تحليلات

إعادة تصميم اليمن كقنبلة.. عبد العزيز المجيدي

يمنات – متابعات

كان علي عبد الله صالح معجبا بطريقته في جلب المال، من الخارج إلى خزائنه، وكان خلال سنوات حكمه الأخيرة يحلو له الحديث عن اليمن باعتبارها "قنبلة موقوتة".

هو كلام لا يمكن أن يصدر عن أي رئيس مهما تردى في السوء، لكن رجلا هذا شانه كان ليفعل كل مالا يخطر على بال، وكان حلفاؤه بالتأكيد من الجيران ودول غربية يعرفون كيف يستغل صالح موارد اليمن، ويساعدونه على ابتزازهم بهذه الطريقة لكي يستمر كحليف يحافظ على وضع إبقاء البلد " كقنبلة".

كانت الثورة في اليمن كفيلة بتغيير اللعبة، لكن قوى إقليمية ودولية كانت تخشى أي تغيير حقيقي قد يفضي إلى وجود دولة مهابة الجانب، فالبلد يتوفر على موقع جغرافي مميز وغني بالموارد المختلفة، على غير ما يُصور، ولديه مخزون بشري كبير، لكنه يفتقد لنخبة سياسية واجتماعية مخلصة ونزيهة.

قطعا، كانت موجة "الثورات " بالنسبة للإقليم وقوى دولية كبرى مفاجئة، وحين أخذت الرياح تتفاعل في اليمن، كان لا بد من تحرك عملي لقوى لها تاريخ وتعرف كيف تغير مسار الأحداث في هذا البلد غير المحظوظ بساسته ونخبه، فكانت المبادرة الخليجية .

نجحت هذه الخطة في تبديد "الثورة" بلحظتها التاريخية الفارقة وقضت على روحها، وكل ما فعلته حتى الآن هو السير في طريق إعادة بناء صيغة " الدولة القنبلة " وهو تحضير كما يبدو لدفع البلاد إلى أتون حرب أكثر فتكا وتمزيقا.

لا اعتقد أن مؤلف كوميديا سوداء خطر بباله ما يجري في اليمن اليوم، كما فعلت " المبادرة "، فالرجل الذي يفترض انه لم يعد رئيسا وتنحى عن السلطة (محصن من الملاحقة عن كل جرائم القتل ونهب البلاد ولديه وسائله الإعلامية، ويتملك حزبا يسيطر على نصف الحكومة، و يهيمن بواسطة ابنه على قسم من الجيش) ويحشد أنصاره كما لو كان يدشن طورا جديدا من حياته السياسية.

 يقابله شريكه الآخر، ابن بلدته، اللواء علي محسن، ممسكا بنفس القوة التي انشق بها لا لينضم للثورة كما قال، بل للسيطرة عليها من الداخل، وهذا ما تأكد فعليا حتى الآن. باختصار، صالح ومحسن مستمران، بصورة أو أخرى بشراكتهما القديمة ، محتفظان بنفس الوقت بتحالفاتهما السياسية ذاتها مع تعديل طفيف في الخارطة.

بسبب ذلك، يعود الصراع في اليمن اليوم، إلى سيرته الأولى، وتتعمق الانقسامات بصورة أفدح بين قواه ومناطقه، وجهاته، ونشهد تسخينا غير مسبوقا يدفع الشمال والجنوب إلى استعادة دورة الحرب الدامية البغيضة في 94م، قبل أيام فقط على مؤتمر حوار وطني، لا يبدو مهيأ للعب دور المخلّص !

من نفس المكان الذي أطلق منه خطاب الحرب في 94، في ميدان السبعين، يعود صالح ليسجل حضورا في لحظة بالغة الخطورة والحساسية ، كما لو كان يذكر بالتحالف الذي واجه به الجنوب وقتها.

بعد مشهد مسرحي، حاول من خلاله ذرف الدموع على الجنوب والجنوبيين الذين قتل صالح منهم المئات، في مواجهة حراكهم السلمي، وكان هو الصانع الأول للمشكلة الكبيرة هناك، خلع الرجل لباس التمساح، الذي كانه قبل أيام من حشد "السبعين" القريب من دار الرئاسة، وأطلق رسائل باتجاهات عدة، مهاجما الحراك، عازفا على وتر العداء لإيران، واتهام طهران بدعم بعض الفصائل الجنوبية المطالبة بالانفصال.

 

علاوة على كون الفعالية شكلا من استعراض العضلات، ضمن مساحة التوتر التي ترعاها "المبادرة " من الواضح أن رسالة الحشد الرئيسية كانت موجهة للجنوب أولا. لذلك كانت دعوة صالح، إلى "التصالح والتسامح " كما لو كانت صيغة شمالية للملمة فرقاء حلف العقود الفارطة ، مقابل الفكرة الجنوبية نفسها التي بزغت مطلع 2007 بهدف إغلاق ملف صراع 13 يناير، وكانت دعوة " التصالح والتسامح " بذرة الحراك الجنوبي.

تكتسب دعوة صالح أهميتها من كونها جاءت في جو عاصف من المشاحنات، والتعبئة بين قوى الحراك الجنوبي و حزب الإصلاح بعد أحداث دامية نجمت عن فعالية أقامها الأخير في عدن في 21 فبراير، لقيت استهجانا واسعا.

لقد أجبرت انتفاضة اليمنيين، شركاء الحكم، القبليين والعسكريين، وهم في معظمهم نخبة تنتمي إلى قبيلة حاشد، على التخلي عن بعضهم ولو بصورة مؤقتة.

وشكل حزب الإصلاح، واللواء علي محسن، مع عائلة الشيخ الأحمر الجزء الأكبر من هذا التحالف الذي أعاد تموضعه الحاسم ضمن "قوى الثورة".

الثمن الوحيد الذي دفعه هذا الحلف، هو تنحية صالح فقط من الرئاسة مع ضمان مشاركته في القسمة من خلال نجله احمد وحزب المؤتمر.

هذا الحلف يتوزع صوريا الآن على ضفتي اللواء علي محسن وصالح لكنه في الواقع يبدو كتلة واحدة فيما يخص الجنوب. في هذا الصدد لا يمكن التفريق بين خطاب صالح والإصلاح.

لا يلتفت هذا الأخير إلى المشكلة العميقة في الجنوب إذ كان شريكا في إنتاجها مع صالح، وله تحفظات بخصوص المعالجات المفترضة، وهو لا يتحدث عنها إلا لماما وفي سياق عابر، مكرسا كل طاقته للتهليل باسم"الوحدة" ومهاجمة "الحراك الانفصالي" أحيانا و"المسلح" أحيانا أخرى.

ضمن مشهد التجاذب هذا، وعلى وقع صراع إقليمي محتدم، قد تصبح "الوحدة"، لافتة جديدة يقاتل تحت رايتها ذات الحلف، دفاعا عن مصالحه الضخمة وغنائم "النهب" في الجنوب، حيث تتهددها مخاطر "الانفصال" بلغة الشمال، وفك الارتباط بلغة البيض والحراك.

 

هذه الأطراف جميعا (عائلة صالح وكبار الضباط من سنحان وحاشد واللواء علي محسن وأسرة الشيخ الأحمر، وقيادات حزب الإصلاح بجذره الإخواني، المتشبثة بمواقعها منذ تأسيسه، والمرتبطة بمصالح متشابكة وحلف قديم مع أطراف اللعبة) قد تتشكل كجبهة واحدة عودة إلى مشهد 94م، في مواجهة حراك جنوبي يتوزع على غريمهم القديم علي سالم البيض وفصائل أخرى معظمها تتفق على هدف "استقلال الجنوب واستعادة الدولة" وتتباين في بعض التفاصيل .

تتغذى هذه الأجواء العاصفة والمشحونة بالتوتر، بصورة رئيسية من " التسوية" فقد تركت المشهد سائلا بالكثير من التداعيات، وكل هذا الوقت الذي التهمته الوصفة "الخليجية " المخادعة، ذهب سدى بلا حل فعلي للمشكلة الأخطر في الجيش والأمن، واختطفت السياسيين والأحزاب إلى لعبة توزيع غنائم، كرست الفساد الذي أثخن حياتنا، وتدفع باليمن نحو مآلات كارثية.

لا نعلم كيف يمكن الحديث عن نقل "سلمي للسلطة" هو جوهر المبادرة، في حين يتم شرعنة تقسيم اخطر مؤسسة (لعسكرية ) في بنية السلطة وأداة رئيسية في ممارستها، وتحويلها إلى حيازات شخصية لمصلحة أقطاب نظام صالح نفسه؟

بفضل سيطرته على الأجهزة الأمنية والعسكرية طيلة عقود، هيمن صالح وحلفائه على كل شريانات الاقتصاد الوطني، ومدوا شبكتهم الأخطبوطية على كل موارد البلاد، من النفط والغاز و الثروة السمكية إلى قطاع المقاولات، والتجارة وحتى البعثات الدراسية.

داخل شبكة المصالح هذه يمكن فقط إضافة الموارد المالية الضخمة المدونة في سجلات عشرات الآلاف من المجندين والأفراد الوهميين في الجيش وأجهزة الأمن.

لذلك لم يعد يعني استمرار بعض أفراد عائلة صالح كأحمد علي واللواء علي محسن في الجيش سوى أن اقتسام اليمن سيستمر على كل المستويات، وستظل كل المصالح غير المشروعة لهذه الأطراف متدفقة. صيغة التقاسم هذه تأتي في إطار إعادة تصميم "الدولة القنبلة" وإعادة تفخيخ البلاد بصورة لائقة، بسذج يعتقدون أنهم قاموا بنصف ثورة، وان أمريكا والخليج حملوا على عاتقهم إكمال النصف الباقي، وما على اليمنيين سوى استلام أهداف " الثورة " جاهزة في شوالة !

لقد تجرع اليمنيون كأسا مسمومة، حين جرى تسويق المبادرة تحت لافتة المخاوف من " اندلاع حرب أهلية في اليمن" وهي في أوج نضجها ووهجها النقي.

كانت معطيات الثورة على الأرض تقول إن اليمنيين لم يكونوا متّحدين ومتجردين من نزعاتهم كما كانوا في الأشهر الأولى من الانتفاضة.

"الثورة" وحدها في طورها الأول كشفت كم كان اليمنيون بحاجة لهذه اللحظة، فهي الوسيلة الوحيدة التي صهرت اليمنيين وقتها بكل انقساماتهم وصراعاتهم، في هوية وطنية جامعة، ذبحها الساسة من الوريد إلى الوريد طيلة عقود.

تناسي الجنوبيون، نزعتهم، والقبائل ثاراتهم، وذاب الحوثيون في تفاصيل المشهد، وكان الجميع يحرسون بعضهم في الساحات، والمسيرات، فالنظام الذي سامهم الشرور وعمل فيهم تمزيقا كان هو نفسه يجمعهم، وكان شعار: الشعب يريد إسقاط النظام، بمثابة السحر الذي قلب الوضع رأسا على عقب.

كانت نقطة الضعف الذي تسللت منه هذه الخدعة، قوى سياسية لديها دائما حسبة خاصة، مارست شكلا من الاقتحام "للثورة" واستقوت بأدوات تنظيمية حزبية فائقة، على عفوية الناس العاديين الذين شكلوا روح " اللحظة " وانتهت "حكاية أطيب ثورة" بالسيطرة الكلية على مسارها من الداخل وضبط إيقاعها الساخط، لتصبح أقل من ورقة تفاوض، يلقى بها عند كل صفقة !

 

غدت "الثورة" لدى صنف من هؤلاء، أقرب إلى كونها فرقة قردة، تقفز من مكان إلى آخر، لتقديم عروض رثة ضمن لعبة "الدروع " السخيفة، وتكريم "الرموز". "يفقش" رأس الثائر احمد سيف حاشد، ويكرم الشيخ صادق وعلي محسن !

بسبب سياسيين يتحكمون بقرار أحزاب فاعلة في الساحة، ويرتبطون بمصالح متشابكة ومعقدة مع نخبة الحكم التي انتفض ضدها اليمنيون، تحولت البلاد إلى مسرح عرائس تتحكم بخيوطه أطراف خارجية لا تهتم إلا لمصالحها.

لقد أظهر المجتمع الدولي حرصا زائفا على السلم في اليمن، وهو مستمر في لعبته المميتة، فهو لم يفعل شيئا لمواجهة المعرقلين الحقيقيين "لنقل السلطة" خصوصا الماسكين بزمام القوة العسكرية، ويتفرج على عمليات نقل وتفجير مخازن أسلحة من المعسكرات، ما يجعلنا نشك حتى في حقيقة الحرب على الإرهاب، وتنظيم القاعدة، المستفيد من خارطة الفوضى هذه كما يقولون دائما.

هناك شحنات أسلحة متعددة المصادر تتدفق على البلاد، ويجري سرقة وتوزيع الكثير من عتاد المعسكرات، على ميليشيات ومجاميع بالتأكيد لا تستعد للذهاب للصيد(!)

حتى الآن لم يفعل رعاة المبادرة ما يؤكد أن الدافع الذي يحركهم، هو الخشية من انزلاق اليمن إلى الفوضى والحرب، بل إن ما يحدث هو تنضيج شروط وظروف الوصول إلى تلك اللحظة، ودفع كل التناقضات إلى نهايتها.

نجحت المبادرة، في الهاء اليمنيين عن الثورة، وقادتهم إلى الغرق في قضايا هامشية واقتسام "الفساد" بين أطراف اللعبة السياسية، في حين تتفاقم مشاكلهم الكبيرة في الجنوب وصعدة، ويتغول الانفلات والقتل والحروب القبلية، وبدلا من تجنيبهم حربا أهلية كما زعمت، ها هم يقتربون منها شيئا فشيئا.

كانت الثورة هي طوق النجاة بالفعل للبلد، أما المخاوف التي اخذ السياسيون يروجونها، في أوساط العوام، اندماجا في لعبة " التخويف" الإقليمية والدولية ، فلا أساس لها، وعلى العكس فقد كانت " المبادرة " مدخلا إلى الحرب من أول وهلة، إذ أن صيغة الاقتسام التي جلبتها، أعادت حمى المنافسة بين قوى وتحالفات إلى عهدها الأول، بينما أخذ مشهد الثورة في التشظي.

في ذروة اشتعال الثورة عجز صالح، عن جلب خصوم إلى معركته المتعثرة وأصابته سلمية الثورة في صميم نظامه، و بعد نحو شهرين فقط من المبادرة اشتعلت الحرب في الحصبة مع أبناء الشيخ وتاليا مع الفرقة واللواء محسن.

مع ذلك ففي أسوأ مآلات الثورة، إن كانت جنحت للحرب على ما ذهب المرجفون لاحقا، فإن الناس كانوا سيقاتلون كثوار يضحون من اجل إزاحة أبشع منظومة فساد واستبداد من طريق أبنائهم، وسيموتون كشهداء على الأقل. أخشى أننا نتحضر لحرب بلا أخلاق أو غايات نبيلة بين متقابلات غبية، وسخيفة على شاكلة: شمالي وجنوبي، إصلاحي ، حوثي ، سلفي، انفصالي وحدوي… وقتها لن يكون اليمني قد خسر ثورته فحسب، بل وحرم حتى من نبل قضيته كثائر، وسيقاتل كـ"متفيد" أو متعصب.

إذا كانت القوى الدولية، لن تسمح بذهاب اليمن إلى حرب حقا، فما هذا الذي يحدث والى أين تمضي البلاد؟

اعتقد أننا نبالغ في تقدير أهمية بلدنا بالنسبة لمصالحهم، فهذه القوى لديها القدرة دائما على حماية وتأمين مصالحها من أي مخاطر ناجمة عن انهيار الأوضاع في اليمن أو في أي بلد آخر، مهما كانت حساسيته. لسنا أفضل من سوريا يا سادة كي يضع العالم يده على قلبه من اجلنا.

زر الذهاب إلى الأعلى