أول صدمة منقوعة بالعيب ..!
يمنات
أحمد سيف حاشد
كنت في صغري استصعب لهجة المناطق القريبة من مسقط رأسي.. كانت المناطق المحيطة بنا تبدو لي بعيدة جدا، رغم ملاصقتها لمنطقتنا، وبعضها لا يفصلها عنا غير وادي أو جبل، وكلما زاد بعدها، تزداد لهجة من يسكنها عن لهجتنا اختلاف وصعوبة، بالاضافة إلى وجود بعض المفردات التي كنت لا أفهم معناها إلا بعد سؤال وتكرار، حتى صارت بعد اعتياد جزء من معرفة وتنوع، وأظن أن الآخر الذي أستصعبت لهجته مر بنفس المعاناة التي مررت بها، والتي تكتشف لاحقا إنها معاناة عابرة، ولكنها تضيف لكلينا ما لم نكن نعرفه من ثقافة وتنوع وإدراك.
في عام 1990 بعد الوحدة انتقلت من عدن إلى صنعاء.. كنت أجد صعوبة في فهم لهجة المتحدثين.. أجهل معنى كثير من الكلمات التي أسمعها لأول مرّة.. لا أفهم كثير مما يريدوا إفهامي إياه.. كنت انجح بصعوبة في التقاط فهم بعض الكلمات أو المفردات، فيما بعضها كانت تمرق أمامي بسرعة رصاصة يستحيل عليّ إدراكها، وأحيانا تمرُّ كظبي برّي مذعور يصعب عليّ اللحاق به.
كنت أحاول فهم ما يقال؛ أو فهم بعض الكلمات التي ألتقطها من المتحدث، ثم تحولني الكلمات التي لا أفطنها إلى متكهن؛ فأحاول إعمال حدسي وتخميناتي في السياق؛ لكشف ما لا أفطنه، وأدرك معنى مقارب لتلك الكلمات النافرة؛ ليتأتّى لي قدراً من الفهم، أو بعضه، أو حتى نتف منه.
كثير من الكلمات كنت أجدها عصية على فهمي مبنى ومعنى، فأستعين بحدسي، وتقديراتي، ومحاولة فهمها عن طريق التخمين أو الإشارة..
كنت أشعر بحرج شديد حينما أبدو بليداً، بطيء الفهم لما يرد من الكلام.. كان يداهمني كثيرا من الخجل حالما أتعثر في الفهم، وأحس بأن الفهم قد بات لدي كهلا طاعنا بالسن، مصابا بـ”الزهيمر” المصحوب بالرعاش.. عجوز أحدب يتوكأ على عصا وقوائم ترتعش.
***
كان الشخص الذي استأجرتُ منه الشقة في صنعاء “باب اليمن” اسمه “الرهمي” عمره أغلب الظن يتعدى السبعين عاما.. ضخم الجثة وعريض المنكبين، وتزيد من هذه الضخامة الطبيعية القمصان والمعاطف التي يرتديها واحدا فوق الآخر، وجهاز الجنبية المعقوف بالفضة وحزامها العريض، وفي الحواشي تستطيع أن ترى أدوات وتفاصيل غيرها.
شكله الضخم يبدو أثرياً، وكأنه جاء من زمن غابر أو عصر منقرض.. طوله وعرضه مهاب.. وجهه مستطيل وجهم ومتغضن، وحواجبه كثة سوداء، وبعض شعيرات بيضاء تطل من بين زحامها بفضول جم، ومثلها شحمة إذنيه المتدلية إلى أسفل.. أما لحيته فمطلقة السراح، ويتخالط في لونها الأبيض والأحمر والأصفر.
فكّا فمه جاسران وقويان، وشدقه منتفخ، وعروقه تكتظ بالدماء عندما يتحدث، وتبدو كرشاء بئر، وتوجد في وجنتيه خفقتين تشي بأن لا ضروس له، أو أن أكثر ضروسه قد اهتدّت بتقادم الزمن عليها، ومبلغ العمر الضارب في العقود، وربما زاد الأمر سوء مسحوق “البردقان” الذي يتعاطاه على ما يبدو منذ زمن بعيد.. كنت أشاهده وهو يخرج الوعاء من معطفه، أو من خلف الجنبية العريضة التي يحتزمها، ثم ينكت في يده قدراً منه، ويكرع ما صبّه إلى فمه الواسع والضخم.
لسانه وهو يتحدث إليك تراها تكتظ في فمه، وربما لا تسمع منها كلاماً، بل ضجيج طاحون، أو مولّد ديزل قديم يتضجر ويختنق.. بركضة كلام لا يمكنك أن تفهمه.. كان الحال بالنسبة لي أكثر من صعب، وفهم ما يقول يحتاج إلى من يساعدني على الفهم والترجمة.. عقد الإيجار معه كان لمدة عام، وقبل أن تمر ستة أشهر تفاجأنا برفع الإيجار.
***
في الأيام الأولى من إقامتي بالشقة التي استأجرتها منه خرجت من بابها الى فناءها الملاصق، وأنا مرتديا معوزاً وجرماً داخلياً نصفياً، ولم أكن أعلم أن شيئاً من هذا القبيل مستفزاً ومستنكراً في صنعاء، وصارخا في خروجه عن العادات والتقاليد، حتّى خلت نفسي بسبب ردة فعله، خارجاً إلى طريق فيه مهلكة من جحيم. بدا لي الأمر لاحقاً أن فعلتي كانت مستفزة على نحو لا يقوى الرائي الكهل على الصبر والمكابدة الصموتة.
حالما شاهدني صرخ من نافذة منزله المطل والمقابل، وكأن ركب رأسه عفريت.. صوته الراعد خرج من شدقيه مزمجراً ومجلجلاً.. ضج ورج وبركض بالكلام طولاً وعرضاً حتى أمتلى المكان بما لا أفهمه.. لا أعرف ماذا قال! وماذا الذي حدث! لم أفهم ما أرغى به وما أزبد.. لم أفهم حتّى مفردة واحدة.. كل ما فهمته أن هناك غضب جم وشر مستطير قد حدث.
أما سبب ما حدث فلم أفهمه إلا في اليوم التالي عندما زارت ابنته أسرتي، وحكت لهم سبب الضجيج.. لقد كان مستاء جداً بسبب تصرفي، وهو في الحقيقة تصرّف غير مقصود، ولكنه بدا له تصرفاً مستهتراً بالعادات والتقاليد، وجريئا منّي في قلب صنعاء المثقلة بالعيب، والحياء المكوّم الذي يلبس القمصان والمعاطف فوق بعضها كصاحبه.. كان هذا أول شيء تعلمته في صنعاء، وأول مقلب شربته ووجدته منقوعاً بعيب يشبه السم.
***