عندما يُخرس الدستور ويُكمم القاضي.. صرخة عدالة في وجه التفسير المنحرف

يمنات
سنان بيرق
في عمق الصمت المطبق على قاعات العدالة، حيث يفترض أن يعلو صوت القانون، ويُصدح بالحق، يعلو وجيبٌ من نوعٍ آخر: وجيبُ قاضٍ وجد نفسه بين مطرقة النصوص الدستورية وسندان تفسيرات معطوبة. يُطلب منه أن يحكم بعدل، ولكن لا يُسمح له أن يُفكر في دستورية ما يُطبق!
إننا اليوم أمام إشكالية خطيرة تنخر في صميم النظام القضائي اليمني: إشكالية الدفع بعدم الدستورية. إنها القاعدة الذهبية التي ترسّخ سمو الدستور، وتمنح القضاء دوره الطبيعي كحارس على مشروعية النصوص، لا مجرد منفّذ لها.
وقد نصت المادة (186) فقرة (7) من قانون المرافعات اليمني رقم (40) لسنة 2002م صراحة على أن:
“تُعتبر من النظام العام الدفوع التالية: … الدفع بعدم دستورية القانون، وفي هذه الحالة إذا رأت المحكمة أن الدفع قائم على أساس أوقفت نظر الخصومة ورفعت الأوراق المتعلقة بالدفع إلى الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا خلال ثلاثين يوماً من تاريخ قرارها، وعلى الدائرة الدستورية الفصل فيه خلال سبعين يوماً.”
هذا النص لا يحتاج إلى تأويل أو سحر لغوي لفهمه، فهو ناصع كالشمس. يقول بوضوح إن الدفع بعدم الدستورية من النظام العام. وما كان من النظام العام لا يُقيد برغبة الخصوم، بل يُثار من أي طرف، حتى من القاضي نفسه، إذا استيقظ ضميره المهني أمام مادة تتصادم مع نص دستوري صريح.
لكن الصدمة الحقيقية لا تكمن في النص، بل في الواقع القضائي المؤلم!
فالدائرة الدستورية في المحكمة العليا – وللأسف – تسلك مسلكًا يقيّد سلطة القاضي في إثارة الدفع من تلقاء نفسه، وكأنها تنسف روح النص وتخنق الدستور في غرفة مظلمة من التفسير الذاتي.
ولكن… من ينقذ الدستور إن صمت القاضي؟
ومن يحمي العدالة إن أُسكت صوت العقل القانوني تحت وهم “وجوب الدفع من الخصوم فقط”؟
لقد حسم الدستور اليمني هذا الجدل من جذوره، حين نص في المادة (153) منه على أن:
> “المحكمة العليا للجمهورية هي أعلى هيئة قضائية… وتمارس على وجه الخصوص في مجال القضاء ما يلي:
أ- الفصل في الدعاوى والدفوع المتعلقة بعدم دستورية القوانين واللوائح والأنظمة والقرارات.”
فلنتوقف هنا قليلًا…
فالدستور لم يقل: “الدفوع المقدّمة من الخصوم”، وإنما قال: “الدعاوى والدفوع”، بصيغة عامة شاملة، مما يعني أن أي دفع، سواء أكان من أحد الخصوم أو من القاضي نفسه، متى ما تعلّق بعدم الدستورية، وجب إحالته إلى المحكمة العليا للفصل فيه.
القاضي، وفق هذا النص الدستوري، ليس مجرد متلقٍ للدفع… بل هو مصدر مشروع له.
بل أكثر من ذلك: إذا سكت القاضي عن نص غير دستوري، فقد خان القسم، وخذل العدالة، وأصبح خصمًا للحق لا حَكَمًا له.
والمؤلم أن الدائرة الدستورية – وهي الحارسة المفترضة للدستور – تنتزع من القاضي سلاحه، وتخنق سلطته، وترفض قبول الطعون إذا لم يكن الدفع من أحد الخصوم، في تجاوز صارخ للمادتين (186/7) من قانون المرافعات و(153) من الدستور، وكأنها فوق الدستور لا في خدمته!
التوصية:
نوصي – وبوضوح وحزم – بأن تلتزم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بالدستور والقانون نصًا وروحًا، وأن تكفّ عن فرض تفسيراتها الذاتية التي تحجب القضاة عن أداء واجبهم المقدّس في الذود عن الدستور.
كما نؤكد أن من حق القاضي – بل من واجبه – أن يثير الدفع بعدم الدستورية من تلقاء نفسه، متى ما استشعر تعارض النص المطبّق مع نص دستوري نافذ.
فالدستور لم يُكتب ليُحفظ في الأدراج،
والقاضي لم يُعيّن ليكون شاهد زور،
بل الدستور سلطان،
والقاضي حر،
والعدالة لا تُكمم.