أدب وفنالعرض في الرئيسةفضاء حر

الهوية والانتماء في شعر ما بعد الحداثة .. قراءة في “الشعر، الذات والوطن” لـ”حميد عقبي”

يمنات

محمد المخلافي

يمثل كتاب “الشعر، الذات والوطن” للمخرج والناقد اليمني حميد عقبي، المقيم في فرنسا، نافذة جديدة لفهم الأبعاد المعقدة التي تتناولها القصائد في عصر ما بعد الحداثة. يتناول الكتاب موضوعات الذات والوطن بأسلوب مبتكر يتجاوز الأطر التقليدية، حيث يبرز تعقيدات الإنسان والعلاقة المتشابكة مع الوطن، الذي أصبح مفهومه أكثر تشويشًا في زمن الحروب.

بمناسبة اليوم العالمي للشعر، أصدر عقبي هذا الكتاب عن دار نشر صبري يوسف في ستوكهولم. يحمل الكتاب عنوان “تأملات في تجارب شعرية عربية” ويضم دراسات نقدية تأملية عن عشرين تجربة شعرية عربية، موزعة على 298 صفحة من القطع المتوسط.

أضفى الأديب والناشر صبري يوسف لمسة من الثراء والتكثيف على مقدمة الكتاب، حيث أبرز نماذج متنوعة من الشعراء الذين اشتغل عليهم عقبي، مما منح القارئ فرصة لاستكشاف عوالم شعرية غنية ومتنوعة تعكس تجارب إنسانية عميقة في سياقات مختلفة.

تجارب الشعراء 

سأستعرض بعض تجارب عدد من الشعراء الذين أضاءت كتاباتهم على هذه الموضوعات، منهم سعدي يوسف، شاعر عراقي يُعتبر واحدًا من أبرز الأصوات الشعرية في العالم العربي الحديث. وُلد في عام 1934 في مدينة البصرة، وعاش تجارب عديدة من المنفى والاغتراب، مما أثر بشكل كبير على شعره.

في قصائده، يزاوج يوسف بين الذات والوطن، حيث تنعكس مشاعره تجاه الوطن الذي فقده في ظل الظروف السياسية الصعبة وتجربته الشخصية في الغربة. يمتاز أسلوبه بالشعور العميق واللغة البسيطة التي تحمل دلالات غنية، مما يجعله قريبًا من القارئ العربي.

يقول سعدي يوسف:

ينسج العنكبوت على باب بيتي

أثوابَه العارية،

ليمُرَّ الهواء

وتَمُرَّ الروائح

والصيفُ

والضوءُ

حتى كأن السماء ابتداءً

في هذا النص، يستخدم سعدي يوسف صورة العنكبوت كرمز للتعقيد والتشابك في الحياة.

العنكبوت الذي ينسج على باب البيت يشير إلى تفاصيل الحياة اليومية التي تتداخل مع الذكريات، مما يخلق إحساسًا بالحنين والغربة.

الهواء والروائح والصيف تضفي شعورًا بالانتعاش، لكن هذا الانتعاش يتناقض مع حالة الفقد التي يعيشها الشاعر. النص يعبر عن الصراع الداخلي بين الشوق للوطن والاحتياج للتصالح مع الذات في ظل الغربة، مما يجعله نصًا غنيًا بالدلالات.

أما محمد آدم، الشاعر المصري الذي يُعرف بأسلوبه المتميز في تناول المواضيع الوجودية والإنسانية. وُلد في القاهرة، وقد تأثر بالعديد من المدارس الشعرية، مما جعله يطور أسلوبه الذي يمزج بين الفلسفة والشعر. تتميز قصائده بتناول الأسئلة الوجودية التي تعكس قلق الإنسان في عصرنا الحديث. من قصيدته “مرثية آدم”:

كم مرة صرخت إلى الموت

أيها الموت خذني إليك

لا أريد هذا العالم

ولا أريد هذه الحياة

يعتبر هذا النص تجسيدًا لمشاعر القلق والاغتراب. يتحدث آدم عن الموت ككائن حي، مما يفتح الباب أمام أسئلة عميقة حول معنى الحياة. تعكس الكلمات رغبة الشاعر في الهروب من عالم مليء بالمعاناة، حيث يصبح الموت خيارًا بديلًا للحياة التي لا يريدها. استخدامه للتكرار في “لا أريد” يُظهر شعورًا قويًا باليأس، مما يجعل القارئ يتأمل في قضية الوجود والأمل في عالم يبدو عبثيًا.

