فضاء حر

حين تنتهي الحكاية… وتسقط الأسطورة

يمنات

سنان بيرق

في تاريخ الأمم، لا تسقط الأنظمة برصاصة، بل بثقل الأكاذيب المتراكمة، وجثث الفرص الضائعة، ودموع الفقراء في ليلٍ طويلٍ صامت. هناك أنظمة لا تُبنى لحماية الإنسان، بل لتحصين كيانٍ مريض، يخاف من شعبه أكثر من أعدائه، ويتسلل إلى ثرواته كما يتسلل اللص إلى بيت أبيه، وينظر إلى الحريات كأنها مؤامرة لا حقًّا أصيلاً.

حين ترى نظامًا يصنع من المال قلاعًا لفئة ضئيلة، بينما يُغرق عامة الناس في فقرٍ لا يليق إلا بالمحرومين من الشمس، فأنت أمام سلطةٍ لا تعيش من أجل وطن، بل من أجل جيوب متخمة وشعارات مثقوبة.

وحين يتحوّل الوطن إلى ساحة صراعات لا تنتهي، لا دفاعًا عن سيادة، بل من أجل تصدير أوهام طائفية عابرة للحدود، وإغراق الجوار في خصومات مزمنة، فاعلم أن العقل قد غاب، وأن البوصلة لا تشير إلا إلى الخراب.

الوظيفة، التي كانت حلم الشاب، صارت نكتة. والخبز، الذي كان رمزًا للحياة، أصبح ترفًا. أما الحرية، التي وُلدت من دماء النبلاء، فقد وُئدت بأقدام من لا يفهمون معنى الوطن، ولا يحترمون الإرادة.

إن أخطر ما يُصنع في بعض البلدان ليس الحاكم المستبد وحده، بل الجيش داخل الجيش، والقانون داخل القانون، والدولة داخل الدولة. حين تُمنَح فئةٌ أدوات المال والسلاح والولاء، لا لخدمة الوطن، بل لحراسة طائفة أو مشروعٍ مغلق، فإنك لا تبني دولةً، بل تحفر قبرها بيدك.

وحين يُلاحق المثقف، ويُخنق الصحفي، ويُكبل المفكر، وتُغلق النوافذ في وجه السؤال، فلا عجب إن تنفس الناس من جرحهم، أو باعوا صمتهم بثمن الغضب.

البلدان التي تُحكم بالعقوبات بدل القوانين، وتقاتل في أرضٍ ليست أرضها، وتُشعل النار في صدور لا تخصها، تنسى أنها تحفر قبرها بأظفارها، كلما اعتقدت أن السلطة خلود، وأن البطش استقرار.

الشعوب لا تنسى، وإن صبرت. وحين تثور، لا تعود إلى الوراء. تسقط الجدران التي ظنّها الطغاة حصونًا، ويُمحى التاريخ الزائف، وتُعاد كتابة الرواية بأقلام لم تُدنّسها المنافع، ولم تُصادرها الشعارات الجوفاء.

أي نظامٍ يخنق فرص العمل، ويعتقل الحلم، ويزرع الفقر، ويتاجر بالكراهية، ويحرس مصالحه بجيوش الظل، ويُغلق أبواب التصويت الحر، حتمًا سيسقط، وإن بدا شامخًا كجبل. فالجبل الذي ينخره السوس من الداخل، لا يحتاج إلى عاصفة… بل تكفيه همسة صدق.

الشعوب، حين تُقرر، تعيد ميزان العدالة إلى موضعه. لا أحد فوقها، ولا أحد أقوى منها. الكراسي التي تُبنى على أشلاء الكرامة لا تدوم. والدساتير التي لا تُكتب بمداد الإرادة، لا تُقرأ إلا في محاكم التاريخ.

وحين تنتهي الحكاية، لن تُروى بطولاتهم، بل خطاياهم. وحين يسقطون، لن يبكيهم أحد، لأن من بنى نظامه على إنكار الناس، لن يجدهم حين يحتاج إليهم.

زر الذهاب إلى الأعلى