العرض في الرئيسةفضاء حر

استقالات..!

يمنات

أحمد سيف حاشد

كنتُ أشعر أنني أخوض وزملائي معركة لا مثيل لها مع النجاح والتميّز.. نعمل أحياناً ساعات طويلة تتضاعف أو تتواصل قرب موعد الإصدار.. جهد مبذول يصل حد الأعياء.. من شدة الجهد المبذول والسهر الطويل كنا نرمي بأجسادنا المنهكة وأروحنا المتعبة لبعض الوقت بين الكراسي والطاولات في غرفتي العمل الصغيرتين، ثم لا نلبث أن نعاود الاستيقاظ والعمل مرة أخرى.. ثم يأتينا رئيس الجمعية محمد عبد الرب في الفجر أو مع طلوع الصباح، وقد أحضر لنا الشاي والفطور، وحمل لنا كثير من الود والمحبة، والدعابة التي تبدد التعب وتنعش الروح.

كنتُ أقرأ كل مادة أكثر من مرة قبل أن يتم نشرها في الصحيفة، وربما أحاول تحسين وتكثيف بعض ما سيتم نشره.. أراجع المادة مرة ومرتين، وبعض الصفحات التي أحررها أراجعها أكثر من ثلاث مرات.. لست رقيباً، بل أريد أن يكون ما يتم نشره أكثر جودة وتأثيراً، ورسائله أكثر بلوغاً وفائدة.. كما ننشر الآراء الناقدة لنا، ونرد عليها، أو ندع الناس يدافعون عنّا إن كانت متجنّية، أو ننشر ما يكذّبها محضاً، أمّا إذا وجدنا ما يشير إلى اعتلال أو اختلال نعالجه أو نصلحه دون تردد أو مكابرة.

كان القُرّاء ينتظرون الصحيفة أول كل شهر، وعندما تتأخر يوم واحد أو حتّى بعض يوم لسبب مهم أو لداهم طارئ نجد سيل من اتصالات القُراء، ومن ملاك المكتبات، ومواطنين من محافظات ومديريات مختلفة تسألنا: لماذا ومتى؟! كان محمد عبد الرب يقف على رؤوسنا لننجز ما علينا قبل موعد الإصدار المحدد في الصحيفة بيوم، لتكون في اليوم المحدد بمتناول القراء في كل مكان تصل إليه.

استطاعت “القبيطة” الصحيفة أن تصل الى كل قرية في المديرية، بل ان بعض الرسائل التي كانت تصلنا من بعض الطالبات تحكي أنه يتم تداول النسخة الواحدة بين فتيات القرية، حيث يخصص لكل فتاة يوماً واحداً.

هيئة التحرير كانت تعمل بانسجام ومحبة ونكران ذات دون أن يعني هذا أننا لم نشهد جدل أو اختلاف.. كل عدد كان يصدر من أعدادها لابد أن يشهد قبل صدوره مخاضاً وولادة.. نختلف في هيئة التحرير، وربما نخوض مع بعض عدة معارك صغيرة، لينتهي الحال إلى ما هو أفضل، وفيه رضى، ليخرج العدد على نحو أفضل وأجمل وأتم.

وبعد الإصدار نحتفي بانتصارنا على المصاعب والمتاعب، ونتصالح ونتناسى تماماً ما حدث بيننا.. ثم نبدأ بالاستعداد لإصدار العدد القادم، وقد سمعنا رجع الصدى من نقد وملاحظات ليس فقط في جوهر ومضمون ما يتم نشره، ولكن أيضاً في سلامة التوزيع والتأكد من وصول الصحيفة إلى كل المكتبات والمحافظات بما فيها البعيدة.. كنّا نعتبر التوزيع هو القطاف وثمرة ما نبذله من جهد جهيد.

كان جميع أعضاء هيئة التحرير يتابعون توزيع الصحيفة ويلاحقون أي اختلال في الحال لسده، وكان رئيس الجمعية أهم من يتولى هذه المتابعة، وربما نعمد إلى طبعة إضافية من نفس العدد عندما ينفذ سريعاً من المكتبات في المدن، ومحلات بيعها في الريف.. كانت لدينا آلية توزيع فعالة تحضي بمتابعة مستمرة خلال الشهر.. نجد ونجتهد ونصحح كل اختلال على نحو دؤوب، ونعمل بمثابرة ليكون كل عدد أفضل من سابقه.. ديمومة ومراجعة وإصلاح وترقية دؤوبة ومستمرة.

***

في إحدى الأيام وفي وقت متأخر من الليل في تقاطع شارع عشرين مع شارع الستين في صنعاء، أوقفتُ السيارة التي كنتُ أقودها، حال ما كنت راجعاً بزميلي عبد الملك الحاج إلى منزل إقامته، تصايحنا على نحو لا يخلو من صراخ وضجيج، وصل إلى مسامع دورية كانت على مسافة بعيدة منّا، وهرعت إلينا معتقده أننا سكارى، وعندما أتضح لها إننا غير ذلك، تركتنا ونحن نضحك على لحظة الانفعال التي ربما كانت في وجه ما تشبه الهستيريا، وحال غياب الوعي بمن حولنا من سكان وشرطة وليل هادي وصموت.

لقد كان أكثر الاختلاف يحدث معنا قرب موعد الإصدار لاسيما بيني وبين سكرتير التحرير عبد الملك الحاج.. اختلاف كان يفضي أحياناً إلى مغادرته وتركه العمل في لحظات غالباً ما تكون حرجة بالنسبة لي وللصحيفة التي لا أريد أن تتأخر عن موعد صدورها، ثم يتدخل رئيس الجمعية لإصلاح الحال.

لقد حملني يوماً زميلي عبدالملك على تقديم استقالتي إلى رئيس الجمعية محمد عبد الرب من رئاسة تحرير الصحيفة، وقد أشرت في الاستقالة إلى استحالة أن نعمل سوياً، وإن الاستقالة باتة ولا رجعة فيها، غير أن ناجي كان كعادته كبيراً ونبيلاً وحكيماً، ويجيد إصلاح ذات البين.

كنتُ متوتراً وفي صدري ثورة غضب.. جاء محمد عبد الرب الى المطبعة، واخبر عبدالملك الحاج بانني قدّمتُ استقالتي من رئاسة التحرير، وعندئذ حرر عبد الملك الحاج على الفور استقالته أيضاً، واعتذاره عن الاستمرار بالعمل في الصحيفة دون القاضي احمد سيف رئيس التحرير.. فأخذنا محمد عبد الرب معاً الى مطعم الشيباني ربما لتلطيف الأجواء وإزالة التوتر بيننا، أو على الأقل تخفيفه، وأعطانا موعداً لنلتقي جميعا في مساء ذلك اليوم بمقر الجمعية، لعل التوتر يكون قد زال وهدأت النفوس.

وفي المساء ألتقينا في المقر.. اخذ استقالتي بيد واستقالة عبد الملك الحاج باليد الأخرى، وكان ينظر الى الورقتين وينظر الي وجوهنا.. نظرة فيها كثير من العتب، والتعبير بوحدته وخذلاننا له.. نظرة يكتنفها أيضاً شيئاً من اللوم ومحذور الفشل.. نظرة ترتجينا من كبير.. ثم ضحك ضحكته المعتادة التي تسخر مما حدث وقال:
– “وانا شقدم استقالتي معكم.. ذلحين هذا خبر..!! لا القاضي شتستقيل ولا الخربشات شسيب الصحيفة.. اشتغلوا سوى..”

محمد عبد الرب كان كبيراً لا يرد له كلام.. كان لنا أستاذاً ومربّياً وأباً وكبيراً وفيه قبس من نبوة.

***

زر الذهاب إلى الأعلى