الحوثيون .. بين السياسي والأيديولوجي والعسكري (1-3)
يمنات
قادري أحمد حيدر
الإهداء:
إلى روح الأستاذ الشهيد الصديق/ محمد عبد الملك المتوكل.
إليه: سياسي مخضرم، ومثقف وطني يمني عميق الغور في البحث في بنية الثقافة الوطنية اليمنية .. عرفته صديقاً وسياسياً وإنساناً كبيراً منفتحاً على الآخر، من أهم خصائصه وصفاته أنه رجل سلام، وحوار، راكم ثقافة سياسية مدنية نجد تجسيداتها في سلوكه اليومي، فضلاً عن خبرة معرفية وثقافية عميقة بالإنسان والحياة .. كان دئماً في صف الحداثة الفكرية، ومع تحديث المجتمع، وهكذا كان في علاقته مع بناته وابنه، ومع جميع من حوله .. اتفقنا واختلفنا في التفاصيل التي يقبع فيها الشيطان، وحتى في بعض القضايا الجوهرية، فكان يخرج منها سوياً متوازناً حاملاً مشعل راية النور والحوار والوطنية اليمنية.
محمد عبدالملك المتوكل، مثقف وسياسي وطني يمني، علمته تجربته في الحياة خلاصة ما هو جميل وينفع الناس، ويمكث في الأرض، رحل عن حياتنا شهيداً برصاصات غادرة مجهولة الهوية، والأجمل أنه غادرنا رافضاً للتعصب المذهبي والطائفي والسلالي.
لروحه الرحمة والسلام والخلود مع الشهداء والصديقين والصالحين.
تشتغل وتتحرك الجماعة الحوثية “أنصار الله” ضمن ثلاثية: السياسة، والأيديولوجية (المذهبية)، والعسكرية “الجهادية “، على أن الناظم والمحرك لهذه الثلاثية، هي الأيديولوجية المذهبية (الطائفية/ السلالية)، في تحصنهم وتمركز رؤيتهم الخاصة، حول فكرتَي وقضيتي “الإمامة” و”الولاية”، وهما العصب المركزي الذي بهما يتحركون ويديرون ويدبرون أمورهم، أقصد هنا يديرون دفة ما تبقى من السياسة، والممارسة السياسية، وما تبقى في أذهانهم من صورة المجتمع كما يحلمون به تابعاً وملحقاً بأيديولوجيتهم الخاصة، بعد أن تم إلغاء “الهامش الديمقراطي”، واخراج العملية السياسية من معادلة الفعل السياسي والمجتمعي، وفرض ممارسة سياسية قمعية، الغائب الأعظم فيها هو الديمقراطية والروح الجمهورية الوطنية، ودولة المواطنة الحديثة .. ثلاثية ستجدها حاضرة في كل تفاصيل حياتهم الخاصة (منطق التفكير)، وحتى العامة، (طقوس الحياة اليومية)، على أن أضعف حلقة في سلسلة هذه الثلاثية، إنما هو البعد السياسي والسياسة، ذلك أن السياسة هي الوجه الآخر والمباشر للحرب في جدول أعمالهم، إذ يتحدد معناها ومكانتها من خلال رؤيتهم الأيديولوجية (الطائفية)، والتي لا يمكنهم تنفيذها أو تحقيقها على أرض الواقع سوى بالبعد الثالث لهم وعندهم، وهو بعد “الجهاد”، في صورة الانقلاب على التاريخ الفكري والسياسي، وعلى الذاكرة الثقافية والوطنية للغالبية العظمى من اليمنيين، فالخيارات هنا، على مستوى بعد الجهاد “الخروج”، مفتوحة على مجموعة مختلفة من التسميات والتعبيرات الحزبية/ الجهادية (السنية/ الشيعية)، التي مهما تباينت واختلفت تسمياتها، من حيث تسمية، وطبيعة ما يوحد بينهما (سني/ شيعي)، فإن حقيقة ما يجمعهما ويوحدهما إنما هو خطاب، وفكر “الجهاد” أو الانقلاب، للوصول إلى “التمكين”، لتحقيق المراد، سواء في صورة “الدولة الإسلامية/ الجهادية ضد الكفار” كما هو في الفكر السياسي الجهادي السني المعاصر: “القاعدة” “داعش” “النصرة”، أو في فرض تكريس “الإمامة”، و”الولاية”، الرئاسة العليا، كما هو الفكر السياسي الجهادي “الشيعي”، وتعبير أو مفهوم “الرئاسة العليا”، مأخوذ من كتاب “الأحكام السلطانية/ للماوردي”،مع اختلاف في المعنى والسياق التاريخي لكل منهم: أي ، عند كل من الجهادية “السنية” والشيعية”، المعاصرة.
ذلك أن الإمامة الهادوية، في كل تاريخها السياسي لم تتمكن من إنتاج فكرها السياسي، ذلك أن الفكر السياسي يحتاج إلى جانب شروط وعوامل ذاتية مختلفة، يحتاج إلى وجود بنى سياسية، ومؤسسات مادية وإدارية ومالية واقتصادية، تنظم حركة المجتمع والسلطة معاً، وهو ما كان غائباً ومصادراً كلية، في تاريخ الإمامة السياسي والاجتماعي، إلا في صورة أولية وبدائية ومحدودة في حدود ما يقيم ويكرس استمرار حكم الإمامة الهادوية، من يحيى بن الحسين القاسم الرسي، إلى عبدالله بن الحمزة، إلى السلطة القاسمية ورمزها البارز المتوكل على الله إسماعيل، وصولاً إلى بيت حميد الدين (السلطة المتوكلية)، وكلنا قرأ وسمع – والكبار يتذكرون – كيف حولت الإمامة الحميدية (المتوكلية)، الكثير مما ورثته من مؤسسات عمرانية، ومن أشكال مدنية حديثة عن الدولة العثمانية إلى معسكرات واصطبلات، ومساكن خاصة، بما فيها المستشفيات، وبعض المؤسسات الخدمية الحديثة: أشكال حكم محلية أولية، مبانٍ طبية، محاكم تجارية ومدنية،..إلخ، وهو وضع مأسوي استمر حتى قيام ثورة 26 شبتمبر 1926م حتى أن ثورة سبتمبر حين قامت وجدت نفسها أمام مهمات أولية لبناء الدولة من الصفرّ!!
إن التفويت التاريخي الأول للسير في خط التطور والتقدم، كان مع القفز على رؤية ودعوة وموقف الإمام زيد بن علي رضي الله عنه، بعد أن كان قد فتح باباً واسعاً لإمكانية إنتاج فكر سياسي زيدي، (مفتوح على الذات وعلى الآخر) بقوله: “بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل”، وبموقفه الفكري والسياسي المتقدم من مفهوم “الخروج”، وبموقفه الإيجابي العظيم من الشيخين” ومن الخلافة الراشدة، وجاءت الإمامة الهادوية – بطبعاتها السياسية المختلفة وتشترك معها في هذه المسألة بعض الفرق الشيعية الإمامية وغيرها – لتغلق هذا الباب الرحب والواسع، وتضيق فكرها السياسي بحدود الإمامة الدينية، في أولاد الإمام علي رضي الله عنه من السيدة فاطمة الزهراء، وفي الحسن والحسين تحديداً، وبعدها في القول إن الإمامة أصل من أصول الدين، وجعله أحد المبادئ أو الأصول الخمسة المعتزلية، عوضاً أو بدلاً من أصل أو مبدأ “المنزلة بين المنزلتين”، وهو المبدأ الذي يحد؛ بل ويمنع “تكفير مرتكب الكبيرة”، وهو القول أو الأمر الذي ضيق سياسياً وعقائدياً وعملياً، أولاً، على حرية الاجتهاد، وعلى حرية الاعتقاد، وهو ثانياً، الذي قلص من مساحة إمكانية إنتاج فكر سياسي مفتوح على الآخر (الفرد/ المجتمع/ وفي داخل بنية الفكر)، كما أن الخلط بين الإمامة الدينية والسياسية، وجعل مسألة الحكم (السلطة/ الدولة)، مسألة شرعية/ دينية، كان أحد أخطر الأسباب والعوامل لتعويق نمو وإنتاج فكر سياسي زيدي، بعد أن تم ربط الإمامة بالدين، وجعلها حكراً وحقاً لجماعة محددة ومعينة من الناس، وقمع وتكفير من يقول بغير ذلك، والأهم توقف حركة وعملية الاجتهاد في بنية الفكر الزيدي الهادوي، بل وفي كل الفكر الإسلامي –بدرجات متفاوتة- من بعد تحول الشورى، والخلافة إلى “ملك عضوض”، مع الدولة الأموية” محنة خلق القرآن”, والعباسية، مع فارق جوهري وهو أن الأمويين مع أنهم كانوا مع فكرة وقضية “الجبر” و”الإرجاء السياسي/ المرجئة “، على أنهم لم يقولوا بأن الإمامة أصل من أصول الدين، ومن أن هناك، “وصية إلهية”, ولكنهم غطوا ملكهم العضوض، بطيف واسع من النصوص الأيديولوجية، ومن المفاهيم والخطب الدينية التي تؤكد حقهم الديني/ السياسي في السلطة، والذي بدُاء التأسيس له مع الخليفة عثمان بن عفان، وذلك في تقديرنا من أسباب عدم ظهور فلسفة سياسية “نظرية للدولة”، – بدرجات متفاوتة – في الفكر الإسلامي عموماً وفي الفكر السياسي الزيدي الهادوي خصوصاً في كل تاريخهم الفكري السياسي في اليمن، باستثناء بعض لحظات النور والتجديد والاستنارة مع العلامة المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير، والحسين الجلال، والمقبلي، وابن الأمير، ومحمد بن علي الشوكاني، بعد أن توحدت الإمامة الهادوية في كل تاريخها السياسي، بالدين وبالدولة وبالجهاد، وبــ”الهاشمية السياسية:”، كقاطرة سياسية وعملية لتحقيق ذلك، من خلال مبدأ وشرط “الخروج”.. وهي ذات الأزمة التي تواجهها الجماعة الحوثية، – التي لم تخرج من كهف الماضي الذي كان – على صعيد الممارسة السياسية والفكر السياسي، والديني، مع فارق سياسي/ تاريخي (معرفي)، وهو أن “أنصار الله” يقومون بذلك بعد قرون متطاولة، والعالم الإنساني يقتحم فضاءات الكون الإنسانية مؤكداً مركزية الذات الإنسانية ومصدقاً على حقوق الإنسان، وحقوق المواطنة، ومؤكداً أكثر على دور الفرد/ الإنسان، في صناعة التاريخ، حيث يرتفع صوت وسوط “الجهاد/ الخروج” و”الجبايات” كمخرج من الأزمة ولفرض صيغة الحكم/ بــ”الإمامة”، كما يريدونها ويحلمون بها، بعد أن تم حرف شرط “الخروج”، كشرط من شروط الإمامة الزيدية، عن سياقه الموضوعي والذاتي والفكري التاريخي، الذي أعلنه الإمام زيد بن علي رضي الله عنه، في مواجهة الاستبداد الأموي، في تحويلهم الشورى إلى ملك عضوض، وراثي عائلي، وفي هذا السياق، يحضرني رأي للاستاذ/ زيد بن علي الوزير، من أن الإمام زيد بن علي، كان قد حدد دوافع ثورته، على الأمويين في ثلاثة أسباب “ظلم سياسي (احتكار بني أمية للسلطة)، ظلم اقتصادي (عدم توزيع المال بالعدل)، ظلم اجتماعي (جعل عباد الله خولاً)، وجماع تلك المظالم يمكن تلخيصها في جملة واحدة : فقدان العدل وهكذا قامت ثورة الإمام “زيد” على أساس القاعدة الإسلامية التي بلورها في “وجوب الخروج” على الظالم بدون تكفيره. وهذا هو الفرق بين الزيدية وبين الخوارج في موضوع الخروج” – أنتهى الاقتباس عن زيد الوزير – كتاب (عندما يسود الجفاف مأساة التمذهب) مركز التراث والبحوث اليمني ط(1)، 1993م ، ص93.
ووفقاً لذلك التأطير النظري والفكري والسياسي التاريخي، الذي قدمه الأستاذ/ زيد الوزير، وهو ما تقول به معظم المصادر التاريخية، بما فيها – طبعاً وقطعاً – رؤية الإمام زيد بن علي، فإننا مع الإمامة الهادوية، نجد أنفسنا إنما نعيد – على صعيد الفكر والممارسة – إنتاج ما قاومه وعارضه الإمام زيد بن علي، وقبله الإمام الحسين بن علي، والإمام زيد بن علي، ولكن في صيغة سلالية جديدة “التفوق العرقي”، “آل البيت”، على جميع مكونات المجتمع (الشعب)، تحول معها مبدأ وشرط الخروج، إلى جهاد ضد الآخر، وفي سبيل السلطة والتسلط، أي إلى حالة ذاتية سياسية سلطوية خاصة لتمكين هذا الإمام أو ذاك من السلطة، باسم الجهاد “الخروج” ضد هذا الداعي بالإمامة، أو حتى ضد ذلك المحتسب من نفس السلالة، أو من خارجها، وهو ما كان طيلة تاريخ الهادوية السياسية، أو “الهاشمية السياسية”، وتلكم “الجهادية”،و “الجبائية”,- في تقديرنا- هي أحد أبعاد المشكلة في الأمس واليوم، وكله باسم الدين، ومن هنا تاريخية المشكلة اليمنية.
وعند لحظة “الجهاد” هذه مع اختلاف في المعنى، وفي ممارسة تنفيذ فكرة الجهاد “الخروج”، على الأرض، تلتقي الجماعة الحوثية “أنصار الله” مع مجموعة كبيرة من الحالات، ومن التسميات السياسية “الحزبية”، والأصولية الإسلامية، “الجهادية”، المعاصرة، فقط الهدف الأيديولوجي المباشر قد يختلف بين كل منها (سنة، شيعة)، على أن الوسائل قد تكون إلى حد بعيد متشابهة، وكذلك منطق التفكير المذهبي/ الطائفي – بهذه الدرجة أو تلك – فقط الاختلاف في التفاصيل، أما الجوهر الذي يوحدهما ويجمعهما فهو التمكن من السلطة باسم الدين “الطائفي”، والجهاد، ولن تجد فوارق نوعية كبيرة بينهما حول فكرة “التمكين”، (سنة، شيعة)، في المنطقة العربية.