وأمجد ريان، الشاعر المصري المعروف بأسلوبه التجريبي الذي يمزج بين الهذيان والواقع. وُلد في الإسكندرية، وقد عُرف بقدرته على استكشاف مشاعر الإنسان العميقة من خلال نصوصه غير التقليدية. يتميز شعره بتنوع الأساليب، حيث ينتقل من التأملات الشخصية إلى مشاهد الحياة اليومية، مما يخلق تجربة شعرية غنية ومؤثرة. يقول ريان:

تذكرة سينما قديمة منسية في جيبي

زجاجات مياه بلاستيكية فارغة

ملقاة في الشارع

في هذا النص، يُبرز ريان تفاصيل الحياة اليومية بشكل بسيط، مما يجسد شعور الخواء والفقد. التذكرة القديمة والزجاجات الفارغة تعكسان حالة من النسيان والضياع، حيث تصبح الأشياء العادية رموزًا للفراغ. النص يتناول فكرة الذاكرة وكيف أن الماضي يمكن أن يكون عبئًا، مما يترك القارئ في حالة من التفكير في معاني الحياة والأشياء التي نعتبرها بسيطة.

تأتي زينب الأعوج، شاعرة جزائرية تُعتبر من الأصوات الشعرية في الأدب العربي المعاصر. وُلدت في الجزائر، لكن تجاربها الحياتية في باريس أثرت بشكل كبير على كتابتها. تتميز قصائدها بالحنين العميق للوطن، حيث تعكس مشاعر الحب والقلق تجاه الوطن الأم، مما يجعلها واحدة من أبرز شعراء الاغتراب. تقول زينب:

أجمع زلاتي

وأندلق امرأة مترعة

بالحنين

تُظهر هذه الكلمات عمق الارتباط العاطفي الذي تحمله الشاعرة. تداخل “زلاتي” مع “امرأة مترعة بالحنين” يعكس شعورها بالحنين والفقد، حيث يصبح الوطن رمزًا للذكريات الحية. النص يعبّر عن تجربة إنسانية شاملة، حيث تستحضر الشاعرة مشاعرها الشخصية لتتناول موضوعًا جماعيًا يتعلق بالوطن والهوية.

الشاعرة اللبنانية مريم جنجلو، واحدة من الأصوات المعروفه في الشعر العربي المعاصر. تتميز كتاباتها بالعمق والقدرة على استكشاف مشاعر الذات والوطن. تعكس قصائدها تجاربها الشخصية وتدخل في تفاصيل الحياة اليومية، مما يجعلها قريبة من القارئ. تقول مريم:

تقول إن أباها قذفها ونهض مسرعًا

لم يقبِّل أمها، فُولِدَت عرجاء.

تُظهر هذه الكلمات كيف تتداخل الهوية الشخصية مع الأسئلة الثقافية والاجتماعية. استخدام مريم للغة البسيطة لكنها معبرة يجعل من النص تجربة شعرية جميلة. “عرجاء” هي رمز للعيوب والاختلافات، مما يعكس تجربة الإنسان في البحث عن هويته في عالم مليء بالتحديات.

الشاعر اليمني عبد الغني المخلافي، ابن مدينة تعز، وُلِد وعاش في ريفها الجميل. غادرها إلى إحدى دول الجوار بحثًا عن حياة أفضل. وبعد 22 عامًا من الغربة، أُجبر على العودة إلى وطنه الذي مزقته الحرب، ليجد أن كل شيء قد تغير.

عاش تجارب مؤلمة، مما جعله يعبّر عن الأمل واليأس في آن واحد. يتميز شعره بالتفاؤل رغم المعاناة، حيث يسعى من خلال كتاباته إلى رسم صورة واقعية عن بلاده. فيقول:

أحتسي الشاي وأنفث ماضي

الذكريات البعيدة.

أصغي بخشوع متناهٍ

إلى صوت الرعد

ثمّة نجمة وحيدة

تمارس ومضها الخافت ضد قلبي.

هذا النص يعكس حالة من التأمل والحنين. الشاي كعادة يومية يُستخدم كرمز للذكريات التي تتداخل مع الحاضر. يعكس الصوت الداخلي للشاعر الصراع بين الرغبة في نسيان الماضي والتعلق به، مما يُظهر كيف يمكن للذكريات أن تشكل الهوية.

صوت الرعد، الذي يتردد في الخلفية، يرمز إلى القوة والعواطف المتناقضة، مما يُعزز حالة القلق التي يعيشها. النجمة الوحيدة التي تُومض في السماء تُضفي لمسة من الأمل، رغم خفوتها، كأنها تشير إلى وجود شيء جميل حتى في الأوقات الصعبة. هذا التباين بين الرعد والنجمة يعكس الصراع الداخلي، حيث يمكن أن تكون الذكريات مؤلمة لكنها أيضًا تحمل بصيصًا من الأمل.

جميل حاجب، شاعر يمني يُبرز من خلال كتاباته صوتًا يعبر عن الوجود والإنسانية. وُلد في اليمن، ويعبر في قصائده عن أحلامه وآماله في مواجهة واقع معقد. تتميز نصوصه بالصور الحية والتفاصيل الدقيقة، مما يجعلها قريبة من تجربة القارئ. يقول حاجب:

أصفر بفمي مثل طفل

أحين أكتفي بعناق شجرة

في هذا النص، تُظهر الكلمات بساطة الطفولة وجمال الطبيعة. الشجرة تُستخدم كرمز للحنان والأمان، مما يعكس رغبة الشاعر في العودة إلى البراءة. النص يعبر عن الأمل في الحياة رغم التحديات، مما يجعله نصًا مليئًا بالتفاؤل.

يصعب تلخيص الكتاب أو تقديم عرض شامل، سأكتفي بذكر العناوين الرئيسية لمن تبقى من الشعراء الذين تضمنهم الكتاب: التجربة الشعرية للشاعر عدنان الصائغ: همسات من المنفى إلى الوطن، قصائد نامق سلطان: الرغبات الصغيرة والسعادة البسيطة، التجربة الشعرية للشاعرة الفلسطينية ندى محمد أبو شاويش: فوضى أحلام صغيرة، التجربة الشعرية للشاعر المصري محمد نصر: امتلاء بالحلم وتدفقات بالمشهدية، التجربة الشعرية للشاعرة المصرية عزة رياض: ديوان “آيل للصمت” ومحاولات الهروب من ضجيج الألم، التجربة الشعرية للشاعر الجزائري عبدالله الهامل: عنقات مع متاهات لا متناهية، “كم هذا مرهق أيها البحر”: للشاعر التونسي سمير بيّة، نص يحاكي الأثر الدائري للحرب، الشاعرة المصرية أمينة عبدالله: وتقديس الأنوثة، قراءة تأملية في افتتاحية قصيدة (لجفرا مُقلةُ العين) للشاعرة اللبنانية الفلسطينية دوريس خوري، الشاعرة الجزائرية سليمة المسعودي: نصوص تعانق عوالم متعددة، قصيدة “إلى ظلِّكَ الجنوبي/ إلى أخمصِ قدميك” للشاعرة اللبنانية لودي شمس الدين.

