العرض في الرئيسةفضاء حر

قات المجنون

يمنات

أحمد سيف حاشد

فتحتُ الباب لأرى من طارقه؛ فرأيت صديقي وزميلي العزيز صالح عبدالله، والمشهور باسم “الشرعية”، بقامته الفارعة وابتسامته التي تشعرك بألفة عذبة، ودفقة من محبة.. جمعتنا صداقة لا تخلو من حميمية، فيها انسجام أرواح وطبائع.. لطالما شدّتني إليه طيبته الخالصة، وبعض من نقاء نادر.. هو من محافظة أبين التي أقمتُ فيها عامين ولم أعرفه فيها، ولم أعرفه في عدن التي سكنتها وسكنتني، وإنما عرفته وزاملته وجاورته لفترة في العاصمة صنعاء.

كان يومها هو رئيساً للنيابة العسكرية في المنطقة الشرقية، والتي يشمل نطاق اختصاصها محافظتي حضرموت و”المهرة” فيما كنتُ يومها رئيساً للمحكمة العسكرية المركزية في صنعاء.. كان هذا على الأرجح عام 1997.

فاجأني صديقي صالح بزيارته المباغتة دون موعد سابق.. جاء بغرض المقيل معي فيما لازالت علاقتي مع القات في غير وئام، لا أنجر إليه إلا محرجاً أو فيما هو مُلِح، وأول ما أنتهي منه أشعر بكدر وقرف وكآبة.

أهمية لقائي بصديقي صالح هو في كونه يأتي بعد غياب أمتد لشهور طويلة على غير ما أعتدنا عليه، وما يحمله من أخبار المحافظات البعيدة يستحق المقيل؛ وقبل هذا هو عز ونعم الصديق، وما بيننا من شجن يستحق الحفاوة والاهتمام.. رفضتُ عرضه بمقاسمة قاته أو فائضه، فالسوق قريب منّا إن لم يكن على مرمى حجر.. هرعتُ إلى السوق دون مهل.

***

كنتُ يومها أقيم في منزل واقع بين نهاية شارع “مازدا” وسور الهيئة العامة للمياه المجاورة لسلاح الصيانة في “الحصبة”.. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة والنصف بعد العصر.. وجدتُ القات قد نفذ، والبائعون قد غادروا المكان، ولكنني شاهدتُ رجل متكوّم يمضغ القات في زاوية من الرصيف في “الجولة التي يباع فيها القات.. خلته من بائعي القات.. قلتُ لنفسي: إن القدر لا يريد أن يخذلني مع ضيفي، أو يعيدني من السوق خالي الوفاض، وأعود إلى عرض رفضته.

شاهدتُ أمام الرجل كيساً غامق اللون، مصنوعاً من مادة “النايلون” محشواً بأوراق القات.. ولظنّي أنه أحد بائعي القات، اتجهتُ نحوه بخطوات حثيثة، وقد أحسست أنني لن أعود من السوق بخيبتي مكسوراً، بل شعرتُ أن لي في الحظ بقية ونصيب.

جلستُ أمامه القرفصاء، وعلى نحو لا يخلو من ملامح الاستعجال.

قلت له: 

– اقطب.. بكم هذا القات يا حاج؟!

فأجاب دون تردد: بسبعين ريال.

لم أفكر بمساومته، فالسعر “عرطة” تجعل من المساومة عبثاً وغبناً فاحشاً بحق البائع الطيب. سبعون ريالاً مبلغ لا يقبل المساومة، فهو يكاد يكون مجاناً، والقات في تلك الساعة المتأخرة لا يوجد عند رجل آخر غيره.

شعرتُ أن الرجل أنقذني من إحراج صديقي، وجنبني مقاسمة قات ضيفي، وأخرجني من ورطة العودة بخفي حنين.. أحسستُ بالامتنان للرجل الذي أغرقني بطيبته.. أعطيته مائة ريال، واستدركتُ بالقول له: الباقي على شأنك. فيما هو كان قد دسّها في جيبه، دون أن يهتم بإعادة أي شيء.

كان يفترض أن الرخص الباذخ للقات ـ حتى وإن كان السوق بواراً ـ وكثرته اللافتة تثير استغرابي وسؤالي، غير أن هذا لم يحدث ربما بسبب عجلي وغربتي في أمور القات، وأكثر منها سبب أهم يجعلني لا أكترث ولا أهتم بما يهتم به الآخرون من ماضغي القات، حيث يكفيني أنّي أنا من سيمضغ القات لا أحد سواي، وطالما هو يؤدّي دوره في المقيل، ويثبت أنّي مخزّن مع من معي، فهو أمر يكفيني، ولا أحتاج أكثر من هذا.

أجفلتُ راضياً عن البائع إلى حد بعيد، ومتجمل منه كمنقذ في توفير حاجتي التي بدتَ لي ماسة، وفي وقت بدا لي عصيباً.. لم أكن أعلم أنه مجنون، وأن كيس القات الذي أمامه، إنما هو نفايات وتوالف قات لا يُشترى ولا يُمضغ، وغير صالح للاستخدام الآدمي، بل ربما تعافه أيضاً الأغنام وتأبى أن تأكله.

أوراق قات متهالكة وتالفة، وبعضها قاسٍ يُستصعب مضغه.. أوراق قات لفلفها الرجل من أمكنة بيع القات وزوايا وحواف الرصيف.. بعض الأوراق ربما مرت عليه الأقدام والأحذية.. حشاها في الكيس، وتعاطى منه، وجلب له الحظ زبون طيب مثلي، ليشتري منه ويمتن له.

