العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة (5)

يمنات

أحمد سيف حاشد

خطوة أولى

في كلية الحقوق

(1)

لازال أمامي من السنوات أربع .. هأنا أدلف باب مسار جديد في حياتي. نقطة تحول جديدة ربما تنتهي في أغلب الأحيان إلى مهنة المحاماة أو القضاء. في كلا الحالين أروم العدالة ورفع المظالم عن الناس ما استطعت. لا زال ذلك الصوت الذي يقول: “يا ما في السجن مظاليم” يرن على مسامعي وصوت الظلم على المسامع لحوح وثقيل.

كنت كرغبة أميل للمحاماة أكثر من ميلي للادعاء. وكان ميلي للقضاء أكثر لأن تحقيق العدالة متعلقة به، القاضي أسرع بتا في الخصومات أو هذا ما يجب، القاضي هو المعني الأكثر في تقرير الحق وإنصاف المظلومين ورفع الظلم عن كواهلهم. سلطة القاضي يمكن أن تكون طريق إلى جنة الضمير وعلى نحو أسرع وأوجز.

ربما بدا لي الحال هكذا في البداية. ساجلت صديق وما لبثت أن رأيت إن في الأمر ترابط وتكامل. يجب ألا انتقص من مهنة لصالح أخرى فيما النتيجة الأفضل تقررها المهن الثلاث. فالقاضي والادعاء والمحامي جهود متكاملة تحقق في مجموعها العدالة المرتجاة.

حدثت نفسي وقلت: إن المهم أن أجدُّ واجتهد، ولازال أمامي من السنوات أربع لاختار، نعم لا زال الأمر بعيد إن كان للاختيار متسع.

القاضي في كلية الحقوق القاضي في كلية الحقوق0

(2)

أنا صاحب القراطيس

في أول يوم دخلت كلية الحقوق شعرت أن حياة جديدة تنتظرني. شعرت أنني أقبل على حياة أعيشها أول مرة. شعرت إن الاختلاط كان حلما بعيد المنال، وتمنيت أن يتم التظاهر من أجله في المرحلة الثانوية احتجاجا لغيابه في مدرسة البروليتاريا، وعندما ولجت السلك العسكري أدركني اليأس أن أجد يوما اختلاط مما حلمت به، ولكن ها أنا اليوم أقبل عليه لأول مرة. هنا سيتحقق الحلم وأفوز بقلب فتاة أحبها وتحبني.

كم هو سعيد أن يفوز المرء في الجامعة بفتاة يحبها وتحبه. كم هو رائع أن تجد ما يدفعك لأن تذاكر وتتفوق لتلتفت إليك عيون فتاة.. كم تشعر بالرضاء وأنت تثابر من أجل أن ترى كل يوم جمال ورقة وحياة تنبض بالنور والأمل.

ولكن خبرتي في الحب وأسر القلوب تقول أنني فاشل مع مرتبة الشرف. فبدلا من أن أشتري دفاتر أنيقة لتدوين الدروس والملاحظات اشتريت سجلات “دكاكين”. تميزت بهم وفوق ذلك تميزت أنني كنت أضعها كل يوم في قرطاس “كاكي” جديد لأن القرطاس السابق يتلف من استخدام يوم واحد بسبب عدم الرفق به من قبلي ومن قبل السجلات التي تكتظ داخله..

كما كانت طريقة تعاملي مع السجلات وأكياس “الكاكي” تعامل عسكري يمارس الجلافة بعيدا عن الرقة والإتكيت. وكانت بعض الطالبات يسمينني في همساتهن الخاصة فيما بينهن بـ”صاحب القراطيس”. وأحيانا كنت أضع قرطاس بداخل قرطاس بعد أن ينبعج الأول في أحد أركانه أو يشتط بسبب جلافة إدخال السجلات إلى داخله.

كنتُ أحب أن أكون مميزا ومنفردا في أمور شتى، ولكن بهذه السجلات وهذه القراطيس كان تميزي أشبه بتميز فطوطة ببنطاله وقميصه..

لقد فكرتُ بالتحرر من هذا الوضع في هذه الجزئية بشراء حقيبة جلدية ولكن كان طول السجلات أطول من طول الحقيبة، كما أن الحقيبة ضيقة ولا يمكن أن تستوعب أربعه سجلات أو أكثر.

فكرت بحقيبة دبلوماسية ولكن كانت واقعة صديقنا محمد صالح “من يافع” والمنتدب من وزارة الداخلية للدراسة في كلية الحقوق تمنعنا من أن نكرر ما فعل.. في الأيام الأولى وقبل أن نتعرف على طاقم التدريس جاء محمد وكان عمره كبير نسبيا مقارنة بنا .. جاء في بدلة مهابة ونظارة بيضاء ويحمل حقيبة دبلوماسية وفيها كراريسه وما أن دخل القاعة دخلنا بعده نتزاحم ونظن أنه الأستاذ وإذ نجده يحجز كرسي في القاعة وعند سؤاله اكتشفنا إنه طالب وليس دكتور. ففقشنا الضحك..

القاضي في كلية الحقوق1القاضي في كلية الحقوق2

(3)

“نور” اللحجية الجميلة

في سنة أولى كانت “نور” الأكثر جمالا ودهشة.. نور تنتمي لمحافظة لحج .. لم أكن أعلم أن في لحج كل هذا الجمال المكنوز.. كنت أختلس النظر إليها كلص خائف من كل العيون.. كثير هي تلك العيون التي كانت تلاحقها وكنت أشعر أن أكثر العيون تراقب كل شيء..

كنت أجلس بقاعة المحاضرات الرئيسية في أول الصف، فيما كانت هي أغلب الأحيان تجلس آخر الصف أو في مؤخرة القاعة في الاتجاه الآخر.. كنت أحرج أن أجلس آخر الصف وأشعر بخجل أن أزاحم الهائمين عليها وهم كُثر. كان كبريائي وخجلي يحولان أن لا أبدو أمام الآخرين طائشا أو مراهقاً يشبه الصبية الغر في التصرفات المتهورة أو الغير محسوبة.

كان الأستاذ إذا سأل الطالب سؤال أو أجاب الطالب على سؤال الأستاذ وكان موقع الطالب أو الطالبة في الوسط أو المؤخرة أقتنص الفرصة وأوهم العيون أنني أهتم للسؤال أو الجواب فيما أنا في الحقيقة أختلس نظرة عجولة من وجه “نور” كنت أنحني برأسي كالحلزون لأرمقها وأسرق نظرة على حين غفلة من الزمن والعيون..

كنت شديد الحذر من أن ترمقني أحد الأعين وأنا أصوب سهامي نحو نور فيما هي مشغولة في دائرة أضيق من الجوار..

كنت شديد الحذر وأنا أتحاشا العيون لأصل إلى عين نور.. كان حذري يشبه حذر جندي الهندسة الذي يسير وسط حقول الألغام.. ولكن هم يفعلون ذلك من أجل نزع الألغام أو فتح ثغرة فيها، فيما أنا أهدف إلى اختلاس نظره من جمال الله وابداعه في نور.. إنها نظرة عاشق ولع كتوم.

نور اختفت فجاءة ولا أدري أين ذهبت!! نور لم تعد تأتي إلى الكلية كل صباح.. يبدو أن نور غادرت الكلية للأبد، ولكن لا أدري إلى أين!!

نور كانت الجمال والدهشة .. نور كانت نور على نار..

القاضي في كلية الحقوق3

(4)

الاعتزاز بالفقر

في كلية الحقوق كان أغلبنا قادم من الريف.. كنّا فقراء.. كانت الدولة توفر للمعوزين السكن والتغذية فيما الذين لديهم سكن في عدن كانت الدولة توفر لهم المواصلات، أما التعليم فمجاني للجميع ورسوم التسجيل السنوية رمزية جداً لا تستحق الذِّكر..

كانت قيم الاشتراكية العلمية تستحوذ على عقولنا.. كنّا نعتز بفقرنا إلى حد بعيد.. كنّا ننظر بازدراء لمن يملكون سيارات ويأتون بها إلى الكلية، وهم إجمالا لا يتعدون عدد أصابع اليدين، وعلى قلتها كنّا نحن من يتعالى عليهم بفقرنا لا هم .. كنّا نعتبرهم برجوازية صغيرة.. كنّا نعتبرهم خطراً محتملا على المستقبل وعلى الفكر الصحيح.

القاضي في كلية الحقوق4القاضي في كلية الحقوق5

(5)

وعي ومعرفة

الدراسة في كلية الحقوق كانت مختلفة عمّا عهدناه من قبل.. الدكتور يلقي علينا محاضرته شفاهه، وكان علينا أن نلاحق تدوين ما يقول، وفي أكثر الأحيان لا يعيد ما قال.. كانت يدي ثقيلة تتصبب عرقا، وكانت هيئتي وأنا أهرع بعد كلماته أشبه براكض متعثر في سباق الضاحية.

كنت أغبط الطالبات لأنهن في هذا السباق جياد.. كانت بعض المفردات تفوتني أو تطير منّي فتضيع الجُمل وتشرد العبارات ولا ألحق تدوينها، ثم أحاول التجاوز بفراغ أحيانا يطول سطر أو أكثر، ثم أعمد عند وقت الفراغ إلى إعادة القراءة ووضع المقاربات، فإن أستحال الأمر أو أُشكل فزميلاتنا لمثل هذا الفراغ رسم ومراجع.

كان الدكتور يسجِّل لنا عقب كل محاضرة مجموعة من المراجع، وعلينا قراءة كل ما فيه صلة بالموضوع، ثم في موعد “السمنار” كل يستعرض مفهوميته.. وكانت تتبع الكلية مكتبة وفيرة بالمراجع والكتب.

كان كل موضوع أو درس يمر علينا يستمر معنا حتى تكتمل دورته حيث تبدأ بالمحاضرة، ثم قراءة المراجع ذات الصلة، ثم السمنار أو المناقشة، ثم الاختبار، ويتوج في الامتحان مسك الختام، وتكون النتيجة هي الخلاصة أو المحصِّلة.

كانت الجامعة في عدن بكلياتها المختلفة تصنع وعيا وابداعا وفكرا وثقافة..

القاضي في كلية الحقوق6القاضي في كلية الحقوق7

(6)

“غربان يا نظيره”

في نصف العام الدراسي بكلية الحقوق كنّا على مقربة من موعد امتحان القانون الروماني.. ذهبت أنا وصديقي يحيي الشعيبي للمذاكرة على البحر في شواطئ صيرة وحُقّات.. كان التوتر السياسي حينها على أشده.. سمعنا من العابرين بلبلة وأخبار متضاربة.. سمعنا أولا أن الرصاص التي تُطلق في منطقة الفتح بالتواهي إنما تستهدف الغربان.. هكذا كان بداية مداره وتغطية ما يجري من حقيقه مؤسفة..

“غربان يا نظيره” مسرحية لعنوان بداية تختصر مستهل المشهد الدامي، ومحاولة للاستفادة من الوقت، وتغطية ما يحدث ليتم إنجاز مهمة تخلص بعض الرفاق من بعض.

في وسط الصورة زميلي يحيي الشعيبي يضع يده على كتف زميله.. وحوله الزملاءفي وسط الصورة زميلي يحيي الشعيبي يضع يده على كتف زميله.. وحوله الزملاء

للاشتراك في قناة موقع “يمنات” على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى