وطن الحزن.. حين يصير الألم هوية

يمنات
فؤاد محمد
مقدمة:
في مخيلتنا الجماعية، غالبا ما يُصوَّر الحزن كضيف ثقيل، أو عاصفة عابرة، أو حتى عدو يجب التغلب عليه. لكن الثوري والفيلسوف جيفارا يقودنا في هذه العبارة العميقة إلى منطقة وجودية أكثر ظلمة وإيلاما، وأكثر التصاقا بالذات: “كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقا، لكنني لم أكن أتصور أن الحزن يمكن أن يكون وطنا نسكنه ونتكلم لغته ونحمل جنسيته.” هذه ليست مجرد استعارة بلاغية، بل هي تشريح دقيق لحالة من التماهي التام بين الذات ومعاناتها، حيث يتحول الألم من حالة مؤقتة إلى هوية دائمة، من منفى إلى موطن.
التحول من الصداقة إلى المواطنة:
يبدأ جيفارا بفكرة مألوفة نسبيا: “الحزن صديق”. هذه فكرة يمكن فهمها في إطار تقبّل المشاعر السلبية كجزء من التجربة الإنسانية، والتعايش معها دون إنكار. الصديق قد يكون حاضرا، وقد يغيب. لكن القفزة النوعية تكمن في التحول إلى “الوطن”. الوطن ليس مكانا نزوره أو صديقا نلتقيه؛ الوطن هو المكان الذي ننتمي إليه جذريا، الذي يشكل هويتنا وذاكرتنا وإدراكنا للعالم. هو المكان الذي نعود إليه دائما، بلا خيار. عندما يصبح الحزن وطنا، فهذا يعني أن الشخص لم يعد يشعر بالحزن فحسب، بل أصبح الحزن هو المنزل الذي يسكن فيه، والهواء الذي يتنفسه. اللغة التي يتكلمها هنا هي لغة الصمت الداخلي، والعزلة، والتأمل الأليم. وجنسيته هي تلك التي تُطبع على جواز سفره الوجودي، فيقرأ الآخرون فيه خبرات الفقد والألم واليأس قبل أي شيء آخر.
الحزن كمساحة وجودية لا كحدث عابر:
يلمح هذا الوصف إلى حالات إنسانية معينة قد تكون فردية أو جماعية.ربما يشير إلى أولئك الذين عاشوا تحت وطأة الظلم السياسي أو الفقدان الشخصي الكبير، حيث يغدو الحزن هو الحالة الدائمة، والفرح مجرد زيارة نادرة ومشبوهة. في هذا الوطن، تصبح كل الذكريات مُلوّنة بلون الحزن، وكل التطلعات تحمل بصمة الألم. الإنسان هنا لا يعاني من الحزن، بل يعيش في الحزن. يصبح الألم هو الإطار المرجعي الوحيد لفهم الذات والعالم.
جيفارا واليمن: إضاءة على السياق:
لو لم يكن جيفارا قد قال تلك العبارة منذ عقود، لظننا أنه وصف واقع اليمن اليوم.
في اليمن، لم يعد الحزن مجرد حالة شعورية مؤقتة أو موجة عابرة تأتي وتذهب، بل تحوّل إلى وطن بديل يسكن القلوب قبل البيوت، يعلمنا لغته منذ الطفولة، ويمنحنا جنسيته من دون طلب، ولا يحتاج إلى جواز سفر للدخول إليه. وطن من نوع آخر، لا يُعرف فيه طعم الفرح إلا كذكرى باهتة أو حلم مؤجل.
لقد عاش اليمنيون حروبا متعددة، لكن الحرب الأشد فتكا كانت تلك التي استوطنت نفوسهم، حين طُمس الأمل، واغتُصب المستقبل، وتحوّلت المرتبات إلى ذكرى، والخدمات إلى منّة، والعدالة إلى نكتة باهتة.
يتقاتل المتصارعون على السلطة، لا من أجل الإنسان، بل من أجل ما يدر عليهم مالا وسلطة ونفوذا. تنهب الإيرادات، وتُقطع الرواتب، ويُستعبد الشعب تحت شعارات مزيفة. في حين أن آلاف العائلات لا تجد لقمة الخبز، نجد من يتجادل عن لباس امرأة أو صمت رجل، بينما الفساد يلتهم خيرات البلاد بلا حياء.
أصبح الحزن في اليمن مؤسسة قائمة، له أركانه، وأجهزته، وإعلامه، ومشرّعوه. وحتى من يريد أن يفرح، يخاف من أن يُتّهم بالخيانة، أو يُسأل: “ما الذي يُضحكك؟”.
ليس غريبا أن يشعر اليمني أنه يحمل جنسية الحزن. فالمواطن لم يعد يُعامل كمصدر للسلطة، بل كعبء على من انتعلوا السلطة والدستور. تُنتهك حقوقه، ويُقمع صوته، ويُترك وحيدا أمام الجوع، والمرض، والخذلان.
جيفارا كان ثائرا، قاتل الظلم حيثما وُجد، واليمن اليوم بأمسّ الحاجة لثورة من نوع آخر، ثورة على الحزن، على الاعتياد، على الخوف، على الاستسلام. اليمن لا تنقصه الثروات، بل تنقصه ضمائر حية تُعيد ترتيب الأولويات: الإنسان أولا، لا السلطة.
وفي النهاية، الحزن لا يمكن أن يكون وطنا إلا عندما نصمت طويلا، ونرضى بالقليل، ونعتاد على القبح. أما حين نثور، ونعرف حقوقنا، وندافع عن كرامتنا، فإننا حينها نكتب الفصل الأول من الخروج من “جنسية الحزن”.
فليكن الحزن حالة، لا هوية. فليكن الوطن هو الحلم، لا الألم.