قراءة تحليلية لنص “الأول في الدفعة” لـ”أحمد سيف حاشد”

يمنات
قراءة تحليلية من ابعاد وزوايا مختلفة لنص أحمد سيف حاشد “الأول في الدفعة” المنشور في كتابه “فضاء لا يتسع لطائر”، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
مفتتح
نص «الأول في الدفعة» لـ”أحمد سيف حاشد” يجمع بين المذكرات الشخصية والبيان الوطني الغاضب، يُظهر كاتبًا يعيش تجربته حتى آخر كلمة، ويكتب من وجدان حيّ لا من مسافة باردة.
إنه نصّ عن المثابرة والتفوق والخذلان الوطني، يعكس تطور الكاتب من طالب مجتهد إلى مفكر متمرّد على واقع منحطّ..
قوته في صدقه الإنساني وشجاعته الفكرية، وضعفه النسبي في حدة الانفعال ونبرة الوعظ التي تُضعف قليلاً من التماسك الجمالي في ختام النص.
إيجاز تحليلي
– نص «الأول في الدفعة» خرج فيه أحمد سيف حاشد من إطار الحكاية الفردية إلى فضاء التجربة الإنسانية الكبرى.. تجربة الإنسان الذي يصعد بجهده، ثم يرى حوله كل شيء ينهار..
– هو نصّ عن النجاح الذي يُجهضه الفساد، والتفوق الذي يغتاله الانحطاط، والوطن الذي يطرد أبناءه المخلصين إلى هامشه.
– ويمثل الجزء الأخير من النص قوة كبيرة، حيث ينتقل بحدة إلى نقد الواقع السياسي والاجتماعي المعاصر، وفيه يعكس الكاتب وعياً عميقاً بفساد النخب، ويستنكر مصادرة حقوق المتفوقين والأوائل لصالح الولاءات والعصبيات الضيقة، مستخدماً لغة لاذعة وصريحة.
– النص ينطلق من تجربة حقيقية عاشها حاشد، تتجلى فيها المعاناة والاجتهاد والتفوق، ما يمنحه مصداقية عالية وتأثيرًا وجدانيًا قويًا.
– يلمس القارئ أنه أمام سيرة ذاتية صادقة لا تُجمِّل الوقائع بل تعرضها ببساطة وعُمق إنساني.
– الصدق الفني والإنساني في النص يُعد ممتازًا؛ إذ أن الكاتب يكتب من تجربة حقيقية نابضة بالحياة.
– البنية السردية والدرامية متماسكة جدًا، لأن النص يبدأ من مرحلة الكدّ والمثابرة، ثم ينتقل إلى لحظة الانتصار والتفوق، ويختتم بمفارقة مأساوية بين الماضي وانهيار الحاضر؛ ليكشف التناقض بين الفرد المتفوق والوطن المكسور.
– حاشد يحوّل تجربته الشخصية إلى مرآة للواقع الوطني: من تفوقه الفردي إلى سقوط النخب والوطن في أتون الحرب.
وهذه النقلة من “الأنا” إلى “النحن” تُبرز وعيًا جماعيًا وإنسانيًا يميز كتابات حاشد، ويجعل النص يتجاوز حدود السيرة الذاتية إلى النص الوطني النقدي.
– في الجزء الأخير، يواجه الكاتب الفساد والنخب الانتهازية بلغة صريحة وحادّة. هذا الوضوح يعبّر عن موقف أخلاقي شجاع يعيد للقلم وظيفته النضالية، ويمنح النص بعدًا احتجاجيًا قوياً.
– اللغة والأسلوب يتميزان بالثراء والعمق والتكثيف، فالنص يجمع بين الجمال البلاغي والدقة التعبيرية، وتغلب عليه النغمة الشاعرية في بعض المواضع.
– التماسك الموضوعي بين الفقرات فهو جيد، مع ملاحظة وجود بعض التفاوت في النغمة بين القسم السيري الهادئ والقسم السياسي الغاضب.
– من حيث الجرأة الفكرية والموقف الأخلاقي، فهي عالية جدًا؛ فالكاتب لا يكتفي بالسرد بل يواجه الواقع بحدة ووضوح وشجاعة، منتقدًا الفساد والنخب المزيّفة.
– الجانب الفني الأدبي من حيث الإيقاع والصورة والمجاز فهو قوي أيضًا، رغم أن الزخم البلاغي يخف قليلًا في الجزء الأخير الذي يغلب عليه الغضب والاحتجاج.
***
مقاربات
نص «الأول في الدفعة» يقف عند ملتقى الأدب السيري والاحتجاج السياسي والفكر الإنساني.
-ورث النص الصدق والبوح الفردي من طه حسين وروسو. وورث الوعي الثوري والرفض للسلطة الزائفة من فانون وأورويل، فيما وورث من كنفاني والبردوني ومحفوظ لغة المقاومة الممزوجة بالجمال والألم.
– ويمكن القول إن نص حاشد لا يقلق على ذاته بقدر ما يقلق على وطنه.
– حاشد يكتب من منطقة “الوعي الجريح” التي لا تهادن ولا تجمّل، بل تواجه العالم كما هو بصدق المثقف الذي يرى في الكلمة واجبًا أخلاقيًا لا مجرد تعبير أدبي.
عربيا
– طه حسين يكتب عن معركة الإنسان ضد الجهل والعمى، بينما يكتب حاشد عن معركة الإنسان ضد الحرب والفساد وضياع الوطن.. كلاهما يربط بين التجربة الفردية والقدر الجمعي، ويحوّل السيرة إلى مرآة للمجتمع.
– يلتقي حاشد مع عبدالرحمن منيف في فكرة المنفى الداخلي؛ فحتى وهو في وطنه، يعيش إحساس الاغتراب والخذلان.. كلاهما يرى أن النجاح الفردي لا قيمة له في وطن مهزوم، وأن الكرامة والحرية أثمن من التكريمات والمناصب.
– يلتقي حاشد مع نجيب محفوظ في نقد النخب والضمائر الخربة التي تبرر القبح، وفي استخدام اللغة الواقعية المشبعة بالغضب الأخلاقي. لكن حاشد أكثر مباشرة في لغته وأقل رمزية من محفوظ، لأنه يخاطب زمنًا يحتاج إلى الصراخ أكثر من التلميح.
– في أسلوبه المكثّف، وفي قدرته على تحويل التجربة الفردية إلى رمز للخذلان الجمعي، حاشد يشبه كنفاني، حيث نجد كلاهما يستخدم الذاكرة كجسر بين الماضي المشرف والحاضر المنكسر، ويكتب بلغة تجمع بين الشعرية والغضب.
– ثمة قرب أسلوبي في نبرة الوعي الثائر الممزوجة بالحزن الفلسفي، كما عند البردوني، حيث نجد في نص حاشد رؤية مزدوجة للوطن: وطنٍ كان حلمًا وصار جرحًا. واللغة عندهما تحمل غنائية الجرح وصرامة الفكر في آنٍ واحد.
عالميا:
– يلتقي نص حاشد مع أسلوب روسو في الصدق العاطفي والجرأة في كشف الذات. فكما يضع روسو نفسه أمام القارئ عاريًا من التجميل، يقدّم حاشد نفسه كما هي: طالبًا، متفوقًا، قلقًا، ثم ناقدًا غاضبًا من الانحطاط الذي أصاب القيم التي آمن بها.
غير أن حاشد يكتب من موقع المناضل في مجتمع مأزوم، بينما روسو يكتب من موقع الفيلسوف في صراع مع الطبقة البرجوازية والفكر الديني.
– في الجزء الأخير من النص، حين ينتقد “حاشد” النخب الفاسدة التي تحوّلت إلى أدوات للهيمنة، يلتقي فكرُه كثيرًا مع “فانون” الذي رأى أن الاستعمار يولّد نخبة وطنية أكثر استبدادًا من المستعمر نفسه..
-لغة حاشد هنا تفيض بالاحتجاج والرفض الثوري، مثل لغة “فانون” التي تحرّض على استعادة الإنسان لكرامته من خلال الوعي والمقاومة.
– مثل جورج أورويل، يكتب حاشد عن تحلل القيم وفساد السلطة وانحدار النخب..
– أسلوبه الواقعي الصادم في وصف الانتهازية والخراب السياسي يذكّر بأورويل في تصويره للبيروقراطية الفاسدة والسلطة التي تزوّر الوعي.. كلاهما ينحاز للفقراء والمهمشين ضد الطبقات المتسلطة.
***
تكثيف
من خلال هذه المقارنات، نستطيع أن نحدد مكانة نص أحمد سيف حاشد “الأول في الدفعة” بدقة أكبر:
– من حيث الأسلوب يقع نصه عند تقاطع عدة أجناس السيرة الذاتية، وأدب البناء الذاتي، والهجاء السياسي.
– من حيث المضمون يجمع النص بين أسطورة الشخص الذي صنع نفسه بنفسه، وبين خطاب المثقف العضوي الذي يحمل هموم مجتمعه.
– من حيث التأثير تكمن قوة النص في صدقه العاطفي وربطه المصير الشخصي بالمصير الوطني.
وفي كل حال نص حاشد يعتبر وثيقة إنسانية مؤثرة تعبر عن حالة الاغتراب والإحباط التي يشعر بها الكثير من المتفوقين في العالم العربي، الذين يرون أن اجتهادهم وتفوقهم يصطدم بنظام فاسد لا يقدر الكفاءة.
الأول في الدفعة
أحمد سيف حاشد
ما بذلته من صبر وجهد, ومثابرة وتراكم تعليمي كان موعده مع النتيجة.. لابد للجهد المبذول أن يأتي ثماره وجناه.. كنت استفيد من أي إجازة أو فسحة أو وقت متاح.. ابدأ بالواجب ثم ما عداه.. لم يفُتني عدد من أعداد المجلة العسكرية السوفيتية.. أقرأ فيها أهم المواضيع التي أراها مهمة، أو تفيد دراستي، أو أجدها ترسخ أو تضيف إلى معارفي العسكرية شيئاً جديداً.
كنت أقرأ كلما تقع عليه عيني من كتب ذات علاقة، دون أن أهمل غيرها فيما يخص الثقافة العامة.. أذكر أن ملحمة “جلجامش” قرأتها في فسحي القليلة، وأنا في الكلية العسكرية، وهي عبارة عن ملحمة أسطورية مشبعة بالإثارة والخيال، بالإضافة إلى كونها أقدم عمل أدبي للبشرية كما قيل.
* * *
بإمكانك أن تخطأ ولكن لا تكرر الخطأ.. أبذل ما في الوسع من جهدك ومجهودك، وستجني الثمار بقدر ما هو مبذول.. ارفع سقف تمنياتك وابذل الجهد الموازي الذي تستحقه تلك الأمنيات، وستجني ما تطيب له نفسك.. لا تترك ضعفك في مقام أن يُسلب تفوقك في مقام آخر.
بل حافظ على الجيد، وقوَّ مكمن قوتك لتعوض ما أهدرته نقطة ضعفك.. أسعى لأعلى درجة من التفوق وستتفوق.. لن يخذلك القدر.. رُم أكثر ستجد نفسك في المقدمة..
كانت تعجبني مواد علم النفس، والهندسة، وأسلحة التدمير الشامل، والتكتيك، والتدريب الناري، وغيرها من المواد، فيما كانت الرماية تتراوح بين الجيد والجيد جداً.. وفي نهاية امتحان العامين كنت قلقاً أو غير واثق من قدرتي في إصابة الهدف في المنتصف، وعلى نحو يحقق لي درجة الامتياز.
إن للحظ عثرته، ولا يكون الحظ دوماً حليفاً معك.. الحظ يبقى حظاً.. أبسط نفَس أو اهتزاز ليد أو كتف يمكنه أن يفسد فرحتك.. إصبعك ربما تخذلك إن لم يكن ضغطها للزناد في لحظة الضبط.. عينك التي تسدد بها ربما تنحرف قدر شعرة عن الهدف؛ فتخونك بانحراف لا تتوقعه.. جهازك العصبي ربما هو الآخر يفسد عليك كل شيء.. ولكن كان لابد أن أكمل ما بدأت، وكانت النتيجة في الرماية جيد جداً، أو 4 من 5 فيما بقية المواد كانت امتيازاً؛ فتمت المفاضلة، وكنت الأول.
* * *
حصلت على المرتبة الأولى في الدفعة، ولمعت في ذهني عبارة “ من جد وجد ومن زرع حصد” وهي التي تعلمت فيها الخط ولطالما كررتُ كتابتها حالما كنت صغيرا في عهد تعليمي الاول.. وفي الكلية العسكرية حصدت ما أروم بعد كد عامين شديدين.
طعم التفوق لذيذٌ، ولاسيما عندما يأتيك بعد عناء وجهد ومشقة .. كنز تجده في عمق المكان أو آخر النفق الذي شققته بأظافرك وتجاوزت به يأسك .. كان جني الحصاد، وكان شعوري بالفرح عارما، وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول.
لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي استمتعتُ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح.
حضر حفل تخرج الدفعة وترقيتها إلى ملازم ثانٍ الرئيس على ناصر محمد، وكان هذا تاريخ 1/9/1983 تمت المناداة باسمي وترتيبي الأول، وسلمني جائزة كانت عبارة عن إذاعة ومسجلة كبيرة “توشيبا” أدهشتني كثيراً وكان شكلها وحجمها يدعو للانبهار، وتم تكريمي بزيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشرة أيام، بمعية التسعة الأوائل الآخرين في الدفعة، ومنح كل منّا 300 دولار مصروف جيب لتلك الرحلة.
* * *
لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية العسكرية بعد أن أحرزتُ المركز الأول في الدفعة.. لأول مرة استلم جائزة من رئيس يمني، وأسافر إلى خارج اليمن، وأركب طائرة، وأشاهد العالم من علو مرتفع.
أول مرّة أعرف “المترو” والتنقل في أنفاق طويلة تحت الأرض في عاصمة عظيمة.. المرة الأولى التي أشاهد رجالاً يقبّلون حبيباتهم وزوجاتهم في الفضاء العام.. لأول مرة أدخل “سيرك”، وأشاهد بأم عيني حضارة أخرى، وعالماً مختلفاً عمّا اعتدته وألفته.
* * *
الأوائل والكوادر اليوم في البيوت, يموتون بصمت وسط ضجيج هذه الحرب التي لا تريد أن تضع أوزارها ولا أعلم كم ستمتد آثارها.. وإن خرجوا يبحثون عن مواطنة لا يجدون إلا نخب ملكية أكثر من الملك، ودورها لا يتعدّى دور كلاب الحراسة.. إمعات مرتهنين الولاء والضمير.. لا حياء لديها ولا خجل.. بلا موقف ولا إرادة ولا حياة.
في هذه الحرب الملعونة كثيرون هم الباحثون عن وطن، ولكنهم لا يجدون إلا نخباً تافهة أكثر سقوطا ووضاعة.. بلا انتماء ولا قيم ولا مروأه.. بلا أحاسيس ولا مشاعر.. من المهين بل ومن الكارثة أن نبحث عن وطن لدى نخاسين الأوطان وقوادين الشعوب ومحترفين الدعارة.
نخب لا تجيد إلا تكون مجرد قفازات للطامعين والمتآمرين على ثروات الشعوب والأوطان.. عملاء بالباع والذراع لا يجيدون غير القتل والخراب والدمار والتمزيق والولاء الأكثر سفالة ووضاعة.. صغار بعصبيات أصغر منهم.. عصبيات شديدة الضيق وكثيرة النتانة مسنودة بلوبي فساد كبير أشد نتانة وكارثية.
اليوم نجد المتفوقين والأوائل هنا وهناك يُحرمون من حقوقهم الأصيلة، وعلى رأسها حق المواطنة، وذلك باغتصابها بالسلطة والغلبة، وبكل صفاقة واستسهال لتصير قيد احتكار العصبويات الصغيرة على مختلف مسمياتها, كانت جهوية أو مناطقية أو قبلية أو فئوية أو سلالية، بل وأصغر منها كالتوريث وخلافه.
اليوم هنا وهناك نجد المتماهين بولاءاتهم وجلّهم من الفاشلين والوصوليين والانتهازين والجهلة هم من يحكموننا، ويتولون أمورنا، ويستولون على حقوقنا بما فيها حقنا في الحياة من خلال استيلائهم على مرتبات المعلمين, والموظفين وسنوات الخدمة والمساعدات الإنسانية للجوعى منّا، والحقوق الأخرى وما أكثرها.
اليوم كثير من المناصب والوظائف في السلّم الإداري والوظيفي، صارت هي تلك التي يشغلها الجهلة والفاشلون ومعهم أولئك الأكثر دناءة وسفالة وانجراراً.. تحلل الوطن وتلاشت المواطنة لتحل محلها اعتبارات ومعايير مغايرة تماماً لمفهوم الوطن والمواطنة، ولا لها صلة بمفهوم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
* * *