أهمية الكتاب في توثيق الاصوات الشعرية المعاصرة

تتجلى أهمية هذا الكتاب في سعيه لتقديم مقاربات متعددة من خلال جمع عشرين صوتًا شعريًا من العراق ومصر واليمن ولبنان والجزائر، حيث يمثل هؤلاء الشعراء تجارب من أجيال متنوعة. تأتي تأملات حميد عقبي، كما هو معتاد، بنظرة سينمائية ومسرحية تبحث عن التفاصيل المعيشية الصغيرة وتسليط الضوء عليها، خاصة فيما يتعلق بموضوع الذات والوطن.

تعبر هذه الأصوات عن ذاتها المتشظية والمثقلة بتبعات الانتهاك الذي تعاني منه معظم الأوطان العربية، نتيجة الحروب والصراعات التي أفسدت الحياة وسلبت الناس كرامتهم وسعادتهم. تعكس هذه الأصوات الحالة التي تمر بها أوطانهم والعالم، حيث يشعر البعض بالمنفى حتى وإن كانوا يعيشون داخل أوطانهم، في حين يسعون دائمًا للبحث عن القليل من الحياة والأمل.

غالبًا ما تغفل الدراسات النقدية الأكاديمية بعض التجارب التي تفتقر إلى الصوت الإعلامي، مما يؤدي إلى إهمال بعض الأصوات الإبداعية المعزولة، مثل أولئك المبدعين في اليمن. كما قد تفتقر الحماسة تجاه الشعراء الذين لا يحظون بالدعوات إلى المهرجانات والفعاليات. يقدم عقبي مزيجًا من عدة تجارب، بعضها تم تناوله نقديًا بكثرة، بينما يظل البعض الآخر نادرًا ما يُسمع صوته.

يشير الناقد في مقدمة الكتاب إلى أنه دعوة للنقاد من أجل العدالة في النقد، وللتأمل في الكتابات الشعرية الجديدة التي تسعى لصياغة مناخ خاص بها، دون التقيد بالقيود النظرية.

يستحق هذا الكتاب القراءة والنقاش حول تحليلات وتأملات حميد عقبي. فهو لا يقدم مجرد معلومات أو دراسة أكاديمية صارمة، بل يعرض نماذج ونصوص تظل مفتوحة على التأويل. يصعب على أي ناقد تقديم تفسير شامل لها، وهذا هو سحر هذه النصوص، إذ تراوغ وتخفي معانيها، مما يدعو المتلقي للمشاركة في استكشافها. تفتح هذه التأملات آفاق التخيل وتدفع به إلى بعيدة، مما يفيد أي دراماتورج أو معالج مسرحي في معالجة هذه النماذج بشكل مسرحي، إذ تحمل في طياتها دراما وصورًا متحركة وخفية.

إسهامات حميد عقبي في الأدب والفن التشكيلي

يُعتبر كتاب “الشعر، الذات والوطن: تأملات في تجارب شعرية عربية” من بين خمسة كتب صدرت لحميد عقبي بدعم من الناشر والأديب صبري يوسف.

حميد عقبي هو مخرج وكاتب سينمائي ومسرحي، يتميز بتنوع نشاطاته الإبداعية، حيث يشارك في مجالات الفن التشكيلي والشعر، بالإضافة إلى كتابة الروايات والقصص القصيرة. أخرج عقبي عشرة أفلام قصيرة، وله 17 رواية تم نشرها في 15 كتابًا عن دور نشر متعددة في ألمانيا والمغرب العربي ومصر.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أصدر ستة أعمال شعرية ومجموعات قصصية ونصوص مسرحية، كما أن له كتبًا باللغة الفرنسية، وقد تُرجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية.

بالإضافة إلى ذلك، يمتلك عقبي 11 كتابًا في النقد السينمائي وأربعة كتب في النقد الأدبي. أقام 11 معرضًا فنيًا تشكيليًا ومعرضًا فوتوغرافيًا في فرنسا. وهو ناشط ثقافي يدير المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح في باريس، حيث ينظم ندوات نقدية وأدبية وفنية منذ عام 2018.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

للاشتراك في قناة موقع يمنات على الواتساب انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى