ارشيف الذاكرة .. قصتي مع القات .. درس صادم في أول مقيل قات بصنعاء
يمنات
أحمد سيف حاشد
في عدن قبل عام 1990 أو بالأحرى قبل الوحدة، كان لا يتم تعاطى القات و بيعه إلا في الإجازات و العطل الرسمية، و يومي الخميس و الجمعة من كل أسبوع، أما في غير تلك الأيام فالعقوبة بمقتضى القانون زاجرة، و تنفيذها يتم بصرامة .. سمعتُ عن قصة ذلك الرجل الذي أبلغ به جاره أنه يتعاطى القات سرا في بيته بدار سعد، فتم القبض عليه، و محاكمته، و الحكم عليه بالحبس سنتين مع النفاذ..
بعد الوحدة تم نقلي من عدن للعمل في صنعاء، و خلال إقامتي فيها، شاهدت معظم المجتمع يتعاطى القات على مدار الأسبوع .. أكثر الأسواق المزدحمة، و أكثرها صخبا و ضجيجا في صنعاء هي أسواق القات .. بعض الأشخاص يتعاطون القات مرة واحدة في اليوم، و بعضهم مرتين، أو ما يعرف بنظام “الشوطين”، و البعض يزيد عليها ما تُسمّى بـ”التفذيحة”..
شاهدتُ أطفال أعمارهم بين العاشرة و الثامنة عشر سنة، يتعاطون القات، منفلتين و متشردين و عاملين في مهن، و بعضهم يتعاطونه برعاية آبائهم و تشجيعهم، و البعض بعلم أسرهم .. و بعض الزوجات يتعاطين القات مع أزواجهن، أو برعايتهم و درايتهم, و سمعت عن مجالس “تفرطة” النساء اللاتي يتعاطين فيها القات .. الحقيقة أن الذي يأتي من خارج بيئة القات، يستطيع أن يعرف حجم الكارثة المجتمعية و مدى خطورتها..
عرفت أصدقاء لا يهتموا بالغذاء الجيد، و لكنهم يهتموا بالقات الجيد .. و آخرين نفقات تعاطيهم القات أكثر من نفقات غذائهم .. أصدقاء يعيشون على وجبة واحدة يومياُ، و لكنهم يتعاطون القات بانتظام على نحو يومي أو شبه يومي .. ينامون دون عشاء، و يواصلون نومهم الى وقت الظهيرة، ثم يتغدون و يشترون القات بقيمة تصل إلى ضعف قيمة وجبة غذائهم .. بعضهم يعمل و يهدر أجر عمله من أجل أن يتعاطى القات كل يوم، فيما يأكل على نحو يبقيه فقط على قيد الحياة و العمل بالكاد .. إنه مجتمع ينتحر..
كان يفترض وفق ما تم الاتفاق عليه بين قيادة الشطرين لقيام الوحدة اليمنية، أن يتم العمل بما هو إيجابي من قوانين الشطرين، و يفترض أن يتم التشريع بما هو أفضل من قوانين الشطرين، و لكن ما حدث في التشريع و ما تم تكريسه في الواقع كان عكس هذا تماما .. ثم جاءت حرب 1994 و التي انتهت باستقواء المنتصر، و من ثم سير الأمور من سيء إلى أسوأ، و تراكم على تراكم، و فساد على فساد، و حروب على حروب، ليصل الوضع إلى ما وصل إليه اليوم، حتى بات عصيا على التوصيف أو حتى على التسمية .. و لا يمكن لطرف سياسي أو قوى سياسية أن تتحلل من المسؤولية، أو تدّعي أنها لم تساهم بما حدث بنسبة و صيغة ما .. كل الأطراف و القوى السياسية لاسيما الرئيسية منها قد ارتكبت الخطايا لا الأخطاء، بحق هذا الشعب و الوطن..
كان القات في الوعي الجمعي أو السائد ينظر إليه باعتباره يستحث النشاط و الجهد و التفكير، فضلا عن كونه وسيلة مهمة لجمع الأصدقاء و الزملاء، بل و التعارف أيضا حتى مع الغرباء .. يوثق العلاقات، و يشرح النفوس، و يجلب النشاط و الانتشاء، و ينشِّط المجهود و الذاكرة .. يثير الجدل السياسي، و غير السياسي .. يبعث مشاعر الدفء بين الحاضرين، و ربما الحميمية في بعض الأحيان .. أما الأطفال فكانوا يشعرون بالندية و الرجولة و هم يتعاطون القات .. غير أن الأكثر من كارثة أن أخطر القوانين و القرارات و السياسيات التي تمس الشعب أو بعض من فئاته، كان مصدرها مجالس القات، و غرف المقيل المغلقة، و لازال هذا قائما إلى اليوم، و ربما على نحو أكبر، عند من بقي له قرار..
بعد قدومي إلى صنعاء و مضي فترة وجيزة أحسست إن لم أتعاط القات سأعيش منبوذا وحيدا معزولا منكفئا على الذات .. ومع ذلك خضت صراعا طويلا مع القات قبل أن أدمنه .. شعرت أنني في مجتمع مدمن و مخدر يجمعه القات، و فيه يبدو السوي شاذا، و يبدو الشاذ سوياً .. القاعدة تتحول إلى استثناء و الاستثناء يتحول إلى قاعدة .. الصحيح يبدو في نظر “المجتمع الخطأ” خطاء، و الخطاء يبدو صحيحا في وعي هذا المجتمع .. لم أكن محل سلطة و ليس بإمكاني أن أصدر قوانيني لأعممها على المجتمع، و لا قدرة أرغم فيها المجتمع على إنفاذها من غير سلطة .. لا بأس من الميل قليلا .. هكذا ربما فكرت..
اشتريت مساند و مداكي محشوة بنشارة الخشب و ألياف أخرى لا أدري صنفها، و ربما بعضها صنعناها نحن في البيت بعد أن حشيناها بأشياء أخرى مثل أقمشه قديمة، و ذلك كاحتياط أو لسد النقص عند الاحتياج .. كان مقيلي الأول في صنعاء يضم لفيف من الأصدقاء و الزملاء و الأصهار، جميعهم يتعاطون القات، باستثناء اثنين، هما رفيقي جازم، و زميلي و صديقي و جاري منصر الواحدي .. أما أنا فهناك من حملني أن أقع “أعورا بين العوران” كما جاء في المثل الشعبي، لاسيما أنني كنت المستضيف للمقيل، و أرغمتُ على التخزين فيه..
صهري محمد المطري “مبحشم” كبير، و مولعي قات من الدرجة الأولى، و بمثابرة يومية لا تنقطع إلا لظرف قاهر، كمرض شديد الوطأة ألزمه الفراش .. خبرته في القات و التخزين و الكيف ضاربة جذورها في مدى أربعة أو خمسة عقود متوالية من عمره..
عزمت صهري محمد المطري إلى المقيل معي في أول يوم افتتاح ليشرّف مجلسي .. حضر بقاته وقاتي دون أن أطلب منه أن يشتري لي قات معه، بل لم أكن أعتزم التخزين، و إنما اعتزمت الجلوس مع المخزنين .. غير أن المطري أرغمني على التخزين بالأيمان الغلاظ، و الحرام و الطلاق..
صديقي و رفيقي و مسؤولي الحزبي جازم العريقي الذي أحببت أن أعرفه بأصهاري في صنعاء لا يتعاطى القات مطلقا، و أستعاض عنه بـ”الزعقة” فيما جاري و صديقي منصر الواحدي لا يتعاطى القات و لا الزعقة، و كلما مل ذهب إلى بيته في الجوار و عاد بعد ساعة, فيما رابع و خامس يتعاطون القات، و لكن لا أدري بأي قدر، و لم أخبرهما من قبل.
وجدت نفسي أمارس إكراه نفسي على التخزين .. كنت في بداية المقيل و أنا أتعاطي القات، في حال أشبه بحال المحكوم عليه بتعاطي السم .. كنت كلما حشيت ورقة في فمي، أجد مرارتها تلسع رأسي، و تلدغ جمجمتي من الداخل كثعبان .. أشعر بالكلفة و الإرغام و أنا أتعاطيه .. أحسست في المقيل أنني أتعذب لا أستمتع بمضغ القات..
طلبت شاي أسود بالنعناع و الزر، أحسست و أنا أكرع الشاي في فمي إن المطري مستاء مما أفعل، و ملذوع أكثر مني، سمعت منه همهمة و بركضة كلام غير مفهوم، ثم أستأنف الحديث في سياق آخر .. شعرت كأنني ارتكبت ثمة خطأ لا أعرف ما هو .. في عدن يتعاطون الشاي و المزغول مع القات .. أحسست أن ما أفعله لا يروق له، بل ربما يكسر كيفه دون أن أعلم، أو هذا ما عرفته منه لاحقا..
بدأ كيف المطري و كأن أصابه العطب، حاول أن يكظم غيضه مرارا حالما كان يشاهد الرفيق جازم في الوجه المقابل له، و هو يأكل الزعقة باحترافية مدهشة، و كان صوت فقص “الزعقة” لافتا، و أحيانا يبدو صوت بعضها صارخا و مستفزا لكيف المطري .. نفذ صبر المطري، و قد بدت له أصوات قصقصة الزعقة كانفجارات قنابل يقذفها رفيقنا في وجهه .. فأنفجر المطري بيننا كلغم .. صرخ بانفعال لم نتوقعه منه في وجه رفيقنا جازم: خزن و إلا قم أخرج .. اقلع .. قيص قيص قيص، من الساعة ثلاث ما خليتنا نخزن و لا خليتنا نطعم القات..
أحمر و أسود وجهي خجلا من حماقة المطري حيال رفيقنا جازم، الذي كان خجولا، و إنسانا من الطراز الرفيع .. جازم شخص مرهف الإحساس و المشاعر .. جازم بالنسبة لي مثالا و قدوة .. مثقف ممتلئ، و قيادي حزبي من الطراز الأول .. مرهف و حساس إلى حد بعيد..
اعتذرت للجميع و اعتذرت للرفيق جازم الذي شعرت أن ما فعله المطري به لا يداوى حتى و إن فرشت على جرح جازم صفحة وجهي .. و كان هذا أول درس صادم تعلمته في أول مقيل في صنعاء..
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.