أحداث يناير 1986 .. بسكويت وقذيفة مدفعية
يمنات
أحمد سيف حاشد
• يهبط الليل.. الشوارع خالية وموحشة.. الأشباح وحدها التي تتنقل بحذر وكلمة سر.. اطلاق نار متقطع.. دوي انفجار قذيفة مدفعية بعيدا نسبيا عن موقعنا، ولا أدري ماذا كان حصاد هذا الانفجار من نفوس وجنايات!!
• وبعد نصف ساعة صعقنا دوى انفجار عنيف ظنناه في العمارة التي نحن متواجدين فيها، وما لبثنا ثواني حتى غزت أنوفنا رائحة البارود النفاذة.. اطلينا من النافذة التي على الشارع العام.. شاهدنا دخان متصاعد كثيف من موقع انفجار قذيفة المدفعية التي أصابت الجزء الأسفل من مبنى مصرف اليمن، والذي لا يبعد عن بوابة العمارة المتواجدين فيها أكثر من خمسين متر، وعن المتحف العسكري بحدود المائتي متر.
• تسألت مع نفسي: ما هذا الجنون؟! منازل المواطنين لا تفصلها عن موقع الانفجار غير عشرات الأمتار.. منازل تكتظ بالأطفال والنساء والمسنين، والمدنيين العزل الذين ليس بمقدورهم تركها أو مغادرتها، فوجدوا أنفسهم في أتون حرب عمياء ليس لهم فيها ناقة ولا جمل!! كيف لبشر أن يستخدموا قذائف مدفعية عمياء من العيار الثقيل في لجة الليل، ترمى من مسافات بعيدة، على مدينة يكتظ في بيوتها ساكنيها؟!! إن كانت تلك المنازل قد اهتزت من وقع انفجار القذيفة على ذلك النحو، فإنه لاشك سيكون وقع صوت الانفجار على الأطفال والنساء مروّعا.. كيف لقلوبهم أن تحتمل كل هذا الرعب الباذخ الذي نزل عليهم كالصاعقة..
• سمعت صيحات هلع وصراخ أطفال ونساء انخلعت قلوبهم من دوي انفجار بهذا القرب الذي أذعرنا، وأوقع منّا قلوبنا نحن الكبار.. لطف القدر بسلامة رؤوسهم، ولكن حجم الهلع الواقع في نفوسهم ربما يفوق التصور.. وإذا كان القدر قد كتب النجاة لهؤلاء؛ فكيف حال الآخرين في مدن وأحياء التواهي وخور مكسر والمعلا، وغيرها من تلك التي كانت مسرحا لكثير من عشوائية القصف ونوبات الجنون..
• تذكرت لحظتها ذلك الطفل الذي يناهز عمره حوالي العشر سنين، حالما مررت في اليوم الثالث من الحرب في أحدى الأزقة.. طل من نافذة بيت قديم شبه مهترئ.. جدرانها مرقعة بالإسمنت تشبه تلك الرسومات التي كان يرسمها ناجي العلي على ثياب المواطن الفلسطيني والعربي المكدود..
• نوافذ البيت مشبّكة بألواح الخشب الرفيع على نحو متعاكس يترك مجالا لثقوب يستطيع الرائي من الداخل أن يراك دون أن تراه.. النافذة المفتوحة مزاحة عنها الستارة البيضاء على اليمين واليسار، ومنها طل الطفل البهي.. كان الواضح من الملمح العام للبيت أن من يقطنها أسرة فقيرة المال، ولكنها باغتتني بالطيبة والكرم..
• ناداني الطفل: “يا رجال.. يا رجال”.. تطلعت إليه فيما كان محياه مشرقا وابتسامته البريئة ترتسم على شفتيه.. أحسست أن خلفه امرأة مختبئة تهمس قرب أذنيه.. أخرج كيس نايلون وفيه شيء ما.. رمى به أليّ.. بدأت حذرا في مستهل الأمر، ولكن ما أن شاهدت أنه يحتوي على ثلاثة قراطيس بسكويت أبو ولد، دنوت نحوه وتناولته بيدي.. فيما كان رأس الطفل متدليا من النافذة، والابتسامة لازالت بهيجة على شفتيه.. أجبته: “هذا لي؟!” فأومأ لي برأسه أنها لي، وابتسامته الجميلة تزداد إضاءة على الشفاه..
• ارتسمت على وجهي فرحة طفل تشبهه.. شكرته من أعماقي.. امتنيت له بتكرار كلمة شكرا ثلاثة وأربعا.. أعظم هدية في حرب أن تقتات ما يسد به رمقك، فيما قواك تهتد وتخور من الجوع.. ما أطيب الفقراء وهم يحاولون مساعدتك، وما أهنأ نفوسهم رغم هذه الحرب التي تحاصرهم، وتثقل وطأتها على مقدراتهم، وحاجتهم الأشد في ظرف كهذا..
• غادرت المكان فيما استمرت لفتاتي إلى الخلف، ونظراتي ترمق الطفل بين حين وآخر، ألوّح له بيدي تحية وسلام ووداعا يليق.. وقبل أن أغيب في المنعطف، شاهدته هو أيضا يلوّح لي بسلام يبعث فيني الابتهاج، وينبعث منه شعور بسعادة غامرة..
• أحدث نفسي: يا إلهي كيف يجرؤون على فعل كهذا؟! كيف يطلقون للجنون العنان؟! كيف يقصفون بالقذائف أحياء ومساكن مكتظة بأهلها.. قذائف تهدد الأطفال وامهاتهم بحصد رؤوسهم وبعثرت أشلائهم، وهدم السقوف والجدران التي يحتمون بها من رعب مجهول أو محتمل، لتلقي أثقالها على رؤوسهم وأجسادهم المنهكة.. هؤلاء يمنحونا البسكويت في الحرب، وما لديهم عزيز، فيما نحن نقدم لهم كل هذا الترويع والهلع والموت، ونصب النار والجحيم على رؤوسهم.. أيها القبح الدميم رفقا بنا.. لا يستحمل الضمير كل هذه البشاعة العابثة..
• وبين تلك الحرب واليوم كثير من الحروب.. ولكن حرب اليوم التي نعيش في رحاها عامها السادس على التوالي، نعجز عن وصفها، وأقل وصف لها إنها أكثر من مجنونة وعمياء.. أكثر من مروعة بما لا يقاس ولا يُقارن.. إن الحروب جرئيه على ارتكاب البشاعات.. لا اخلاق ولا قيم ولا قواعد حرب أو اشتباك.. كل شيء بات في الحرب التي نعيشها اليوم مباحا ومهدورا.. أموال النفط الغزير تصب شرورها وجحيمها للسنة السادسة، على رؤوس أطفالنا ونساءنا ورجالنا في الأسواق والمدارس والمساكن والمياتم والأعراس والتجمعات السكانية.. كل شيء هنا بات مباح لا حذر فيه ولا تمييز.. لا عقل ولا ضمير ولا معترض.. كل شيء صار هنا مهدورا ومستباحا بجحيم الحرب..
• وعودة إلى يناير 1986شعرت أن القذيفة الأولى أريد منها تصحيح الإحداثيات في القذيفة التي تليها، ولا أدري أين كان سقوطها، وكم كان حصادها؟!! كل ما أدريه أننا في مدينة تزدحم بساكنيها.. فيما القذيفة الثانية كانت على مسافة خمسين متر، وقد ظننت أن الثالثة ستكون حتما على رؤوسنا، ولكن رفق بنا القدر، ولم يتم معاودة القصف تلك الليلة بعد هذه القذيفة المرعبة.
• خلال أحداث يناير 1986 كنت حريصا أن استخدم سلاحي في حدود الدفاع عن النفس، ولم أشترك في أي صدام مسلح، ولم أشارك في اشتباك أو قنص، ولم تخرج رصاصة واحدة من فوهة بندقيتي باستثناء تلك المرة التي قيل أن العمارة الموجودين فيها يتم التسلل إليها، فلزم علينا الدفاع عن النفس من استهداف محتمل..
• اليوم وأنا أكتب ما أكتب يغضب البعض ممن دمروا حاضر اليمن ومستقبله؛ لأنني اكتب قصتي واتناول الماضي بكل ما فيه، وهو ماضي يشرفني أنني خرجت منه ومن منعطفاته الحاده، دون أن أقتل كلب أو قطة، ولم اقتلع فيه شجرة، بل وندمت يوما أنني قتلت فأرة، وحالما شاهدت صغيرها يحوم جوارها بحسرة، ولا يكترث بما حوله، شعرت بالأسى والندم، وكتبت عنه، واحتجيت على هذه الحياة الظالمة، وقوانينها الغير عادلة..
***
يتبع..