حكاية البنت اليهودية راحيل مع القاضي شاهر
يمنات
عبد الكريم الرازحي
بعد ان انتهيا من وليمتهماعرض عليها شاهر ان تسلم وتدخل في الاسلام. وكانت حجته بأنها لواسلمت لااحد يستطيع ان يجبرها على الرحيل. لكن راحيل قالت تعترض على كلامه:
– “لا ياشاهر، لا ..لاتطلبش مني اسلم.. ولاني شاطلب منك تِتْيَهْوَد ..اني احبك والحب مثلما قال الدرويش عبد الحق دين فوق كل الاديان “.
ووعدته بأنها ستبقى الى جانبه ولن تتركه لوحده :
-” والله ماسافر واسيِّبك وحدك لويقتلوني “.
وفي يوم السفر خرج يهود قرية العكابر واحيوا بخروجهم ذكرى خروج اليهود من مصر .لكن الذي كان يقودهم هذه المرة ليس نبياً وانما مشعوذ كبير هو العيلوم سالم الذي اشتهر بعمل التعاويذ وطلاسم الحب والحمل .
كان يتقدم الموكب متوكئاً على عصا من شجر “الشّوْحَطْ “وعليها كتابة بالعبرية. ولم يكن وحده الذي يتوكأ على عصا وانما كان كبار السن جميعهم بالعصي لكأنهم بذلك يتماهون مع نبيهم موسى الذي شق لهم درب العودة بعصاه .
يومها خرجت القرية عن بكرة ابيها لتوديعهم الرجال والنساءوالاطفال. وكان ثمة حزن واضح في وجوه وعيون اليهود وهم يغادرون القرية التي ولدوا وعاشوا ودفنوا اقاربهم فيها.
وفيما كان الاطفال يبحلقون مبهورين وصامتين في تلك الجموع الحزينة والصامته كان الطفل عَوْف المُقَرْدَف يسال امه سالية بصوتٍ عالٍ ومزعجٍ يلفت الانظار :
– اين شِسافروا اليهود يمّا ؟
– شِسافروابلادهم
– اين هي بلادهم ؟
– الله اعلم !!
– مواسمها بلادهم ؟
– اسمها بلاد اليهود
– ونِحنا لِمَو مانسافرش بلاد اليهود مثلهم !!
– نِحنا مش يهود
– مُوْنِحنا !!
– مسلمين
– ولو نِحنا يهود مثلهم شِنسافر !!
وراحت امه سالية وقد ضاقت باسئلته تطلب منه ان يسكت. لكن الطفل عَوْف المُقَرْدَف
قال يسال امه :
– شرجعوا اليهود يمّا والّالا ؟
وحين قالت له امه بانهم لن يرجعوا انقبضت نفسه من الحزن ولاذ بالصمت .
عندما وصل الموكب الى مشارف القرية اقيمت مراسم الوداع. الرجال ودعوا الرجال واخذوهم بالاحضان.. والنساء ودعن النساء ولم يستطعنَ حبس دموعهنّ وهنّ يعانقن جاراتهنّ وصديقاتهنّ. وراح الصبيان والاطفال يعانقون بعضهم البعض بحرارةوبعيون مخضلّة بالدمع. وكانت دموع سارة زوجة النجار حاييم تسيل غزيرة وهي تودع بحرارة اولئك الاطفال الذين رضعوا لبنها .
كانت امراةً بطول النخلة ولها ثديان عظيمان حتى ان معظم اطفال القرية من اليهود والمسلمين رضعوا منها وكانت بمثابة امٍ لهم بالرضاعة.
اما نجاة الفتاة الجميلة التي كان لهبُ جمالها يحرق قلوب فتيان القريةفقد راحت تبكي اباها االذي انطفأت روحه قبل موعدسفرهم بيومين.
ولشدة حبها لأبيها كانت تمشي وتلفت للخلف لكأنها تأمل ان ينهض من قبره ويلحق بها .
كانت امها تنهرها وتطلب منها ان تتوقف عن البكاء على ابيها و عن النظر الى الخلف. لكنها واصلت التوقف والتلفُّت عناداً لامها التي كانت تسير بخطىً سريعة وكأنها خائفة من ان يُبعث زوجها من قبره .او كأن هناك رجلاًينتظرها وتريد اللحاق به لتؤسس معه حياةً جديدةً واسرةً سعيدة.
ومن بين جميع اهل القرية الذين رافقوا اليهود الى مشارف القرية وحده عبده العرصمة واصل السير خلفهم ولم يتوقف .كان المسكين قدجُنّ حبا ب عفراء ابنة العيلوم سالم ومن شدة حبه لهاوحزنه على فراقها راح يجهش بالغناء:
مجنون انا ياناس
اشتي قِيُودي
الحب جنّن بي
وانتم شُهُودي
وزادْ كسَر قلبي
وقلبي عُوْدِي
يهودية ياليتنا يهودي
عندما وصل اليهود الى منطقة الراهدة اكتشفت زوجة يحي هارون غياب ابنتها راحيل فكان ان جُنّ جنونها وطلبت من زوجها وهي تجهشُ باكيةً ان يعود للقرية للبحث عنها غير ان الاب الذي كان غاضبا من ابنته بسبب زواجها من شاهر راح يلعنها ورفض العودة للبحث عنها .لكنه بعد وصولهم الى “معسكر حاشد “في عدن وبضغط من زوجته التي راحت تواصل البكاء ابلغ “الوكالة اليهودية” المسئولة عن استقبال وترحيل اليهود عن اختفاء ابنته واتهم الفتى شاهر باختطافها.
بدورها بعثت الوكالة اليهودية برقية للامام الناصر بشأن راحيل المختطفة.
وبعد مرور ثلاثة ايام على سفر اليهود وصل الى قرية العكابر ثلةٌ من العسكر يقودهم ضابط قصير القامة مجدور الوجه ومعه امرمن القاضي غالب التنكة حاكم حيفان بالقبض على شاهر وتحرير راحيل من قبضته وارسالها لتلحق بوالديها في عدن .
كان العسكر يضربون الفتى شاهر باعقاب بنادقهم وهو يرفض ان يدلهم على المكان الذي تختبئ فيه راحيل . وبعد ان اوسعوهُ ضرباً وادموهُ تركوهُ تحت الحراسة وراحوا يفتشون بيوت القرية بيتاً بيتاً، وحجرات البيوت حجرةً حجرة. وكان الباب الذي لايُفتح بمفتاح اوالذي يتأخر اهل البيت عن فتحه يركلونه باقدامهم وينهالون عليه خبطا بأعقاب بنادقهم وإن هو استعصى عليهم استعانوا على فتحه بأقرب فأسٍ اومطرقة.
وكانوا كلما داهموا بيتاً من بيوت القرية راحو يستجوبون الاهالي ويسألونهم عن راحيل .
لكن الاهالي كانوا يردُّونَ ردوداً متباينةً بعضهم يقول سافرت مع اليهود والبعض الآخر يقول لم تسافر .وثمة من يسأل العسكر عن سبب بحثهم عنها!! وماذا يريدون منها !!وكان العسكر يغتاضون من اجوبتهم ومن اسئلتهم ويزدادون عنفا ًوتوحشاً.
ولكثرة ماعاث العسكر في بيتها راحت شُهُور غانم تصبُّ جام غضبهاعلى شاهر وتتهمه بانه السبب في مجيئ العسكر للقرية وفي مداهمتهم للبيوت وتحطيم الابواب .
كانت المسكينة قد نست اين وضعت مفاتيحها !!وكان العسكر على عجل ،ولشدة ماكانوا غاضبين من تأخرها في احضار المفاتيح حطموا لها اكثر من باب بمافي ذلك باب مخزن الحبوب .لكنها بدلا من ان تلومهم وتحقد عليهم القت باللوم على شاهر وحقدت عليه و راحت تلعنه من سقف بيتها وتصب عليه جام غضبها وتصرخ قائلة بكل صوتها :
– “الملعون لاهو وقع يهودي وسافر مع اليهود ولاهو وقع مسلم مثل المسلمين”
وقالت يومها لنساء القرية بان الدم الذي يجري في عروقه دم يهودي.
وحتى تثبت صحة كلامها قالت تذكرهن :
– “شاهر يانسوان رضع من سارة ..سارة بزَيْتُه وهُوْ جاهل ولبنها النَّجِس غلب لبن جُلجُلة امه”
ولشدة كراهيتها لليهود كانت تحذرنساء القرية من تسليم اطفالهن الرُضّع لمرضعات يهوديات و تقول لهن :
– “لبن اليهوديات نجس مثل بول الكلاب “
لكن نساء القرية كن يعتقدن بان لبن اليهوديات ادسم من لبنهنّ و ان الطفل الذي يرضع لبن يهودية يكبر وينمو سريعاًويكون حاذقاً وذكياً يعرف كيف يكسب رزقه!!.
بعد ان انتهى العسكر من تفتيش بيت شهور غانم انتقلوا الى بيت جارتها المُسَفِّلَة غيوم عالم
واثناء تفتيشهم وجدوا في الدور الاسفل باباًسميكاٌ وثقيلاٌ و مختلفاً عن كل الابواب لكأنه باب حصن اوباب حبس .وكان ذلك الباب الغريب الذي اثار فضولهم وشكوكهم هو باب السرداب الذي يصل القرية بالمقبرة. وهو نفس الباب الذي تهبط منه المسفلة غيوم عالم الى العالم السفلي .
يومها دخلت المسفلة غيوم في مشادّةٍ مع العسكر ورفضت ان تفتح لهم الباب. وكان رفضها قدغذّى شكُوكهم واجّج غضبهم فراحوا يضغطون عليها لإرغامها على فتحه وهي ترفض وتقول لهم :
-” لوفتحتو لكم باب المقبِرِه شخرجوا المياتا من القبور”
لكن العسكر اعتقدوا بأنها تقول ذلك لتخيفهم وتحول بينهم وبين اداء مهمتهم المتمثلة في القبض على اليهودية راحيل وترحيلها الى اسرائيل.
قال لها قائد المجموعة بانه سوف يقتلها ان لم تأت بالمفتاح وتفتح الباب. لكن غيوم عالم التي كان نصفها حي ونصفها ميِّت لم تكترث بتهديده وقالت له :
– “اقتلني.. مُوْهَلْ لوقتلتني!! “مُوْ شاموت!!
وحين لاحظ بانها امراة عنيدة وصلبة صلابة باب السرداب تخلّى عن تهديده وراح يترجّاها ويطلب منهاوبلطف ان تتعاون معهم وتسهِّل لهم القيام بمهمتهم غير ان المسفلة غيوم واصلت رفضها وراحت تعيد على مسامعه ومسامع جنوده ماسبق ان قالته عن خروج الموتى من قبورهم .عندئذ جُنّ جُنون القائد ومعه جُنّ العسكر وراحوا يضربونها باعقاب بنادقهم الى ان توارى وجهها خلف قِناعٍ من الدم ثم ركلوها بعيدا وراحوا ينقضُّون على الباب بالمطارق والفؤوس في محاولة منهم لتحطيمه.
وفيما كانوا يخوضون معركتهم مع الباب كانت غيوم قد صعدت الدرج الى سقف بيتها وراحت تنادي اهل القرية بكل صوتها وتطلب منهم ان يغلقوا ابواب بيوتهم ويغلقوا النوافذ والشبابيك .
وكان وجهها المغسول بالدم قد اوحى لاهل القرية بأن هناك خطراًما يتهدّدهم.
ومن سطوح بيوتهنّ راحت النساء يسألنها عما حدث!! فأخبرتهن بنوايا العسكر وقالت لهن :
-” لوالعسكر فتحوا باب المقبرة المياتى شخرجوا يِتْقَنّشُوا اهل القرية الزغار والكبار”.
وكان حديث المسفلة غيوم عالم عن خروج الموتى من باب السرداب
اوكما تسميه: ” باب المقبرة “قد اثار عاصفة من الفزع لكن اكثر مااثار فزع اهل القرية يومها اصوات الفؤوس والمطارق وهي تهوي فوق باب السرداب.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا