ارشيف الذاكرة .. بكرة عرسها
يمنات
أحمد سيف حاشد
- في سباق عمري مع الزمن أنخفض سقف شروطي حيال الفتاة التي أبحث عنها لتكون شريكة حياتي في المستقبل، بعد أن أحسست إن العمر يذهب سريعا، و أني أرزح تحت ضغوط نفسية و اجتماعية شتّى ترى من غير العادة و السوية حيال كل من تقدم بالعمر نحو الثلاثين دون زواج، فيما جل أقراني كانوا قد تزوجوا قبل أن يبلغوا سن العشرين عام، أو أكثر بقليل لمن تأخر..
- بدخولي سن الثمان و العشرين عام أحسست أني أخوض مواجهة تشتد كل يوم مع وعي مجتمع مثقل و محكوم بطغيان موروث من العادات و التقاليد و الثقافات التي تستنكر و تنتقص من أي شخص يمضى نحو الثلاثين و هو أعزب .. لا أذكر أحد من اسرتنا أو قبيلتنا قد تأخر في زواجه إلى مثل هذا السن..
- إن ولوجي في عمر الثمان و العشرين سنة قد جعل العنوسة بمعيار مجتمعي تزحف نحوي كتمساح .. تطرق بابي بيد من خشب .. تقذف وجهي الخجول و المتسربل بالحياء بشرر نظراتها و سهامها الحداد .. و مع ذلك لم أتنازل عن الجمال الذي أبحث عنه، و إن تنازلت عن المغالاة المفرطة فيه، و استمريت متمسكا برفضي الشديد أن أفطر بالبصل بعد صيام دام طويلا، و صبر أشبه بـ”صبر الحجر في مدرب السيل و أكثر”..
- كنت أحدث نفسي: إذا توفر الجمال الذي يناسبني، فكل شيء غيره قابل للبحث و التعاطي؛ فطالما هناك فترة خطوبة فالأمر فيه رحب وسعة .. لا بأس أن تكون مرحلة الخطوبة مرحلة أفرز فيها ما هو ممكن عمّا هو مستحيل .. تفاوض أحاول أن أجد فيه نفسي أو أحاول إعادة صياغتها في مخاضي مع الحبيب، ثم نمضي معا لنكمل مشوار العمر الطويل، أو ما تبقي لنا منه..
- في فترة الخطوبة يمكن بحث كل شيء، و أولها الملائمة، و أعني ملائمة كل منا للآخر .. و تقدير مدى إمكانية نجاح الزواج مستقبلا من عدمه، ثم اتخاذ القرار أما بالمضي إلى الأمام، أو التراجع إلى الخلف إن وجدت أسباب جدية تحملني على هذا التراجع و فسخ الخطوبة .. هكذا كنت أحدث نفسي، و أنا أفكر و أفترض كل الاحتمالات..
***
- في إحدى الأيام و فيما كنت ذاهبا إلى بيت عمي “الحربي” في دار سعد، شاهدت بالصدفة فتاة تطل من باب بيتها جوار منزله القريب .. استبشرتُ بها و ملئني الفرح و غمرتني السعادة .. ظننتها صدفة العمر التي لا تعوض .. ليلة القدر التي لا تعود .. أو على الأقل الفرصة التي يجب أن لا أهدرها دون محاولة .. لقد ملئت تلك الفتاة عيوني و أعادت ثقتي بأن الدنيا لازالت بخير..
- و رغم أن وجهها كان مخلوب بالحنّا، إلا أنه لم يستطع الانتقاص من جمالها الفارط .. وجهها كالشمس التي تتحدى الغيوم .. محياها يشرق وهجاً و بهجة .. صوتها و هي تدعو الصغيرة كالناي و الحنين .. رأسها معصوب بقماش ملون تبدو فيه متوجا بجمال الطواويس .. ملكة بكل المقاييس..
- مررتُ من زقاق صغير على مقربة منها، لأن الطريق العام كانت مسدودة بـ “مخدرة” تم تحضيرها لعرس .. و ما أن اقتربت من الفتاة أكثر حتى بدت في عيوني مكبّرة، سحر يحلق في البعيد .. يحملك إلى أحلامك التي ترف في السماء .. رقة تحتويك من ألفك إلى ياءك و لا تبقي لك همزة .. أنوثة تناديك و تفجر فيك عوالم من شوق و عشق و فرح .. جمالها الطاغي يترامى في مداك، و يتسع بعد احتلاك .. غرقتُ في ذهولي حتى قاع المحيط..
- آسرة إبهارا و دهشة .. رشيقة كغزالة كادت أن تطير .. متحفزة بعنفوان مهرة برّية .. نهودها حقول و ضباء و أيائل .. شفتاها نبيذ معتق يصطفيك .. عيونها تبرق حنينا و تغدق بالمطر الهتون .. سحرها غالب لا يُقاوم .. اصطادت قلبي كعصفور .. صادتني بيسر و سهولة .. بديت في لحظة دهشة كسمكة على سنارة صياد محترف .. تراجعت إلى الوراء، فتبعتها روحي الهائمة..
- دخلتُ إلى بيت عمي، و قد تملكت الفتاة روحي و قلبي و مشاعري .. رحب عمي بمقدمي و الذي كنت أزوره على فترات متباعدة .. جلست و أنا مسلوب اللباب، شاردا في ذهول عميق، فيما كانت خيولي داخلي تركض و تصهل في اشتياق ولوع .. بديت موزعا بين شرودي و اضطرابي المحتدم..
– سألني عمي: مالك .. أيش في..؟!
أجبت: عادي .. و لا شيء .. تمام
أحسست و أنا أقولها أن لساني تجرُّ قطارا دون عجل .. لم يقتنع عمي بإجابتي و بدأ كأنه يريد أن يساعدني باختراع عذر فقال:
– بائن عليك تعبان .. مريض .. محموم..
أجبته: و لا شيء .. أنا تمام..
أحسست أن الكلمات تفر مني، و عقلي لم يعد قادرا على جمع حروف مفردة واحدة..
حاول عمّي أن يوفر بعض من إحراجي الذي يجتاحني .. أراد أن يخفف عنّي .. دخل إلى غرفة في الجوار ربما لإعطائي فسحة استجمع فيها أشتاتي و كلماتي .. أستعيد اتزاني و بعض من وعيي الشارد أو المضطرب..
- حدثت نفسي و قلت: إنها فرصة يجب أن لا تفوتني .. لطالما الخجل ألحقني بالخسران .. يجب أن أسأل عمّي عن تلك الفتاة..! و مدى امكانية طلب يدها..؟! يكفي ما أهدرته من فرص و سنين طوال .. أهدراي للفرص يعني أنني لا أستحقها .. فرصة مثل هذه يجب أن لا تذهب سدى..!! لطالما أهدرتُ الفرص و خذلتها و خذلتُ معها روحي المتعبة..
- كان بإمكان فرصة واحدة أن تغيّر مجرى النهر .. كان بمقدور فرصة واحدة أن تغيّر ممشى الطريق، و تختصر مشوار الألف ميل .. فرصة واحدة من سنين طوال كان بإمكانها أن تغيير الحال إلى أفضله .. عاشق و زوج و أب لأطفال يكبرون..
- احتدم التناقض داخلي .. تجاذبني التردد و الخجل و استصعاب الحديث، و بين فرصة تستدعي جمع شجاعتي و جُرأتي .. و في مخاضه قررت الانتصار للفرصة التي لربما تنتظرني، و البوح لعمّي عمّا يُعتمل داخلي من وقوع و احتدام..
و ما أن دخل عمّي قلت له و أنا أتصبب عرقا:
– أريد أتزوج يا عم .. فترة طويلة و أنا أبحث عن فتاة تناسبني .. قبل قليل شاهدت فتاة ملئت عيوني في باب البيت التي في جواركم القريب .. أريد أن أخطبها .. أتمنى أن تساعدني في طرح الأمر على أسرتها و تعرفني عليهم و يتعرفون بي .. لعلي أجد فيها نصيب..
- أستفسرني عمّي عن البيت وصفات الفتاة التي شاهدتها بتفصيل أكثر .. فذهبت أصف كل التفاصيل من الصغيرة إلى الكبيرة، حتى لا يحدث أي التباس أو أدنى خطاء يمكنه أن يوقعني و يوقعه في حفرة كبيرة و إحراج أشد..
- أجابني عمي و قد فلتت عليه ضحكة .. أحسست إنها أصابتني بزلزلة .. ثم أعلمني إن “المخدرة” التي تم تجهيزها في الشارع أمام بيتها هي لعرسها .. أمتقع وجهي .. لحظة إرباك اجتاحت كياني .. زادت نبضاتي حتى انعدمت فواصلها و صارت كتيار كهربائي .. عاد قلبي من لديها عصفورا بلا جناح و لا ريش .. عاد يحشرج بصوت مخنوق بغصة ذابحة..
- أحسست بالخجل الأشد يستولى على كياني .. خيبة علقتني فيما يشبه المشنقة .. أردت مواراة وجهي سريعا عندما لم أجد مكانا أدسه فيه .. تمنيت لحظتها حضن أمي لأدس وجهي فيه، و أجهش بالبكاء حتى آخر نشيج، و لكن أمي كانت في البعيد..
- نهضت دون سيقان تقوى على حملي، و أنا أقول: “ليس لي نصيب” فيما كان عمي يطلب استبقائي لأستريح و نتغدّى معا، فيما أنا أستعجل أمري نحو المغادرة، و الحزن يعتري بدني و الصدمة تكاد تفجر عظامي .. حملت رجلاي التي خارت قواها، و لم تعد تقوى على المشي، و خرجت و أنا مكسورا ومكسوفا و مقطوب الوجه و الحاجبين..
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.