ارشيف الذاكرة .. حبي الأول في عدن .. اعتذار إلى زوجتي وبناتي العزيزات
يمنات
أحمد سيف حاشد
خلال دراستي في ثانوية “البروليتاريا” أحببت فتاة من عدن .. جميلة و رقيقة و جاذبة .. كانت حبي الأول الذي لم تكتب له الأقدار نصيبا أو حتى لقاء عابر سبيل. . حب مشبوب باشتياقي المنفرد الذي استمر متأججا دون انقطاع ثلاث سنوات طوال .. أنا أبن الريف المملوء بالحياء و المسكون بالخجل الوخيم .. اشتياقي يشتعل تحت طبقات صمتي بين الضلوع و أجنحتي المتكسرة .. أنا المصلوب بخجلي الذي لا يبارى، و لا يوجد ما يضاهيه..
كنت أقطع المسافات الطوال من المدرسة إلى “قُطيع عدن” لأراها فقط عندما تطل من بلكونة بيتها .. خمسة عشر كيلو متر أقطعها في الذهاب، و مثلها في الإياب، و بعض من هذه و تلك أقطعها راجلا بحذاء مهتري، و أعود من رحلتي ـ التي تشبه غزوة أو سفر ـ أما متوجا بالنصر و الفرح إن رأيتها، أو مكسورا و مهزوما و حاملا كُرب ألف منكوب إن لم تكتحل عيني بها..
بفارغ الصبر انتظر يوم الخميس، بقلب ولوع و وجدان مشتعل .. استعجل الأيام إلى يوم الخميس .. انتظره كمن ينتظر ليلة القدر أو “كريسميس” رأس السنة .. أخرج من سكني الداخلي في المدرسة و أقطع تلك المسافة لأراها فقط..
إن رأيتها يصيبني في الوهلة الأولى إرباك كوني يسري بفوضوية في جميع أوصالي و أرجائي .. ترتجف أطرافي و كأنها مسكونة بالعفاريت .. يُربك كياني بزلزال اضطراب و احتدام مشاعري .. استعيد بعضي بعد وهلة، فتداهمني دهشة بحجم السماء .. يتخلق فيني وجود آخر حافل بالعجب، و كأن انفجار كوني قد حدث و تولّد هذا الوجود الذي يزدحم و يكتظ داخلي .. ثم يتبدى أمامي كرنفال من الفرح بعد جزع و دهشة .. قلبي يرقص كمهرجان في الفضاء، ثم يهمي كالمطر .. لحظات كثيفة تحتدم في الوعي حتى شعرت أن لا أحد غيري يعيش مثلها، أو يمر بها في الدنيا سواي..
“بلكون” بيتها في الطابق الثاني، فيما بيت قريبنا مقابلها في الطابق الثالث .. انتظرها كثيرا حتى يحبِّر الانتظار شرفة قلبي المتيم .. أحاول أطل من النافذة كلما وجدت ثغرة للمرور في حقل ألغام العيون، أو فسحة أو فرصة في غفلة من الحضور .. أناور و انتظر .. قلبي يخفق و عيوني تلتاع و تضطرب في انتظار يطول معظم الأحيان..
تخرج لنشر أو جلب الثياب التي جفت على حبل الغسيل .. و أحيانا منتزهة متفتحة كأزهار الربيع .. تقف على السياج ملكة بكنز جمالها و تاجها و سحرها الذي يخطف الألباب و الأفئدة، فيما عيوني تتوسل و تستجدي عيونها، و ترتجى منها المدد..
إن لمحتها و منعني محيطي من الطلول؛ أو أفسدت صدفتنا النحوس الباذخة .. أضطرب و ألفت نظر من في الجوار، فأبدو و كأن الطير على رأسي وقف .. أحاول أن أداري اضطرابي و أجمع أشتات صوابي فيدركني الفشل؛ فأدّعي أنني معتري و محموم المفاصل و الجسد .. معركة صامتة أخوضها في الآن نفسه على جبهتي .. الأولى مع نفسي المتحفزة بالشوق و المُربكة بالاضطراب، و الثانية مع الحصار الذي يضربه عليّ من في الجوار..
عندما أراها أهفو إليها بجماح خيل محبوس في قبو، و مربوط إلى وتد الحديد .. ملجوما و ممنوعا من الحراك و الصهيل.. روحي تريد أن تغادرني و تتحرر من قيد الجسد .. أنا المكبل بقيودي و اختناقي من ثقل الركام .. أنا الرازح تحت ركام العيب أكثر من ألف عام .. خجلي و وجلي أثقلا كاهلي .. انتظرها على صفيح ساخن لأختلس نظرة محب أظناه الهوى .. استجدي منها لفتة أو رشقة حور .. آه يا قلبي المحب كم حملت من الحب الذي تيم صاحبه، و كم عانيت من العذاب و الصبر الثقيل..!!
أراقبها حتى تغبش عيوني المتعبة .. انتظرها ساعات طوال، فإن ظفرت بنظرة منها، أقع أنا و قلبي من سابع سماء .. تبرق سحبي و تمطر سماء قلبي بمزن البهجة و الفرح .. و ترقص روحي كطفل تحت المطر..
ثلاث سنوات أتلوع بها .. غارقا إلى شعر رأسي في حبها .. و هي لم تدرِ و لم تعلم بحبي لها إلا قبل رحيلها ببرهة زمن .. ثلاث سنين ذهبت سدى؛ فما عساي و ما عسانا أن نفعل عند ساعات الرحيل..؟!! فات القطار .. فات القطار .. يبست الأحلام الندية في مدرات الفراغ .. يا لخيبة رجائي التي ابتلعت أرجائي و أبعادي الأربعة، و قبلها أنا و حبي المُنتحب..
يا لحظّي الذي أدركته تعاسة و خيبة كل الحظوظ .. قلبت لي الأرض المجن، و أدارت لي السماء قفاها المبتئس، و عواثري بحوافر وحشية رفست أزهاري الجميلة بألف رفسة .. ابتلعت الخيبة آمالي العراض .. صرتُ مُشبع بالوهم حتى صار الوهم على الوهم مصاب جلل .. يا لخسراني المبين..!! لا عزاء للمُصاب .. رحلت هي إلى الأبد و أقام في روحي الكمد..
أقداري راكمتني بخيباتها، و استكثرت أن ألتقي يوما بها .. صادر النحس الصُدف، و تخلّت عنّي كل الحظوظ السعيدة .. ثلاث سنوات طوال و حبي الجم ملجوما و محبوسا و مكبوسا في أعماقي السحيقة، مسيجا بكتمانه الشديد، و بالعوازل و الحديد.. يا لقهقة تشبه انفجار الحزن في أعماقي السحيقة..
غادرت مع أهلها حي “القطيع” .. كل الطرق تؤدي إلى “روما”، غير أن “روميتي” لا أثر لها .. لا دليل و لا طريق .. تقطعت كل السبل في متاه المستحيل. . فألهمتني بوحا في التمرد، و ثورتني في وجه الغياب..
حد العصيان أحببتها .. اجتاحني تسونامي حبها، و اجتاحني معه الفشل الذريع .. احتشدت في وجهي قرارات الاتهام و سبابات الأصابع حين قالت: من هنا مر الفشل .. ثارت ثورتي و تمردي .. أجتاح الكفر البواح كفر النعمة و المجاز .. تمردت حياتي على مسلماتي الكاسحة، و ثارت الأسئلة في وجه الرتابة و الثوابت و الغياب؛ فكتبت على لوح نافذة غرفة سكني الداخلي ما بلغ إليه تمردي، و وجعي الذي باح بكاتمي .. و رغم فداحة خيبتي و المصاب، إلا إنها منحتني الأهم .. فقد أصابت ثورتي رأس الحقيقة أو بعضها..
خانتني شجاعتي، و لم أجروا على السؤال..!! ما اسمها..؟! أثقل العيب كواهلي، و صيرني ركاما من حطام .. جمعت أشتات شجاعتي من الدنا و الأقاص، في وجه خجلي العرمرم؛ ثم سألت ابن قريبنا عن اسمها؛ فأجاباني .. خانني السمع و توسدنِ الخجل .. لم أجرؤ على السؤال ثانية .. يا لخذلان و عطب الذاكرة .. هل اسمها ليندا..؟!! أم اسمها رندة..؟!! هل ينتهي اسمها بألف أم بياء مقصورة أم بهاء..؟!! لطالما ألتبس عليّ اسمها دون أن أرسي إلى مرسى أو استقر على اسم ضاعت مني أحرفه..!!
انقضى عهد و سنوات طوال .. وبقي الحنين ممانعا عني الرحيل .. أسميت أحدى بناتي رندة، و الأخرى ليندا تحوطا و مداركة .. هكذا هو جنون الحب الذي لا ندركه .. يا للحنين المقاوم لنسياننا .. و الصامد في وجه السنين الطوال مهما تقادمت .. يا للحنين الذي يأبى أن يموت أو ينطفئ..
كم أنا “خائن” في الحب يا زوجتي و حبيبتي، و كم هو عمري مكللا بـ”الخيانة” .. لا تغضبين، فأنت البقية الباقية .. أنت العشرة الطويلة و ما بقى لي في حياتي الباقية .. حبنا الأكيد باقي و عشرتنا الطويلة لطالما أمتحنها الزمان ألف مرّة .. صمدنا في وجه أحداث كبار و خضات كثيرة .. عبرنا حروب و صمدنا في وجه الأخيرة التي صارت أهوالها أكبر من أهوال يوم القيامة .. كم أنا بشر يا زوجتي و بناتي العزيزات .. اجعلن من الصفح و الغفران و العفو الكريم مسك ختام حتى تسكن و ترتاح روحي المتعبة..
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.