كانت هنا يمن
يمنات
أحمد سيف حاشد
لم أدخل عالم القات إلاّ في فترة متأخرة نسبياً من حياتي.. لم يكن يومها دخولاً ولكنها كانت تجربة.. كانت التجربة الأولى معاكسة لما اعتاد عليه الناس.. لم أعرف يومها أين يكمن الخلل؟! لم أدرِ حينها ما هو السبب؛ هل أرجعه إلى أمر يخصّني، أم يخص القات الذي اشتريته؟!
التجربة الأولى في مضغ القات كانت بدافع مقاومة النعاس، ومغالبة الإرهاق، واستحضار التركيز، ولكنني لم أنسجم معه إلا بعد فترة طويلة من الصراع بين الرغبة والرفض، وفي الأخير انتصر القات إلى حد أوصلني إلى توسد الحذاء عند النوم والمعاناة من الكوبسة الخانقة، ثم تم منعي من تعاطيه بعد أن أصاب القلب ما أصابه.
في صنعاء كانوا قد أباحوا القات بفتوى، بل وأفتوا بطهارته حتى وإن اترعوه أو اسمدوه بسموم من يلعنونه.. كل القات إلا ما ندر بات متشرباً بالسم الذي بلغ به الحال أن صار بعض منه، وأجاز بعضهم بقاءه في الفم أثناء تلاوة القرآن في الصلاة لطهارته، والشوكاني في الفتوى إمام.. إنها فسحة أكبر من كل الفُسخ، وسعة لم يتم إعطاؤها لأي مُخدّر أو منشّط آخر، مهما كانت فداحة وكارثية تعاطيه على المجتمع.
بين البداية وما صار إليه الحال كثيراً من التفاصيل والقصص التي سآتي على ذكرها، غير أن الأهم، وما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن زراعة واعتلاف القات في اليمن بات ظاهرة بحجم كارثة اجتماعية ليس فقط بحق أسرنا ومجتمعنا، ولكن بحق حاضر ومستقبل شعبنا.
***
المرة الأولى التي تعاطيتُ فيها القات كانت في عقد الثمانينات من القرن المنصرم، وتحديداً في إحدى سنوات دراستي الجامعية.. كنتُ أعاني سهراً امتحانياً مُرهقاً من اليوم الذي قبله.. شعرتُ أنني لا أقوى على نهار مرهق وسهر ليلة أخرى.. أثقلني سهراً على سهر، وإرهاقاً على إرهاق مضاعف.. إنها المرة الأولى التي حاولت أستعين بالقات في مواجهة النوم والشرود المتكرر أثناء مذاكرتي في امتحان نهاية العام.
زملائي الذين اعتدتُ المذاكرة معهم أو مع أحد منهم، تمردوا عليّ، ربما لأنانيتي المفرطة في طريقة المذاكرة، التي استبدُ بها عليهم، وأستحوذ فيها على مجريات القراءة والنقاش.. تركوني في فترة الامتحان وحيداً بقرار لا يقبل رجاء أو مساومة.
تخلّى الزملاء عن الاجتماع والمُذاكرة معي في فترة كانت مع جميعنا مهمة وفارقة، ربما لأنهم لا يقوون فيها على تحمل تبعات مجاملتي في فترة كتلك، وموسم أوشك موعده على الحصاد.. لا وقت لإهدار قليل من الوقت أو التراخي حياله من قبل الزملاء؛ لتبدو هنا وجاهة المثل: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”.
طبعي كان قد ولع في القراءة المسموعة، وربما الصاخبة في بعض الأحيان.. استيعابي من خلال القراءة الصامتة كان ضئيلاً ومحدوداً.. عندما يتمرد زملائي أو يملّون المراجعة أو المذاكرة معي، أشعر أن المذاكرة الصموتة بالنسبة لي غربة مكتملة الأركان تستغرقني، واستيعابي لم يعد يعينني على التفوق.
خالتي الطيبة “سعيدة”، العجوز الستينية، والتي كنتُ أتكئ عليها، وألوذ إليها لتستمع لي وأنا أقرأ بصوت مسموع، قد صارت تملّني هي الأخرى، وتكسر لديّ همة القراءة قبل أن أشرع فيها بعد وقت طويل من مجاملتي، والاستماع لي في أحايين غير قليلة.. لكل كيل مقدار ومتسع، ويبدو أن ما كان لدي من حيل وأساليب لجعلها تستمع أكثر قد نفدت، ونفد صبر الخالة وطفح كيلها.
كنتُ ما أن أبدأ في القراءة تدخل خالتي في النعاس، بل وتجلب لي معها كثيراً منه، وإذا تماسكت لدقائق في مواجهة نعاسها، فإن تماسكها لا يطول مع النعاس، فتصيبني الخيبة ويتملكني النعاس مثلها.. لا وقت لتضييعه في مرحلة الامتحانات.. أحاول أكرهها بلطف على الاستماع؛ ولكن حتى مفعول الشاهي والجوز الذي كانت تفضّله لم يعد كافياً لحشد يقظتها، ومقاومتها لنعاسها الغزير، ومللها الذي تراكم.. أنا الآن على يوم الخميس، فيما السبت على موعد مع الامتحان.. وقد قالوا: “يوم الامتحان يكرّم المرء أو يهان” وقال الشاعر:
“بقدر الكد تُكتسب المعالي*** ومن طلب العلى سهر الليالي”
***
حاولتُ أعتمد على نفسي هذه المرة لأقرأ وحدي وبمفردي.. كنتُ كلّما حاولتُ أن أقرأ يمر النعاس على عيوني لذيذاً وناعماً، مترعاً بالمتعة ومعبّراً عن مدى شغفي وحاجتي له، ثم تمطرني اللحظة بالنوم الغزير والعميق جداً.
أحاول التركيز فأشرد إلى مكان بعيد، ولا أعود منه إلا نائم بعمق، أو مجفلاً بحمل من النوم الثقيل.. أصحوا من عمق النوم، وأفزع وجودي بتذكير نفسي بامتحان يوم السبت القريب، ولكن لا تستمر يقظتي لبعض دقائق، حتّى يداهمني النعاس والنوم العميق كرّة أخرى.
انتفضتُ من عمق نومي متمرداً على حاجتي له، هرعتُ بانفعال وعجل ـ كمن يحمل ثاراً على نعاسه ـ ولكن إلى أين؟! إلى سوق القات في “المعلا”.. وكان حينها يوم الخميس والجمعة تعاطي القات فيهما مسموحاً على غير بقية الأيام.
اشتريت قاتي من أول بائع في السوق دون “مُراجلة”، ودون أن تكون لدي أي معرفة أو أبجديات خبرة بالقات وأنواعه أو حتى أسمائه، فضلاً عن جهلي بكل تفاصيله غير مقاومته للنعاس والعون على السهر.. أردتُ التعويض به عن فراغ الزملاء والاستعانة به على اليقظة، وشد الحيل ومقاومة الإرهاق، والقدرة على الصمود في مواجهة جحافل النوم، وجيوشه المتدفقة كسيل عرم.
عدتُ إلى البيت.. اتكأت على مسند، لا أذكر هل كان مضغوطاً أو محشواً بنشارة الخشب!! على الأرجح كان محشواً بنشارة الخشب.. طلبتُ من خالتي تجهيز الشاي بالجوز والقرنفل والنعناع.. بدأتُ بالتخزين، واحتسي معه الشاي المترع بكل منعش.. شعرت لبرهة بالسلطنة والفخامة، فتحتُ موضوع الدرس لأقرأ وأستذكر.
وجدتُ نفسي أكثر شروداً وشتاتاً في التفكير من ذي قبل.. لاحقني شرودي، وصرتُ أقرأ دون أن أفقه شيئاً، وكنتُ في كل دقيقة أحاول أن استجمع قواي العقلية، وأستعيد بعض عقلي الشارد من مكان بعيد، وألملم ذهني المشتت من بُعد قصي، فأفشل فشلاً ذريعاً، وتصيبني الخيبة والفشل، ويتسرب إلى نفسي بعض الاكتئاب والأسف على إهدار الوقت دون فائدة.. لم يعد سيف الوقت هو من يقطعني، بل غدا السيف منشار يعذبني.
