أخبار وتقاريرأدب وفنأهم الأخبارالعرض في الرئيسة

قراءة تحليلية لنص «صدمة استقبلتها بقهقهة» لـ”أحمد سيف حاشد”

يمنات

تأتي الحلقة الخامسة من ثمان حلقات للكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد، بعنوان «صدمة استقبلتها بقهقهة»، والمنشور في كتابه “فضاء لا يتسع لطائر” ضمن سياق سردي أوسع يستعرض تجارب وجدانية وإنسانية مكثفة. 

في هذه الحلقة، يستخدم حاشد الحب المأزوم كأداة لاستكشاف الصدمة الشخصية، والخيانة الداخلية للذات، والتردد في مواجهة الواقع.

أنجزت القراءة التحليلية للنص بأدوات الذكاء الاصطناعي لتفكيك البنية السردية والرمزية للنص، وفحص التحولات النفسية للراوي، والبعد السياسي المستتر، فضلاً عن استنباط شخصية الكاتب كما تتجلى في اللغة والتصورات والشعور الداخلي. 

القراءة الوجدانية

في الحلقة الخامسة المعنونة بـ«صدمة استقبلتها بقهقهة» يكتب أحمد سيف حاشد من جرح مفتوح، لا من ذاكرة باردة. 

النص ليس استعادة قصة حب جامعية بقدر ما هو تشريح داخلي لصدمة الخذلان حين تأتي متأخرة، وحين يكون صاحبها شريكًا فيها بتردده وصمته.

الدبلة لا تظهر كخاتم، بل كأداة إعدام، كحبل مشنقة يلتف على عنق الراوي، وكأن الحب لم يُقتل، بل أُعدم علنًا أمام صاحبه.

لغة انفجار

في المقطع الأول من النص يكتب حاشد بلغة انفجار: الصاعقة، المجنزرة، الزجاج، الصخرة، الطوفان…

إنها مفردات عنف كوني، توحي بأن الخسارة لم تكن عاطفية فقط، بل وجودية. كأن حاشد لم يخسر “هيفاء” وحدها، بل خسر صورته عن نفسه، وثقته بخياراته، وإيمانه بأن الانتظار فضيلة.

اللافت أن النص لا يكتفي برثاء الحب، بل يجلد الذات بوعيٍ قاسٍ. استدعاء الأمثال الشعبية، خصوصًا ذلك الذي يدين الحياء والتردد، ليس تزيينًا ثقافيًا، بل إقرار بالمسؤولية:

“ما حدث كان طبيعيًا” هذه الجملة وحدها تقطع أي محاولة لتجميل الهزيمة. حاشد هنا لا يتقمص دور الضحية الكاملة، بل يعترف بأن الخذلان كان نتيجة منطقية للصمت.

يتحول الحب من نعمة إلى عبء، ثم إلى جلاد. وهذه من أقسى التحولات الشعورية في النص: الحب لا يرحل، بل يقيم. يسكن الجسد، يحتل التفاصيل، ويصير مرضًا مزمنا، غربة داخلية، وحصارًا متعدد الأسوار.

الأسئلة التي يطرحها الراوي ليست بلاغية بقدر ما هي صرخات استغاثة: من يحملني؟ من ينقذني؟

وكأن الإنسان هنا صار أثقل من أن يُحتمل، حتى على نفسه.

ثم يحدث التحول المفاجئ: من القاع… إلى التحدي. من الانكسار… إلى المكابرة.

الراوي لا يتعافى، بل يقاوم بالأنا، يبحث عن حب “أكبر” لا شفاءً، بل انتقامًا رمزيًا من الخسارة. يريد أن يستعيد كبرياءه لا قلبه، ووجوده لا عاطفته. 

هذا التحول يكشف هشاشة الإنسان حين يحاول تضميد جراحه بالقفز لا بالشفاء.

صدمة أخرى

تأتي الصدمة الثانية، لكن بوجه مختلف: الدمية خلف الزجاج. هنا تبلغ الكتابة ذروتها الإنسانية. فبعد كل هذا الثقل، يختار حاشد الضحك بدل الانهيار. القهقهة لا تلغي الألم، لكنها تكسره.

الدمية كرمز ساخر

كل تلك الأوصاف المثالية… كانت تبحث عن وهم.

كل ذلك الانتظار… انتهى بزجاج وملابس جاهزة.

الضحك في النهاية ليس خفة، بل نجاة.

قهقهة رجل أدرك عبث المبالغة، وسخرية القدر، وربما سخرية نفسه.

النص لا ينتهي بالحب، ولا بالشفاء، بل بلحظة وعي: أن الحياة، بكل قسوتها، قد تضعك أمام دمية… وتقول لك: خفف ثقل قلبك قليلًا.

هذا نص عن الحب، نعم، لكنه أعمق من ذلك: إنه نص عن التردد، وثمن الصمت، وكيف يمكن للإنسان أن يخرج من أعمق أوجاعه بالضحك، لا بالانتصار.

قراءة تأويلية سياسية

هذه القراءة تأتي من كون الحب في نص حاشد؛ بنية استعاريّة لخيبة الحلم الوطني وفضح العبث السياسي. 

يُقارب هذا النص تجربة حب مأزومة بوصفها إطارًا سرديًا يُستثمر لتأويل خيبة أوسع تتجاوز الذاتي إلى الجمعي، حيث يتحول الحدث العاطفي من كونه تجربة شخصية إلى بنية مجازية تكشف عن آليات الخذلان، والتردد، والخداع التي تحكم المجالين الوجداني والسياسي على حد سواء.

لا تُقدَّم الحبيبة في نص «صدمة استقبلتها بقهقهة» بوصفها ذاتًا فردية مكتملة، بل تُبنى سرديًا كصورة مثالية مؤجَّلة، تُعلَّق عليها آمال الراوي وتطلعاته المستقبلية، بما يجعلها أقرب إلى تمثيل رمزي لحلم عام ظل قائمًا على الانتظار أكثر من الفعل. 

ويغدو التردد في إعلان الحب أو حسم الموقف تمثيلًا دلاليًا لحالة الإرجاء المزمن التي تصيب الفعل الجماعي حين يُستبدل القرار بالتريث، والمواجهة بالصمت.

تمثل لحظة اكتشاف الدبلة ذروة الصدمة السردية، إذ لا تشير فقط إلى فقدان الحبيبة، بل إلى مصادرة الحلم دون مشاركة صاحبه في القرار. 

علامة إنتقال

وفي هذا السياق، يمكن قراءة الدبلة بوصفها علامة على انتقال الحلم من فضاء الإمكان إلى فضاء الإقصاء، بما يوازي سياسيًا شعور الجماعات بأن مصائرها تُحسم خارج إرادتها ووعيها.

ويكتسب النص بعده النقدي من خلال انتقال الراوي من موقع الضحية إلى موقع المساءلة الذاتية، حيث يستدعي أمثالًا شعبية تُدين التردد والحياء المفرط. 

تحول

هذا التحول لا يعمل على تبرئة الذات، بل يؤسس لما يمكن تسميته بـ الوعي المتأخر بالمسؤولية، وهو وعي يُقارب في بعده السياسي نقدًا ضمنيًا لحالات الصمت والتواطؤ السلبي التي تُفضي، في النهاية، إلى الخسارة.

يتحول الحب، في مسار السرد، من قيمة خلاصية إلى عبء نفسي وجلد ذاتي، وهو تحول يمكن قراءته بوصفه استعارة لحلم وطني تُرك بلا حماية، فانقلب إلى مصدر للألم بدل أن يكون أفقًا للتحقق. 

تعويض

وتُحيل هذه البنية إلى ما يمكن وصفه بـ الانتماء المأزوم، حيث يصبح التعلق بالحلم سببًا للمعاناة، دون أن يتيح في الوقت ذاته إمكانية الانفصال عنه.

وفي محاولة تعويضية، يسعى حاشد إلى البحث عن حب “أعظم” وأكثر اكتمالًا، وهي محاولة تحمل في طياتها نزعة مكابرة تهدف إلى ترميم الذات المكسورة عبر قفزة مثالية لا عبر معالجة جذرية للخذلان. 

ويمكن تأويل هذا المسعى على أنه نقد ضمني للأحلام البديلة التي تنشأ من رحم الخيبة، لا من شروط واقعية للتحقق.

الحلم والواقع

تبلغ البنية المجازية ذروتها في مشهد الدمية خلف الزجاج، حيث ينكشف الوهم في صورته الأكثر تجسيدًا. فالدمية، بما تحمله من جمال مصطنع وفراغ دلالي، تمثل مشاريع أو وعودًا بلا روح، صُمِّمت للعرض لا للحياة، بينما يعمل الزجاج كحد فاصل بين الرؤية والملامسة، وبين الوعد والتحقق. 

ويأتي الضحك في هذا المشهد بوصفه استجابة معرفية لا انفعالية، تُعلن لحظة الانكشاف وتفكيك الوهم.

تكثيف

يمكن القول إن النص يوظف التجربة العاطفية بوصفها أداة تأويلية لفهم الخيبة السياسية والوجودية، حيث لا يُقدَّم الألم الشخصي كغاية سردية، بل كوسيط كاشف لآليات الخداع والخذلان. وبهذا المعنى، يتحول السرد من اعتراف فردي إلى خطاب نقدي غير مباشر، يستخدم الحب لغةً بديلة لقول ما يتعذر قوله مباشرة في المجال السياسي.

مقاربة سياسية

نص “صدمة استقبلتها بقهقهة” من منظور سياسي هو مجازًا للوطن والحلم السياسي، حيث يساوي الحب المأزوم الوطن/الحلم الوطني، والتردد والصمت يقابل الجمود السياسي والفساد البنيوي، والدبلة تساوي مصادرة القرار أو العبث بالوطن

وينظر للحب كجلاد كأنه الفشل المستمر والانكسار الجماعي، فيما البحث عن حب أكبر يقابل البحث عن قيادة أو مشروع بديل

أما الدمية فتساوي القيادات المصطنعة أو المشاريع الوهمية، وينظر للقهقهة باعتبارها الوعي النقدي والمقاومة الرمزية للعبث. 

وبذلك يتحول النص من اعتراف وجداني فردي إلى صرخة سياسية وجودية ضد “الخداع، الخيانة، والخذلان”، ويقدّم نموذجًا للكيفية التي يمكن أن يُوظف فيها الألم الشخصي بوصفه لغة للتأويل السياسي.

شخصية الراوي

تستنبط شخصية الراوي من داخل النص نفسه، لا بوصفه أحمد سيف حاشد كشخص عام، بل كما تكشفه اللغة، والاستجابات، وآليات الشعور في هذه الحلقة تحديدًا. 

يظهر حاشد في النص كشخصية حسّاسة، نقدية، عالية الوعي، تتأرجح بين الهشاشة والصلابة. 

حساسية شعورية مرتفعة

أول ما يطفو من النص هو فرط الإحساس. الراوي لا يشعر بالحدث، بل يُستباح به. ردة فعله على الدبلة ليست انزعاجًا أو حزنًا عاديًا، بل انهيار كوني. 

يميل حاشد إلى التماهي الكامل مع التجربة، فهو من طينة الأشخاص الذين إذا أحبوا، أحبوا بكل كيانهم، وإذا خسروا، خسروا أنفسهم مؤقتًا.

الكتمان والتردد

من خلال اعترافه الصريح، تبدو شخصية حاشد بأنها لا تبادر بسهولة، تخشى الحسم، وتؤجل القرار بدافع الحياء أو الخوف من الانكشاف، والتردد هنا ليس ضعف إرادة، بل صراع داخلي بين الرغبة والخوف.

هو إنسان يفضل الألم الصامت على مخاطرة الرفض العلني، ما يجعله عرضة لخسارات مؤلمة ومتأخرة.

قاسٍ تجاه الذات

حاشد لا يبحث عن مبررات، بل يدين نفسه، ويسخر من حيائه، ويعترف بفشله دون تلطيف.

وهذا يدل على شخصية: عالية الوعي، لا تجيد الكذب على نفسها، وتمارس جلد الذات بوصفه شكلاً من أشكال الصدق، هو لا ينهزم لأنه خُذل فقط، بل لأنه يفهم لماذا خُذل.

وجودي يرى الحب كامتداد للذات

في النص، الحب ليس علاقة اجتماعية، بل: معنى، هوية، مشروع حياة. 

وهذا يكشف شخصية: وجودية التكوين، تبحث عن المعنى لا عن المتعة، وترى في الحب خلاصًا، لا ترفًا. 

لذلك يتحول الحب عند خسارته إلى: عبء، مرض، جلاد، لأن ما فُقد ليس الآخر، بل المعنى الذي علق عليه وجوده.

كبرياء داخلي مستتر خلف التواضع

رغم الانكسار، نلمح كبرياءً عميقًا: رغبة في “حب أكبر”، بحث عن انتصار “ساحق”، ورفض أن تكون الخسارة هي الكلمة الأخيرة. 

هذه ليست نرجسية سطحية، بل: كبرياء مجروحة، حاجة لاستعادة القيمة الذاتية، اذا هو شخص لا يحتمل أن يُختزل في تجربة فاشلة، ويسعى – ولو بمكابرة – إلى إعادة تعريف نفسه.

روح ساخرة كآلية مقاومة

التحول إلى الضحك في النهاية ليس عابرًا، هو يكشف عن شخصية: تمتلك حسًا ساخرًا عاليًا، قادرة على تحويل الإهانة إلى مفارقة، تستخدم السخرية كدرع نفسي. والضحك هنا ليس خفة، بل ذكاء عاطفي متأخر.

وهذا النوع من السخرية غالبًا ما نجده عند: أشخاص عانوا كثيرًا، لكنهم لم يفقدوا قدرتهم على المراقبة والتهكم. 

شخصية تركيبية لا بسيطة

من مجمل النص، نواجه شخصية: صلبة في الوعي، منكوبة في الشعور، ومتماسكة في الإدراك

حاشد هو إنسان: يتألم بعمق، يفهم ألمه، ويعيد صياغته كتابةً وضحكًا. 

تكثيف

يمكن تلخيص شخصية أحمد سيف حاشد من النص، بأنه حساس حدّ الألم، متردد حدّ الخسارة، واعٍ حدّ القسوة على الذات، وجودي في نظرته للحب، وصاحب كبرياء مجروحة لا مستسلمة، ساخر بوصف السخرية خلاصًا لا تهربًا. إنه شخصية لا تنجو بسهولة، لكنها لا تموت داخليًا.

جملة جامعة

في الحب كان أحمد سيف حاشد إنسانًا كامل الهشاشة، وفي الكتابة كان مثقفًا كامل القسوة، وفي النهاية كان ساخرًا أنقذ نفسه بالضحك.

مقارنات

فيما يلي مقارنة بين شخصية الكاتب كما تتجلى في هذا النص، وبين نماذج عربية بارزة عاشت التوتر نفسه بين الحب، الوعي، والهزيمة، دون إسقاط أو تعسّف. 

غسان كنفاني

الهزيمة الخاصة بوصفها مدخلًا للوعي

نقطة الالتقاء: كلاهما يرى الهزيمة حدثًا كاشفًا لا عارضًا.

الخسارة ليست نهاية، بل لحظة إدراك قاسية.

نقطة الاختلاف: كنفاني يحوّل الهزيمة سريعًا إلى سؤال جماعي/قومي. حاشد يبقيها داخلية، شخصية، وجودية قبل أي تعميم.

عند كنفاني: لماذا هُزمنا؟

عند حاشد: لماذا ترددت؟ ولماذا صمتُّ؟

جبرا إبراهيم جبرا

الحب كمرآة للذات لا كعلاقة

نقطة الالتقاء: الحب عند الاثنين تجربة معرفية.

المرأة ليست هدفًا، بل كاشفة لعمق الذات وهشاشتها.

نقطة الاختلاف: جبرا يميل إلى الجماليات والتأمل الهادئ.

حاشد يكتب الحب كـ صدمة وعنف داخلي.

جبرا يتأمل الجرح، حاشد ينزف وهو يصفه.

كلاهما وجودي، لكن جبرا ناعم، وحاشد خشن وصادم.

عبد الرحمن منيف

الخذلان بوصفه بنية لا حادثة

نقطة الالتقاء: وعي حاد بالخسارة المتراكمة.

إدراك أن الفشل نتيجة مسار، لا لحظة.

نقطة الاختلاف: منيف يسرد الخذلان في فضاء السلطة والمجتمع. حاشد يسرده في فضاء القلب والقرار الفردي.

لكن اللافت:

المكابرة عند حاشد تشبه عنادا منيفيًّا مصغّرًا  – عناد الذات أمام الانكسار.

نزار قباني (في لحظاته المنكسرة)

الفرق بين الجرح والشكوى

نقطة الالتقاء: مركزية الحب. لغة مشبعة بالعاطفة.

نقطة الاختلاف الجوهري: نزار يشكو المرأة. حاشد يشكو نفسه.

نزار يقول: هي التي فعلت. حاشد يقول: أنا الذي تأخرت

وهنا يتفوّق حاشد أخلاقيًا ونصيًا في عمق الاعتراف.

محمد شكري

الصدق الجارح دون تزيين

نقطة الالتقاء: جرأة في كشف الهشاشة. عدم تجميل الفشل.

نقطة الاختلاف: شكري يكتب من قاع اجتماعي فجّ. حاشد يكتب من قاع نفسي مؤلم.

كلاهما لا يتعاطف مع نفسه كثيرًا، لكن حاشد يحتفظ بخيط أخلاقي ووجداني واضح.

موقع حاشد

يمكن القول إن شخصية حلشد هنا تقع في منطقة وسطى نادرة بين: وعي كنفاني، وجودية جبرا، عناد منيف، عاطفة نزار دون شكواه، صدق شكري. 

لكن مع فارق حاسم:أحمد سيف حاشد لا يكتب الحب لتمجيده،

بل ليحاسب نفسه من خلاله.

خلاصة جامعة

هذا النص لا ينتمي إلى أدب الغزل، ولا إلى السيرة العاطفية التقليدية، بل إلى أدب الهشاشة الواعية، حيث لا يكون البطل منتصرًا، ولا مهزومًا بالكامل، بل إنسانًا يرى سقوطه بوضوح، ويضحك في النهاية.

نص “صدمة استقبلتها بقهقهة” 

أحمد سيف حاشد

خُطبت “هيفاء” من قبل زميل لها في ذروة حبي لها في الجامعة.. لم أكن أعلم بواقعة الخطوبة، ولكني فقط لمحت دبلة الخطوبة في إصبعها.. كان وقع الصدمة أشبه بوقع الصاعقة.. شقتني نصفين.. سحقت روحي بمجنزرة.. تطاير رأسي كزجاج وقعت عليه صخرة من شاهق.

أحسست أن “الدبلة” التي في إصبعها تطوق عنقي كحبل مشنقة.. الأرض على اتساعها باتت أضيق من خرم إبرة.. خيبة كبيرة تخنق أحلامي بقبضة من حديد.. صدمة تداهم عيوني بزغللة تنتهي بسواد يشبه الموت.. أطبق ملك جبال الأخشبين على أنفاسي.. أحسست أن وجودي بات معدوماً، وأن مستقبل حبّي آل إلى بدد.. إحباط اجتاحني كطوفان نوح.. أحسست بعظيم الندم، وحسرة تتعدّى أطراف الكون.. فقدان وضياع لا حدود له.

تذكرت مثلاً شعبياً كرره أكثر من مرة الدكتور أحمد زين عيدروس بمناسبات مختلفة في قاعة المحاضرات، وهو مثل يُضرب فيمن يستحي من ابنة عمه.. مثل شعبي لاذع ومقذع يدين الحياء ويصعق صاحبه. وهناك مثل أفريقي يقول: إن الرجل الذي يتسكع حول فتاة جميلة دون أن يتحدث عن نواياه، ينتهي به الأمر إلى جلب الماء للضيوف في حفل زفافها.

أدركني اليأس وصدمتني الحقيقة.. صدمني الواقع بما لا أتوقعه، فيما كان في ظل سلبيتي وترددي يجب أن أفترضه وأتوقعه.. ما حدث كان طبيعياً، وهو الراجح حدوثة، طالما ظللت متردداً ومراوحاً في نفس المكان، ثابت فيه دون مغادرة أو زحزحة، أنتظر دون أن أتخذ قراراً، ودون تحديد زمن لاتخاذ مثل هذا القرار.. كانت خيبتي في النتيجة كبيرة، وكان فشلي في هذا الحب بالغاً وذريعاً.

أحسست أن حبي لهيفاء بات عبئاً يسحق كاهلي.. لم أعد أقوى على الخلاص منه.. سكنته وسكنني حتى بلغ مني، وصار كلِّي وجل تفاصيلي.. تحول الحب الكبير بنقصانه إلى نكبة مضاعفة تلاحقني أينما ذهبت وحللت.

صرتُ منكوباً بهذا الحب الذي احتلني، ولم أستطع الخلاص منه.. صرت أعيش ورطته التي لا فكاك ولا حيلة للنجاة منه.. أسأل نفسي: من ينقذني من قيعان هذه الورطة السحيقة؟! لا حبال ولا سلالم ولا حانية تمدُّ يدها لتنتشلني من جحيمي ومما أنا فيه.

الحب الذي بدأ عظيماً انتهى إلى جلاد يعذب الروح والجسد.. داء عضال لا أعرف كم أحتاج من السنين لأتعافى منه، وقد بات كبيراً بحجم المستحيل.. غربة مطبقة لا أعرف كيف الخلاص منها، وكيف يمكنني أن أغادرها وهي تحيط بي من كل صوب واتجاه.

أسأل نفسي: كيف يمكنني أن أتجاوز غربتي وهذا الحصار الذي بات شاهقاً سوراً على سور، وحزني الذي أعتله صار أكبر من صاحبه، وما بقي منّي لم يعد يقوى على حمل بقاياي، فمن هذا الذي يحملني ويحمل حزني الذي أحمله؟!! لم أعد أقوى على حمل حطامي، ولا قدرة لي على استجماع بقايا قواي، وأشتاتي المبعثرة في القيعان السحيقة.

*​*​*

ورغم حطامي وبعثرتي وحزني الوخيم، استجمعت إرادتي وأشتاتي، وما بي من احتقان بدا لي أكبر من مُهين مهول.. أردت التحدِّي والمكابرة حتى وإن بلغتُ بمكابرتي الموت الغليظ.. أردت البحث عن فتاة لا تشبهها فتاة في الوجود.

أردتُ أن أستعيد كبريائي التي تخليتُ عنها ذات يوم مع من احب.. أردتُ بذل المحاولة لاستعادة وجودي المسلوب دون رغبتي وإرادتي.. أبحث عن استعادة أمل كان قد تحول فقدانه إلى خيبة تبتلعني كل يوم.. قررت أن أبحث عن حب أكبر بكثير مما فقدت.

وفيما كنت أستعرض أمام زميلي عبيد صالح الشعيبي، أوصاف الفتاة التي أبحث عنها وأريدها زوجة لي، وهي كما بدت أوصاف غير موجودة، بل ومستحيلة إلا بقدر.. فاجأني بقوله: “وجدت فتاة تناسبك وبالمواصفات التي تبحث عنها”.

بدا الأمر بالنسبة لي أشبه بتحقيق معجزة.. كان كلام عبيد عن الفتاة التي قال إنها تناسبني مملوء بالجدية والثقة الغامرة والأكيدة، حتى قلتُ في نفسي: ما أعظم حظاً سيأتي لأفوز بحب يتعالى ويزدري كل حب مرَّ بي.. سيكون انتصاراً ساحقاً لا سابق له في الحب والحرب.

كدتُ أطير من الفرح.. شعرتُ أن الدنيا تبتهج في عيوني مرة أخرى، بعد أن أحلكت سواداً وقتامة، وأطبقت عليّ خيبة كبيرة وعريضة.. توقعت أن القدر يريد أن يعوضني عمّا فات من معاناة، وعن خيباتي التي تكاثرت، وبأحسن مما طاله الفقدان.

صديقي عبيد بذلك الكلام أحياني وبعثني من حطامي، وهو يصفها كرسام ماهر ومحترف، وهو لا يعلم حقيقة ما أعانيه في كتماني من الحب الذي تركني نهبا لأسواط العذاب.. ظننتها وهو يصفها حورية من السماء، وبقي السؤال الذي يرفسني من الداخل دون أن أبوح به: كيف لفتاة بوصفه أن تفلت من عيون البشر، وقبلها من قلب عبيد وعيونه؟!

لقد كانت لكلمات صديقي عبيد وهو يقول: “وجدت من تناسبك”.. وقعها على نفسي، أشبه بوقع كلمات أرخميدس وهو يقول “وجدتها.. وجدتها..” كنت أستعجله وألح عليه أن يعجل بلقائنا وهو يرجئ المواعيد.. كنت أصبّر نفسي وأقول: وهي بتلك الأوصاف، فإنها تستحق مني الصبر والانتظار والجعجعة، فيما لهفتي لها كل يوم، كانت تكبر وتتضاعف وتشتد.

وعندما جاء الموعد الأكيد، حط بنا الرحال في “زعفران كريتر”.. كانت لهفتي تسبق خطواتي وتستحثها على أن لا تتأخر.. لهفتي تزداد لمن أظنها عوض الرب، والمنتهى لما سيستقر عليه خياري.. أوقفني عبيد فجأة، وأنزاح جانباً كمن ينصب كميناً، أمام معرض تجاري فخيم، لبيع ملابس نسائية جاهزة، ثم همس بأذني: “إنها تلك التي خلف الزجاج”.

لم أشاهد خلف الزجاج أي فتاة .. ولمّا لم أستوعب الأمر أشار إليها بالبنان، وقال: “هذه هي من تبحث عنها وتناسبك”.. 

الحقيقة لم تكن فتاة وإنما كانت دمية على هيئة فتاة جميلة بملابس أنيقة.. وبقدر شعوري بالغضب وبالمطب الذي صنعه لي صديقي، انفجرنا بالضحك معاً.. كانت ضحكتي أكثر دوياً وجالبة للانتباه والفضول.. شاهدنا المارة وهم يتطلعون إلينا بفضول وتساؤل!! مشدوهة عيونهم نحونا، دهشة وغرابة تعلو وجوههم جعلتنا ندرك أننا في شارع عام.

*​*​*

زر الذهاب إلى الأعلى