احتجازي في الأمن السياسي
يمنات
أحمد سيف حاشد
في تاريخ 10 اكتوبر 2006 أتجهنا من مكتب النائب العام إلى بوابة الأمن السياسي بعد أن حصلنا على الأرجح معلومة غير مؤكدة، وربما استنتاج شبه مؤكد أن الأمن السياسي هو من مارس الإخفاء القسري بحق الناشط الحقوقي علي الديلمي منذ قرابة العشرة أيام، وأنه معتقل في مبنى جهاز الأمن السياسي في صنعاء..
أذكر أنني كنت أحد أصحاب اقتراح نقل تجمعنا واحتجاجنا من النيابة العامة إلى أمام بوابة الأمن السياسي، حاملين مذكرة من النائب العام موجهة إلى رئيس جهاز الأمن السياسي تتضمن السؤال، وطلب الافادة عمّا إذا كان علي الديلمي محتجزا لديهم..
كان جهاز الأمن السياسي آنذاك مهابا إلى حد بعيد، وربما الاحتجاج أمام بوابته كان محذورا لا يخلوا من مغامرة، وزائد عليه أنه فعل غير مسبوق.. خطوة غير معتادة تنال من هيبة هذا الجهاز ومقامه ليس فقط في وعي الناس، بل حتى في وعي العاملين فيه والقائمين عليه..
انتقلنا من مكتب النائب العام إلى أمام بوابة المقر الرئيسي للجهاز، وعندما كنا نتعرض إلى الإبعاد قسرا من البوابة الرئيسية تحت عنوان “ممنوع” انسحبنا إلى تحت الشجرة التي تبعد بحدود المائة متر من البوابة..
ورغم هذا أستمرت ضدنا الاستفزازات اللافتة من قبل ضباط وجنود الأمن، وحدثت بعض المناوشات المستفزة من قبلهم، وكانت تجري اتصالات بين ضباط الأمن ومسؤوليه على الأرجح لا أعرف مضمونها، ولكن تلك الاستفزازات كانت تكبر، وتكاد تتحول إلى اعتداء على المعتصمين..
أخرجت الكاميرا من الجاكت الذي كنت ارتديه، وربما أنا من حاول التصوير أو ناولتها شخص من المحتجين ليقوم به.. وأتذكر إن اضاءة فلاش الكاميرا عند التصوير قد لفتت نظر ضباط وجنود الأمن..
هرعوا نحونا وكأنهم ممسوسين.. بعضهم كان قريبا جدا منّا، وبعضهم كان بعيدا.. فلاش كاميرا كان يكفي لاستنفار واسع لا مبرر له غير الهلع.. ناولت الكاميرا التي صارت في يدي لرضية المتوكل التي كانت تقف خلفي، والتي أخبتها في حقيبتها..
لم يستطع الجنود معرفة أين ذهبت الكاميرا، ولكني أخبرتهم أنها تتبعني، ولم أكشف لهم أين هي، وبأي حيازة صارت.. كانوا مصرين على الوصول إليها وأخذها.. وعوضا عن هذا أخبرتهم أنني عضو مجلس النواب، وأنني من قمتُ بالتصوير.. فيما ظلت مطالبتهم بتسليم الكاميرا لحوحة ومتشددة..
تمت اتصالات عدة بين ضباط الأمن ومسؤوليهم، ويبدو أن الأوامر صدرت باحتجازي.. هددوني باستخدام القوة ضدي، وسحبي من بين المحتجين، ثم حاولوا بالفعل انفاذ تهديدهم والذي يبدو أنه كان تنفيذا لأوامر تلقوها من قيادتهم العليا.. بدا لي الأمر لا يقبل المراوحة، ومع ذلك ظللت مستغرقا في رفضي أن أسلم لهم الكاميرا أو أدلهم عليها.
بدت لي بوادر المواجهة تشتد وتكاد تحتدم.. شاهدت رجال الأمن يحاولون انتزاعي من بين المحتجين، فيما المحتجين يحاولون منعهم، بل والدفاع عني حد المواجهة.. بدت المواجهة بتدافع الأيدي والأجساد بين مهاجم ومدافع..
كان الأمر يحتاج إلى مبادرة وقرار إنقاذ سريع من قبلي.. أحسست إن نتيجة أي مواجهه ستكون بكلفة أكبر، ومفتوحة على المجهول؛ فخرجت من الجمع، وقررت أن أذهب معهم برغبتي وإرادتي تجنبا لما كان سيحدث.. أظن أن قراري هذا كان صائبا إلى حد بعيد، لا سيما أن المواجهة كادت تكون أكيدة، والاحتدام وشيك.. لم أرغب بمزيد من التداعي للموقف الذي بدا لي حساسا، وينذر بشؤم الاحتدام..
ذهبت معهم إلى داخل مبنى الجهاز.. تركت خلفي مخاوف الأحبة، وحبهم الذي ذادوا به عني.. تهيئت لكل احتمال ومجهول بعيدا عنهم.. اقتادوني مجموعة من الضباط والجنود إلى الداخل.. أول مرة أتجاوز بوابة جهاز الأمن السياسي إلى الداخل.. وفي الداخل شاهدت الفناء واسعا.. مباني متعددة.. طرق ومماشي عدة.. بديت وهم حولي وخلفي أشبه بمن نفذوا غزوة حربية، وعادوا بي إلى ديارهم كغنيمة حرب..
اقتادوني يسارا ويمين.. ثم يمينا ويسار.. سلموني لأحدهم كان في انتظاري يبدو أنه ضباط أرفع رتبة.. كان مرتديا قميصا وسروالا مدنيا.. بدا لي حاد الملامح وشديد التحفز لالتهامي.. وجهه مستطيل ومتيبس ولا يخلوا من تكشيرة كلب بولسي حالما ينقض على مجرم خطير بتوجيه من سيده..
كان واضحا عليه أنه ينتظرني بصبر كاد ينفذ.. شاهدت سؤالا يكاد يثب من عينيه كذئب: من هذا النائب أو من هذا الذي يجروا على التصوير ويرفض تسليم الكاميرا لجهاز يخافه ويهابه كل الناس؟!! كانت عيناه المتوعدة تقدح شرا وشررا.. بدا لي ومن أول وهلة سيء الطباع وفض القلب والمعاملة.. هنا الاخلاق نحو الضحايا أشبه بالأمر المستحيل.. لا تتأتى إلا عن طريق التمثيل وتقمص الدور بتصنع شديد وتكلف أشد، لا يخلوا من معاناة جمة..
سار أمامي وطلب مني أن اتبعه.. قادني إلى محبس غرفة صغيرة.. كنت أسير خلفة كنسمه وكان هو أمامي ينفخ ككير حداد.. وصلت ومجموعة تنتظرني في الجحر كفريسة، ولكنهم ربما كانوا ينتظرون الأوامر أن تأتي.. أمن سادي وشرِه ومفترس لا يعرف للإنسان قيمة أو حرمة..
أودعوني الغرفة، وفيما كنت أنتظر أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، أتوا بحارس في مستهل العشرينات من عمره، وبمعيته سلاحا آليا وجعبة.. لا أدري دواعي هذا الإجراء، وقد صرت في قبضتهم، وهي قبضة أمنية حديدية تزدري الدستور والقانون والحقوق ..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520.