ولا يجوز للمحكمة إرجاء النظر في الدعوى حتى يُبتَّ في طلب الإذن، وإذا صدر الإذن بعد رفع الدعوى فإن ذلك لا يعفي المحكمة من الحكم بعدم قبولها.
وصدوره الإذن لاحقاً لا يصحح ما سبقه من إجراءات التحقيق والرفع الباطلة.
وموجز القول: أن جزاء رفع الدعوى الجزائية دون استيفاء الإذن هو الحكم بعدم قبولها.
ونظراً لأهمية الإذن يتعين على النيابة العامة في حال عدم صدوره التوقف عن رفع الدعوى، وإنهاء إجراءات التحقيق حال مباشرته بإصدار قرارٍ بألا وجهٍ لإقامة الدعوى لعدم جواز رفعها لعدم صدور الإذن عملاً بحكم الفقرة (و) من المادة (263) من تعليمات النيابة العامة.
وهنا أطرح التساؤل الآتي: هل يجوز التنازل عن شرط الإذن الذي يتطلبه القانون؟ بتعبيرٍ آخر هل القبول باتخاذ أي إجراءٍ من إجراءات الدعوى الجزائية بغير الحصول مسبقًا على الإذن يجعل الإجراء صحيحًا لا يشوبه البطلانٍ؟ والإجابة عن هذا السؤال ترتبط بالغاية التي من أجلها اشترط القانون الحصول على إذنٍ سابقٍ، فإذا كانت مصلحةً عامةً، فهو لا شك من الإجراءات المتعلقة بالنظام العام، وتبعًا لذلك لا يجوز التنازل عنه إما إذا كان الغرض من الإذن هو رعاية مصلحةٍ خاصةٍ للشخص فيكون له أن يتنازل عن شرط الإذن، ولما كانت الغاية من اشتراط الاذن هي الاطمئنان إلى مباشرة القاضي أو عضو مجلس النواب للواجب الملقى على عاتقه دون مؤثرٍ في إرادته، فإن واجبه في أيٍ من الصورتين تخص المجتمع دون شخصه، ومن ثم فهو يتعلق بالنظام العام فلا يجوز التنازل عن ذلك الشرط، ولا يصحح الرضا الإجراء الباطل.
وقد اعتبر المُشرِّع اليمني إذن مجلس القضاء الأعلى قيدًا على رفع الدعوى الجزائية إذا كان المتهم فيها قاضيًا أو عضوًا من أعضاء النيابة العامة، ونظرًا لكونه كذلك فإنه لا يعد قيدًا يمنع تحريك الدعوى الجزائية فيجوز للنيابة العامة تحريكها باتخاذ إجراءات التحقيق غير الماسَّة بشخص القاضي (المتهم) كالمعاينة وسماع الشهود وندب الخبراء قبل الحصول على الإذن بها من مجلس القضاء الأعلى، ونتيجة ًلكونه قيدٌ على رفع الدعوى الجزائية فلا يكفي لتحقق هذا الشرط أن يأذن مجلس القضاء الأعلى بمباشرة إجراءات التحقيق معه، بل يجب صدور إذنٍ خاصٍ برفعها، وهذا ما يجرى عليه العمل، انظر قراري مجلس القضاء الأعلى بشأن الاتهام الموجه لأحد القضاة، حيث كان القرار الأول برقم (13) وتاريخ 2004/7/10 م متضمنًا رفع الحصانة والإحالة إلى النيابة العامة للتحقيق وتحريك الدعوى الجزائية، وأعقبه القرار الثاني برقم (18) وتاريخ 18/ 7/ 2004 م متضمنًا تعيين المحكمة الجزائية المتخصصة بصنعاء لمحاكمته.
أن الإذن يعتبر شرطًا لرفع الدعوى الجزائية بصورةٍ مطلقةٍ إذا كان المتهم فيها أحد منتسبي السلطة القضائية ويترتب على ذلك اشتراط صدوره لرفع الدعوى الجزائية في كافة الأحوال ولو ضُبطت الجريمة بحالة تلبسٍ.
فيما لو كان المتهم قاضيًا – أو عضو نيابةٍ – فيشترط صدور إذنٍ برفع الدعوى الجزائية عليه وإن سبق صدوره بمباشرة إجراءات التحقيق ضده.
صدور إذن مجلس القضاء الأعلى: الإذن برفع الدعوى الجزائية على أعضاء السلطة القضائية يصدر عن مجلس القضاء الأعلى بناءً على طلب النائب العام، وهذا الطلب هو الذي يدخل الدعوى في حوزته، وهو إجراءٌ اختِص به وحده اختصاصاً ذاتياً، ولا يجوز لمجلس القضاء الأعلى إصدار الإذن إلا بعد تقديمه، ولا يتقيّد النائب العام بالطلب المقدم إليه من سلطة التحقيق لكي يقدم طلباً إلى مجلس القضاء باتخاذ إجراءٍ معينٍ قبل القاضي، وإذا صدر الإذن فإن أثره يقتصر على شخص من صدر بشأنه، وعلى الواقعة التي صدر لأجلها، فإذا تبين من التحقيق وقائع جديدةٌ أو ظهرت أدلةٌ تفيد اشتراك قاضٍ آخر في الواقعة محل الإذن تعين صدور إذنٍ خاصٍ به.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن صدور إذن مجلس القضاء الأعلى يخضع لرقابة القضاء، فللمحكمة التي تنظر الدعوى الجزائية المرفوعة على القاضي أن تقرر بطلانه إذا صدر عن هيئةٍ غير مختصةٍ أو شابه البطلان؛ لأنه يعد إجراءً جزائياً بالنظر إلى أثره في تحريك الدعوى الجزائية.
ثانيًا: المحكمة التي تُرفع أمامها الدعوى الجزائية على القضاة وأعضاء النيابة العامة: أوجب المُشرِّع اليمني على مجلس القضاء الأعلى تحديد المحكمة التي تختص بمحاكمة القاضي – أو عضو النيابة العامة – حال إصدار إذنه برفع الدعوى الجزائية عليه، ومؤدى ذلك: أنه يشترط لصحة رفع الدعوى الجزائية أن ترفع أمام المحكمة المعينة في الإذن، فإذا رُفِعت أمام محكمةٍ أخرى كانت غير مقبولةٍ لعدم الاختصاص بنظرها.
وقد ذهب د. محمود نجيب حسني: إلى أن المُشرِّع ارتأى الخروج على قواعد الاختصاص المكاني فلم يجعل محاكمة القضاة أمام المحكمة المختصة مكانيًا وفقًا للقواعد العامة، وإنما جعلها لمحكمةٍ يعينها مجلس القضاء الأعلى الذي يعطي الإذن برفع الدعوى؛ ويعلِّل هذا الخروج بالحرص على تفادي أن تتم محاكمة القاضي – أو عضو النيابة العامة – أمام المحكمة التي يعمل بها؛ إذ يُخشى من ناحيةٍ أن يكون في ذلك محاباةٌ له، ومن ناحيةٍ أخرى فيه مساسٌ بكرامته بين جمهور المتقاضين، والأمر على خلاف ذلك في التشريع السوري فلم يُترك لمجلس القضاء الأعلى تحديد المحكمة التي تتولى محاكمة القاضي، بل إن المُشرِّع السوري قد أسند هذا الاختصاص لمحكمة النقض بهيئتها المؤلفة للنظر في القضايا الجزائية.
أثر شرط الإذن في رفع الدعوى الجزائية على أعضاء السلطة القضائية: نص المُشرِّع اليمني صراحةً على أنه لا يجوز رفع الدعوى الجزائية على القاضي أو عضو النيابة قبل صدور الإذن بذلك من مجلس القضاء الأعلى، فإذا تم رفع الدعوى الجزائية دون صدوره وقع باطلاً، ولا يصحح هذا البطلان صدور الإذن بعد ذلك، كما لا يصححه تنازل القاضي الذي اتُخذ هذا الإجراء ضده، وتلتزم المحكمة في هذه الحالة بأن تقضي بعدم قبول الدعوى الجزائية من تلقاء نفسها، كما يجوز إثارة الدفع به في أي حالةٍ كانت عليها الدعوى، فمثل هذا الدفع يعد من الدفوع الجوهرية المتعلقة بإجراءات رفع الدعوى الجزائية وهي من المسائل المتعلقة بالنظام العام طبقًا لنص المادة (397) أ.ج.ي، ولذلك يجب على المحكمة أن تشير في حكمها إلى صدور الإذن حتى تتمكن المحكمة العليا من مراقبة صحة تطبيق القانون على إجراءات تحريك ورفع الدعوى الجزائية، وإلا كان باطلًا، قضت محكمة النقض المصرية ببطلان الحكم لخلوه” من الاشارة إلى أن الدعوى الجنائية أقيمت بإذنٍ من مجلس القضاء الأعلى، وكان هذا البيان من البيانات الجوهرية التي يجب أن يتضمنها لاتصاله بسلامة تحريك الدعوى الجنائية، فإن إغفاله يترتب عليه البطلان، ولا يغني عن النص عليه في الحكم أن يكون ثابتًا بالأوراق صدور مثل هذا الإذن….” (الحكم الصادر بجلسة 2005/11/27 م في الطعن رقم (40760) لسنة (75) قضائية).
وإذا رُفعت الدعوى الجزائية على القاضي أو عضو النيابة إلى غير المحكمة التي حددها مجلس القضاء الأعلى وجب الحكم بعدم الاختصاص ولو قبِل أيهما محاكمته أمامها، فالاختصاص في هذه الحالة متعلقٌ بالنظام العام، وعلى ذلك يجوز الدفع بالبطلان في أي حالةٍ كانت عليها الدعوى، وتقضي به المحكمة من تلقاء نفسها.
وموجز القول: إن مخالفة الأحكام المتعلقة برفع الدعوى الجزائية على القضاء وأعضاء النيابة العامة توجب الحكم بعدم قبول الدعوى الجزائية التي ترفع دون إذن مجلس القضاء الأعلى، والحكم بعدم الاختصاص إذا رُفعت أمام محكمةٍ غير التي عينها الأخير.
وان بطلان الإجراءات التي تمت قبل صدور الاذن باطلة بطلانا متعلقا بالنظام وصدور الاذن الاحق عليها لا يصححها، وأن قواعد الاذن من النظام العام التي لا يجوز مخالفتها في اية حال من الاحوال، وأن مجلس القضاء بإصداره الاذن قد ظلم نفسه وانقص من مقامه وهيبته، إذ تحول إلى محلل للاعتداء وسعى لإضفاء مشروعية على إجراءات يستحيل تشرعن فهي قد وقعت بالمخالفة للقانون
المراجع:
د. محمود مصطفى، شرح قانون الإجراءات الجنائية.
د. محمود نجيب حسني شرح قانون الإجراءات الجنائية.
د. مأمون سلامة
د. أحمد شوقي أبو خطوة، شرح قانون الإجراءات الجنائية.
د. عوض محمد عوض
د. حسن المرصفاوي، المرصفاوي في أصول الإجراءات الجنائية.