ظننتُ أن القراءة تحتاج منّي في مقيلي هذا وقت أطول من الانتظار ليكون التركيز والاستيعاب على نحو أفضل.. تعاطيتُ المزيد من القات؛ وغالبتُ مرارته المقذعة، من خلال احتسائي مزيداً من الشاي، ولكن الشاي كان يعاجل القات لاصطحابه إلى معدتي.
حاولتُ أن أحشي بجمتي بمزيد من القات وأوراقه العريضة التي يفترض أن أرميها باعتبارها توالف.. وكلما حشيتُ فمي بالقات ومضغته، لا يستقر في بجمتي، بل يذهب سريعاً إلى بلعومي ومعدتي.. شعرتُ أنني صرتُ أشبه بحيوان يعتلف، وبعد أن خسفت بثلثي القات إلى بطني، شعرتُ أنني لم أفشل في القراءة فقط، بل فشلتُ أيضاً في تكوير بجمتي.
أمضيت ساعتين في القراءة دون أن أفقه شيئاً مما قرأتُ .. أمكثُ في الصفحة الواحدة وقتاً أطول يصل أضعاف الوقت المعتاد.. أعيد قراءة الصفحة مرتين، وما أن أحاول أن أستمع لنفسي؛ أكتشفُ أنني مشوش الذهن، ومضطرب الشعور والفكرة.. اكتشفتُ خيبتي، وأنه لم يعلق في ذهني شيء مما قرأت.
وقبل نهاية اعتلاف ما بقي من قات، بدأتُ أشعر أنني شبعت، وأن معدتي صارت ممتلئة ومتخمة به، وأنني فشلتُ في تكوير بجمتي كما يجب، وفشلت في استيعاب أي شيء مما قرأت.
غير أن الأكثر سوءاً أن النوم داهمني بغته، فأنزحت قليلاً وارتخيتُ، ومدد “أبو حنيفة” ساقيه، وغمضت عيناي قليلاً وقد أثقل النعاس جفوني وأسبلها، وغرقتُ في غفوة عميقة امتدت على نحو لم أكن أتوقعه، فيما بعض القات الممضوغ في فمي لا زال متماسكا بعد أن تعب منه فمي، وأطبق عليه مدخلاً ومخرجاً، بغد أخذني النعاس إلى عالمه.
وفي صباح يوم الجمعة صحوتُ بعد نوم عميق ولذيذ، لأرمي بقايا قات الخميس الذي نام معي، وتقرمد في فمي إلى صباح الجمعة.
***
لسنوات طوال أخذ النوم شعب إلى أدراجه ومدافنه.. لا قات ينفع ولا أفيون يجديه.. نُخب طاحت بعناوينها من عنانها إلى الهاوية.. قليل استفاق بعد وقوع وانزلاق، وجلّها لم يستفق إلى اليوم.. بعض يترنح في نعاسه، وبعض يعاني من الخطل و”السرنمة”.. البعض لا يبالي ولا يكترث، والبعض ليستفيق يحتاج إلى قيامة تأتي، أو قضاء وقدر يحل، وبعضهم استفاق على واقع آخر يقول: “كانت هنا يمن”.
سجل أيها التاريخ:
”ليس منّا أبداً من مزقا.. ليس منّا أبداً من فرقا
ليس منا من يسكب النار.. في أزهارنا كي تحرقا”.
ولكن كل هذا لا يكفي أن نستعيد به دولة أو يمن تلاشى، والبكاء على اللبن المسكوب لن يعيد لنا اليمن أو اللبن.
ويبقى السؤال من يلملم شتاتنا..؟؟!!
من يلملم أشتات اليمن غير شعبها ونخب يخلُقها من جديد.. يعينها وتعينه حتّى تعود اليمن، ودولة تعبّر عنه وعن مصالحه، وتحقق آماله ومستقبله.
***
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا