اتخذت السعودية قرارها بوقف دعمها للجيش اللبناني دون تحديد الاسباب وتركت الفضاء مفتوحا لمحاولة فهم هذه الخطوة و بالفعل انشغل المحللون السياسيون بصورة ملفته بهذا القرار ودلالاته و توقفوا عنده كثيرا.
يظل فهم منطلقات اتخاذ هذا القرار نقطة غاية في الاهمية ، فتعقيدات الوضع السياسي في لبنان تجعل من خطوة كهذه غير عادية و لها مدلولاتها وتبعاتها السياسية التي يجب توقعها و الاستعداد لها ، فكل الحرائق في لبنان تبدأ بتفصيل سياسي ، ولهذا فإجابة السؤال الطبيعي الذي يتبادر فورا و هو ما الذي تريده السعودية من وراء قرار كهذا هو امر في غاية الاهمية.
قبل ايام من اتخاذ القرار السعودي كان هناك خطاب للسيد حسن نصرالله و ما هو ذو علاقة – ظاهرا على الاقل – بالسعودية فيه هو الهجوم الذي شنه عليها ، و لكن كان في خطابه نقطة اخرى ذات اهمية قصوى وهي حديثه عن ان المقاومة في اكمل جهوزيتها لأي مواجهة مع الكيان الاسرائيلي و كشف في هذا المجال لأول مرة منذ دخول المقاومة بصورة مباشرة في سوريا ان جهوزية المقاومة تطورت بشكل كبير و قلب المفهوم الذي حملته خطابات سابقة له بأن الامر متوقف عند حفاظ المقاومة على جهوزيتها لأي مواجهة مع الكيان الاسرائيلي ، و بمعنى ان الامر ليس ان التدخل في سوريا لم يوثر على جهوزية المقاومة وانما لم يؤثر على تطوير هذه الجهوزية ايضا.
تشارك السعودية في ادارة حروب وازمات عدة في سوريا و ليبيا والعراق و تخوض بشكل مباشر حربا في اليمن. وهنا يقوم احتمال ان السعودية استنزفت مواردها و لم يعد لديها القدرة على الاستمرار في تمويل الجيش اللبناني ، كما يحتجز لبنان اميرا سعوديا على خلفية جريمة تهريب مخدرات و فشلت محاولاتها في الافراج عنه وبالتالي يقوم احتمال ان السعودية امتعضت من “عدم مجاملة” لبنان لها و الافراج عن اميرها وقررت وقف “مجاملتها” للبنان بالدعم الذي تقدمه لها ، وكان السيد حسن نصرالله قد شن هجوما على السعودية في اكثر من خطاب كان أشرسه هو الذي شنه في الخطاب الاخير السابق لقرار وقف الدعم ومن هنا يقوم احتمال ان السعودية” اخذت على خاطرها “وانها تقدم الدعم لدولة فيها ” من لا يقدر جميلها ” فأوقفت دعمها لان “لبنان لا يقدر الجميل” و “ما يستاهلش” ، كما ان لحزب الله حضور جوهري في الساحة اللبنانية و عامل رئيسي من عوامل اتخاذ القرار في الدولة والحكومة اللبنانية و هناك عدم رضى او خصومة بين السعودية وبين هذا المكون اللبناني وتريد ان تدخل لبنان في ازمة ذات صلة بموارد مؤسسة من اهم المؤسسات اللبنانية و التي تحظى بتقدير كبير من جميع اللبنانيين ما سيمثل ضغطا على حزب الله “للفرملة” تجاه السعودية كيما يستعاد هذا الدعم ، وهناك بالطبع غير ذلك.
لا يمكن رسم ملامح مقنعة للقرار السعودي بالنظر الى المشهد اللبناني الحالي و خصوصا فيما يتعلق بالدعم السعودي عند نقطة وقف هذا الدعم ، لان هذا الدعم له وضع خاص لا يمكن تجاهله لفهم سبب وقفه بل لا يمكن فهمه بقدر كبير من السلامة مالم يتم العودة الى بدايات هذا الدعم ، فمعرفة كيف جاء هذا الدعم مسألة مهمة جدا لترجيح سبب ما – من بين كل الاسباب المحتملة – بأنه هو الذي يقف وراء قرار وقف الدعم.
كان الجيش اللبناني يحتاج الدعم بالفعل و في ظل السياسات التي يتبعها المحور الذي تنتمي اليه السعودية تضل مسألة دعم اي جيش عربي امر فيه تحفظ كبير فضلا عن جيش على حدود الكيان الاسرائيلي، و خصوصا انه لا سيطرة لحلفاء السعودية على هذا الجيش و لم تكن لتقدم له الدعم انطلاقا من مفهوم دعم حلفائها في لبنان. و لكن كيف قدمة السعودية الدعم لهذا الجيش مع الموانع المذكورة اعلاه..؟ والكفيلة بعدم تصور ان تدعم السعودية الجيش اللبناني.
امام الاحتياج الحقيقي للجيش اللبناني للدعم بدأت لعبة الفرص المتاحة و بالنظر للسياسات المتبعة في المنطقة التي تحكم سياسات الدول القادرة على تقديم الدعم لم يكن هناك الا فرصة واحدة لتوفير هذا الدعم وهي قبوله من مصدر يعد اكثر خطرا على السياسات في المنطقة من خطر تقديم تنازل فيما يتعلق بدعم هذا الجيش بالذات.
تحدث السيد نصرالله في خطابات سبقت تقديم السعودية دعمها حديثا واضحا ومحددا وقدم عرضا جديا لدعم الجيش اللبناني من قبل ايران، وهذا الامر نظرت اليه السياسات المتبعة في المنطقة خطرا لا يمكن التعامل معه او القبول به واتخذ القرار بان تخترق قاعدة التعامل مع الجيوش في المنطقة بغرض قطع الطريق على الدعم الايراني الجاد والجاهز وسارعت السعودية بتقديم الدعم للجيش اللبناني ، و بلغة الواقع السياسي اللبناني قدمت الدعم لتفويت الفرصة على حزب الله في جلب دعم للجيش اللبناني من حليفه ايران ما سيحسب نقطة لإيران في ظل الصراع في المنطقة بين ايران من جهة والسعودية وامريكا من جهة ثانية.
بوضع ملابسات تقديم الدعم السعودي للجيش اللبناني في الاعتبار يمكننا استثناء الكثير من الفرضيات التي تعاملت مع هذا الدعم على انه مساندة من السعودية لجيش دولة عربية شقيقة وتجاهلت انه دعم ضمن مشروع سياسي، وكما كان قرار تقديمه ضمن مشروع سياسي فالمسار المنطقي ان وقفه ايضا هو ضمن مشروع سياسي.
ما تمر به السعودية من ازمة مالية سببها ما اقحمت نفسها فيه من صراعات وحروب على خلفية مشروعها السياسي في المنطقة لا يمكن ترجيحه كسبب لوقف الدعم في لبنان الذي يعد نقطة من اهم نقاط تنافس المشاريع في المنطقة، و لن توقف دعمها لعجز مالي في ظل وجود نقاط اخرى هي ايسر بكثير من وقفه في هذه النقطة (لبنان) بالذات ، كما ان تعثر محاولتها للأفراج عن اميرها الموقوف في لبنان ليست بالمسألة التي يمكن للسعودية ان تكسّر في سياساتها في المنطقة وفي ذروه احتدامها على خلفية احتجاز اميرها ، كما ان مهاجمة نصر الله لها لا يمكن ان يكون سببا في ان تتخذ قرار يمثل انسحاب من الساحة اللبنانية سيحسب لحزب الله وليس عليه في ضل صراع السياسات في لبنان ، ولا يمكن ايضا ترجيح ان الحضور الجوهري في الدولة والحكومة اللبنانية لحزب الله هو السبب لان وقف الدعم السعودي يعني استجلاب للفرصة التي سبق تفويته على حزب الله و التي ما اطيح بها منذ البداية الا بهذا الدعم ، كما ان حزب الله قادر على ان يتخلص من اي لوم يتعرض له تجاه موارد مؤسسة الجيش بطرح الدعم الايراني على الطاولة من جديد و ان تم فسيحسب انتصارا لإيران في مواجهة السعودية وامريكا في لبنان والمنطقة. و لذلك يضل السؤال قائما ما الذي دفع بالسعودية لوقف دعمها للجيش اللبناني..؟.
اعاد خطاب نصر الله السابق للقرار السعودي جهوزية حزب الله الى اولويات مدير سياسات المحور الذي تنتمي اليه السعودية بعد ان كان قد اعتقد ان فتح الحرب في سوريا و تدخل حزب الله المباشر فيها قد انعكس على جهوزية الحزب بوقف قدرة حزب الله على تطويرها كأقل تقدير الم يكن قد نال منها سلبا ، ولكن حديث نصرالله جاء ليقول العكس تماما ، وهو امر لابد له من ان يفرض تغيرا في خط السياسة الخاص بلبنان لمواجهة “خطر الجهوزية” لحزب الله.
كي لا اطيل اكثر سأفضي الى النتيجة بصورة مباشرة منطلقا من ان تقديم الدعم للجيش اللبناني كان ضمن سياسة و وقفه ايضا هو ضمن سياسة ، بمعنى ان هناك تغيرا في السياسة المتبعة في لبنان و ليس وقف الدعم الا مدخلا او تدشينا لهذه السياسة الجديدة.
ما يمكن توقعه هو ان وقف الدعم السعودي للجيش اللبناني سيكون النقطة التي سيتم الضرب عليها ليس لتحميل حزب الله مسئولية فقدان المورد كون حزب الله سيعوض المورد كما اسلفت وانما لإثارة جلبة بان تصرفات حزب الله مضرة بالمصالح الوطنية اللبنانية يستمر بعدها الضغط لمضاعفة الاحتقان السياسي الحاصل في لبنان اساسا و حلحلة الوضع هناك باتجاه الاضطرابات ووصولا الى صراع داخلي يضمن زيادة شغل وانهاك حزب الله و ضرب جهوزيته التي تمثل المهدد الاول لسياسات التطبيع في لبنان. و يمكن القول ان وقف الدعم السعودي للجيش اللبناني هو تدشين لمرحلة جديدة في صراع المشاريع في لبنان هي مرحلة اشعال الحرائق فيه.