العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. أحداث يناير 1986 .. يوم اكتشافي بعض الحقيقة

يمنات

أحمد سيف حاشد

في تاريخ 18 يناير 1986 تم ابلاغي و نقلي إلى الساحة الواقعة بين بريد عدن من الجهة البحرية، و البوابة التي صارت تابعة لمكاتب و محافظ محافظة عدن، و كان هذا اليوم بالنسبة لي مختلف، حيث أزعم أنني اكتشفت فيه بعض الحقيقة..

كان المنتصرون يعتقلون المهزومين و المشتبه بالانتماء لهم .. سمعت أصوات مكتومة تستغيث بطلب الماء، و كأنها تصعد من قاع بئر ماتت، و جف ماءها منذ سنين، و رُدم سطحها بالخشب و الحجارة و هالوا عليها التراب .. لم أكن أعلم أنه يوجد معتقلين محشورين خلف الجدران الغليظة التي أمامي .. لم أكن أعلم أن خلف الباب السميك أناس يتهددهم الموت بالعطش و انقطاع النفس..

فتح السجان الباب، و كانت مفاجئتي بمشاهدتي الاكتظاظ الذي يفوق التصور .. اكتظاظ محبوس عنه الهواء، و قاطعا للنفس .. إن وقف أحدهم لا يستطيع الجلوس مرة أخرى إلا بشق الأنفس و طلوع الروح، بسبب الازدحام الأكثر من شديد .. إنه اكتظاظ أظنه لو طال قليلا سيكون قاتلا و مميتا .. عشرات الأشخاص ربما يفوقون الثلاثين أو الأربعين محشورين في مكان لا يتسع لزحمة خمسة عشر شخص بالكثير..

عندما تم فتح باب هذا المعتقل كنت كأنني أشاهد فتح علبة لحم مفروم .. يا إلهي ما هذا..؟! شيء غير معقول .. شيء أكبر من أن يصدّق .. رباه ما هذا الذي أراه..؟! هل أنا في حلم أو علم، أم في واقع يشبه الجحيم..

بدت طلّتنا عليهم و كأننا فسحة فرج ساقها القدر ليستعيدوا أنفاسهم، بعد يأس قنوط و صد عبوس .. كأننا جئنا لهم طوق نجاة من موت مؤكد .. شاهدونا و كأن السماء فتحت لهم أبوابها .. هناك من يستغيث و يطلب الماء، و هناك من باتت استغاثته حشرجة لم تعد تفهم صاحبها ماذا يقول إلا بالإشارة .. تداخلت الأصوات و اكتظ الكلام مثلهم، و على نحو لم نعد نعرف أوله من آخره .. لا ضوء و لا هواء .. قليل من الهواء و قطرات من ماء صارت هنا كل ما بقي لهم من أمل في حياة باتت مثقلة بالعطش و العذاب و انقطاع النفس .. إن من يرى هذا الحشر و الاكتظاظ و الموت باديا على الوجوه، و لا يحرك ساكنا، يكون قد أرتكب جريرة لا تغتفر .. وزر كبير، و فعل جُرم عظيم..

ثارت انسانيتي داخلي و خالطها الغضب .. كفرت و عصيت و كدت أتمرد و أثور .. إنه مشهد بالنسبة لي صادم و غير مسبوق، و ما كنت أظن يوما سيأتي و أشهد ما أشهده .. هرعت لأحضر لهم الماء .. كدت أعترك مع أحد السجانين الذين كان يمنعني أن أمكنّهم دبة الماء .. كان يحاول يمنعني بالقوة من ايصال الماء إليهم .. كان يقول لي: “هؤلاء أجبروا رفاقنا أن يشربوا من البلاليع”..

كنت مهيّاً أن أفعل أي شيء مجنون، من أجل أغيث هؤلاء المعتقلين بالماء، مستعد أن ارتكب أي فعل فيه إيقاظ من بقي له ضمير .. كنت مهيئا لكل الاحتمالات إن تم منعي بالقوة من مناولتهم الماء .. نعم كنت مهيأ نفسيا لأن أفعل أي شيء..!! حتى من عارض إيصال الماء للمعتقلين كان يدرك مقدار انفعالي الذي لا يخلو من هياج .. كادت أعصابي تنفلت مني..!!

كل عضلة في جسدي و في وجهي على وجه الخصوص ترتعش .. كان جلدي كقشرة أرض رفيعة يتهيج تحتها بركان عنيف .. ربما لذلك تمكنت من ايصال الماء إليهم .. نعم لقد نجحت و أوصلت الماء إلى من يستغيث .. أحسست أنني نجحت في رسالة تشبه رسالة نبي أغاث قوم دون أن يقتل و لم يهدر روح إنسان .. نجحت في إغاثة قوم محشورين في مساحة لا يزيد طولها و عرضها عن سبعة أمتار في سبعة إن عرض و طال..

كريتر صارت واحدة بدلا من اثنتين، و لكن بجرح عميق و واسع .. جرح أكبر من مساحة المدينة كلها .. كريتر أصبحت بفريق منتصر أما المهزوم فجاري البحث عن كل فرد فيه ليتم اعتقاله .. صار كل ما في عدن و غيرها مهشما و ممزقا و أولها النفوس .. الجروح غائرة و أغور منها عذاب و مجهول ينتظر .. لم تأخذنِ العاطفة بل أخذني أن أرى امتهان الكرامة، و استرخاص حياة الناس..

شاهدت معتقلين جدد يأتون بهم إلى غرفة تحقيق تقع على مسافة قريبة .. سمعت وقائع محزنة عن كيفية الاعتقال من قبل من يقوم به .. كانوا يتفاخرون ببعضها و كنت أتمزق من الألم .. كانت حملات التفتيش و المداهمات للبيوت على أوجها .. كان يتفجر الحزن داخلي كطوفان و أنا أسمع الحكايات .. هذا يداهمون بيته و ينزعونه من مخبأه داخل دولاب في غرفة النوم، و هذا ينتزعوه من تحت السرير .. و هذا من تحت الدرج أو من الحمام أو زاوية مهملة في البيت أو السطوح .. كل هذا يتم وسط فجيعة الأهل و صراخ الأطفال و النساء .. و اكثر من هذا ارتكب عقب الاعتقال..

و هم يتفاخرون بتفتيش البيوت تذكرت ذلك التفتيش الذي حصل يوما لبيتنا في القرية من قبل حمله أمنية بعد مقتل أخي، و كان أخواني الصغار قد انزاحوا مجبرين إلى اصطبل البقرة و الحمار، و لكن ما أن انتهوا من تفتيش البيت، حتى اتجهوا نحو أخواني الصغار في الاصطبل لتفتيشه، و هو مستقل عن المنزل، فصرخوا أخواني بالبكاء الهلع و الفجيعة .. صراخ جعل القائمين على الحملة يحجمون عن تفتيشه و الاكتفاء بتفتيش منزل والدي و منزل أخي المقتول.

يوم 18 يناير 1986 فريق بدأ ينتصر فيما الفريق الآخر يخسر المعركة .. اطلق المنتصر على المهزوم تسمية “زمرة” فيما أطلق المهزوم على المنتصر تسمية “طغمة” هكذا سمّى الرفاق بعضهم، و كان الحماس جياش و الاقصاء شديد، و التعبئة خطيرة و ملغومة بالفجيعة، و الأسوأ أن بعض الممارسات أثناء و بعد الأحداث بلغت حد البشاعة و الطغيان، فيما الشعور بالمسؤولية من الجانبين كان منعدم و مفقود..

18 يناير 1986 بدأ يوما فارقاً بمؤشرات منتصر و مهزوم .. من ألتحق بالفريق المنتصر في هذا التاريخ و بعده كان ينظر إليه أنه تحصيل حاصل، لا يضيف شيئا لقائمة المنتصر، بل يرونه كمن ركب موكب الانتصار بدافع المصلحة، و لم يكن له أي دور فيما سمُوه حسم المعركة .. هكذا سمعت يومها المنتصرون يتباهون و يتحدثون في الساحة التي تم نقلي إليها..

صحيح أن أحد الأطراف ارتكب خطيئة فادحة بحق الوطن عندما قرر الاحتكام للغدر و السلاح، و لكن الطرفين اشتركا معا في القتل المريع خارج القانون، و تعميق الانقسام المجتمعي، و الاستقواء و التحشيد المناطقي و الجهوي، و الشحن و التعبئة على الكراهية المقيتة، و كانت النتيجة هزيمة وطننا في الجنوب عام 1986،

و تكررت الخطايا بعدها حتى هزيمة اليمن في حرب 1994و في 2015 تم تدمير ما بقي من يمن و وطن و دولة و مستقبل .. و لازلنا نعيش الهزائم و نشارك في تلاشي و ضياع اليمن .. إلا أن أسوأ من كل هذا أن نسمي هزائم الوطن انتصارات عظيمة أو مكاسب عظام..

أما التعذيب و بعض وقفاتي على بعض المآسي فسأفرد لمشاهداتي مقام، و هي بعض من الحقيقة التي عرفتها ذلك اليوم و ما تلاه .. و هذا لا يعفينا من البسط و المقام لما نعيشه من حرب و مآسي و موت وطغيان و جوع و مجهول، و هو أكبر ألف مرة مما شهدناه في أحداث يناير 1986..

***

يتبع..

قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى