الخسارة التي لا تشبهها خسارة أخرى

يمنات
د. ياسين سعيد نعمان
حينما تأخذ الدولة في التفكك والانهيار، فإن المجتمع الذي تتشكل منه هذه الدولة، يقوم بإعادة تنظيم نفسه في حاضنات وتكوينات تعود إلى ما قبل الدولة، وترتبط بوشائج الدم والقرابة والعشيرة والقبيلة والطائفة، وأيضًا المصلحة التي يُعلن عن حضورها بالاستناد إلى معطى تاريخي أو فاعل مستجد.
وتكون المصلحة هي الوحيدة العابرة نسبيًا لهذه الحاضنات، وإن كانت بطبيعتها حاضنة طارئة، ومشكوكًا في قدرتها على الصمود أمام التحديات الضخمة التي تنتج عن انهيار الدولة، ما لم تغذَّها إمكانيات كبيرة تتولى تأهيل المنتسبين إليها، وتطويعهم للبقاء ضمن تكوينات يديرها “الممول” بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ولذلك فإنه غالبًا ما يكون مصدرها خارجيًّا بهدف بناء قوة لتحقيق أهداف استراتيجية أو مرحلية لذلك الخارج.
أما الأحزاب السياسية الوطنية، بتراكيبها الفكرية والأيديولوجية، فإنها تحاول أن تعيد بناء علاقات من نوعٍ ما مع هذه الحاضنات، استجابةً لحاجة منتسبيها إلى حماية من التهميش أو الاجتثاث، مع بقائها محافظة على بنائها التنظيمي والفكري في أحسن الأحوال.
ولكن مع طول فترة الانهيار، وقسوة المنظومة الجديدة التي تتشكل بدوافع مفرغة من قيم الدولة، يسود أعضاءها الارتباك والغضب ونفاد الصبر، وتقبل الشائعات، وافتعال الخصومة الداخلية بادعاءات تبدو وكأنها أسبابٌ للبعض كي يقطع علاقته بحزبه أو بمكونه السياسي، ويذهب إلى هذه الحاضنة أو تلك بصورة عارية، لا يغطيها أي غموض إيجابي يسمح بتبرير القطيعة.
والحال نفسه بالنسبة لمؤسسات الدولة الوطنية، التي لطالما جسدت الرابطة الوطنية العابرة لتكوينات ما قبل الدولة؛ فإنها تتعرض للتفكيك والتكسير، ويُقام على أنقاضها هياكل محلية مفككة، تقوم بوظيفتها وفقًا للحاجة التي يمليها الإطار المجتمعي الضيق الذي باتت تنتمي إليه.
إن البنية السياسية والاجتماعية المدنية هي الأكثر تأثرًا سلبًا بالحروب وانهيار الدولة، وغالبًا ما تشكّل خسارةً يصعب تعويضها بسهولة؛ فهي تخلي مساحة واسعة من نشاطها للبنى التقليدية، وللمصالح الطارئة والمتحركة في أكثر من اتجاه، والتي تنتظم في إطارها أقسام كبيرة من المجتمع. وهذا يعني أن ضررًا عميقًا قد أصاب المجتمع في تكوينه الذي سبق أن بدأ يتشكل مدنيًا ووطنيًا في ظل الدولة، بروافع سياسية واقتصادية وثقافية وقانونية عابرة للحاضنة التقليدية.
وفي مثل هذه الظروف، يصبح الانتماء للحاضنات التقليدية، بما في ذلك المصلحة الطارئة، أقوى من الانتماء للدولة ومؤسساتها السياسية والمدنية والقانونية. ويبدأ المجتمع بالتخلي تدريجيًا عما رسخته سنوات الدولة في وعيه وشخصيته من روح المواطنة والسلوك المرتبط بها، ليعود إلى تجسيد شخصية الرعوي المطيع لأعراف وتقاليد تلك الحاضنات التقليدية، ومنظومة المصالح الطارئة التي تطبق شروط الانتساب بقسوة، لتعيد بناء سلوك الجماعات المرتبطة بها بعيدًا عن قيم الدولة.