***

بدأنا المقيل أنا وصديقي وبيننا جسر من المودة والشجون.. لأول وهلة لفت كيس القات الكبير نظر زميلي.. كان القات الذي يحتويه يكفي قرية، ولكنه أحجم عن الفضول والسؤال تأدّباً وتحاشياً لأي إحراج.

بدأتُ بإخراج بعض وريقات القات من الكيس.. كانت أوراق مفلطحة وعريضة.. بعضها مهترئ، وبعضها قاس وسميك ومتسخ.. كنت أضع الورقة على بنطلوني فوق فخضي، وأمسحها براحة يدي، ثم أعطفها أربعا أو خمساً، قبل أن أحشيها في فمي.. أول مرة أشعر إن ذلك القات يستقر في فمي وقت أطول قبل أن يغادر إلى بلعومي ومعدتي، غير أن ما كان عالقاً بالقات من تراب وغيره ترك أثره المغبر على البنطلون، وعلى نحو واضح ولافت.

ذكّرني مشهد ما أفعله، برجل في “طور الباحة” كان معه بعير، كان الرجل يقوم بتعطيف أوراق أشجار الموز وأحيانا زرعاً ذو أوراق عريضة، حتى يصيُّرها بشكل حزمة صغيرة، ثم يحشيها في فم البعير.. نعم، إنه تشبيه مع الفارق، والفارق هنا أنني كنتُ أعتمد على نفسي، فأنا من يعطّف أوراق القات، وأحشو فمي بها، دون مساعدة من أحد.

بدأ صديقي يلحظ أن ما أفعله غير طبيعي، وبدأ يشعر بحالة احتدام داخلي مع فضول يخامره إحراج اللحظة، فيما كنتُ أنا أتصرف على نحو بارد وغير مبالٍ، وربما أبدو في هيئة الواثق كثيراً من نفسه، ولا يظهر عليّ أي استغراب أو دهشة مما أفعل، وكأني أمتحن أعصاب صديقي.. حاشا أن أفعل هذا، ولكن جرت الأمور على ذلك النحو دون علمي وإدراكي أن طريقتي وما أفعله كان مستفزاً إلى حدٍ بعيد.

بدأتُ أعثر في كيس القات على ربلات ومرابط.. أغطية متهتكة لقناني مياه معدنية.. كنتُ ما أجده أرمي به ارضاً دون مبالاة، واستأنفت مضغ القات، وأبدو أمام صديقي مهتماً ومندمجاً بحديث أخباره الحافلة، والتي لا تعكر انسيابها وتدفقها غير المطبات التي كانت تنقله شارداً إلى ما أفعله أمامه.

 ما أفعله كان يُخرجه من سياقه وانهماكه في الحديث لينشغل بدلاً عنه بحركاتي المقرونة ببرود رجل كأنه يقصد استفزاز صديقه.

لقد كان صديقي يعاني ويغتلي في جواري، ولم يعد يستطيع ان يتمالك أعصابه، أو يمنع فضوله من التدخل والسؤال.. كل شيء كان يحدث يثيره ويستفزه فيما هو يحاول قمع ردود فعله بأعصاب تحاول أن تلوذ بثبات لا يخلو من هشاشة.

ما أخرجه من الكيس من توالف وبقايا أشياء كان يشد الانتباه والنظر دون أن أحاول مداراة ما أفعله، بدوتُ وكأنني جريئاً بما أفعله، ابتداءً بإخراج أوراق القات من الكيس، ورمي ما أعثر عليه من أشياء في كيس القات، وطريقتي في التعاطي مع كل ذلك، والتي لا تخلو من براءة وتلقائية، وأكثر من ذلك هدوئي وبرودي في طريقة تنظيفي لأوراق القات، وتعطيفها، قبل أن أحشو فمي بها.. بديتُ في هيئة رجل أبله لا يكترث ولا يبالي بمن حوله، وبما يفعل.

***

بعد معاناة زميلي مما يحدث، لم يستطع حبس فضوله أكثر، وأفلت سؤاله عن لجامه بعد معاناة وصبر نفد:

– بكم اشتريت القات؟!!

فأجبته بتلقائية وبرود: هو طلب سبعين ريال، وأنا أعطيته مائة ريال.. ما كان باقي قات في “المقوات” إلا عنده.. السعر والله “عرطة”.

ما كان يطفح به صديقي من فضول مكتوم داخله أنني أتحدث بتلقائية وبساطة، ودون أي تكلّف أو مراعاة لأصول المقيل، ولضيفي الذي فاض به الكيل دون أن أعلم.. كانت المفارقة كبيرة بين ما أفعله في تلك اللحظة، وما لدى زميلي من حيرة وفضول مقموع بحيائه.. إنه مشهد يستحق أن يكون بعضاً من عمل مسرحي كوميدي بامتياز.

كابد صديقي كثيراً ولم يعد يتحمل مزيداً من إطرائي على بايع القات، وسعره “العرطة” التي ظفرت به.. نفد صبره وفاض تحمّله، وصار كبح فضوله غير ممكن؛ فمد يده وخطف من أمامي كيس القات كصقر؛ وكأنه كان يرصده من أول دقيقة مقيلنا.. أخذ يفتش في داخله بيده وأصابعه المتحفزّة، ويخرج أشياء ومخلفات وقراطيس وأغطية، وفي كل مرة يخرج شيئاً من الكيس كان يردد بدهشة وعجب: الله الله.. الله الله ويرمي به، ثم رمى بالكيس بما فيه إلى باب غرفة مقيلنا، وهو يقول: كل شيء موجود في الكيس.. ما عاد شيء إلا الحنشان.. ثم قسم قاته، وحلف يمين أن لا أخزّن إلا من قاته.. فنزلتُ عند يمينه وتجنبت سجاله، غير أن ذلك لم يمنع من قهقهتي كمجنون بين حين وآخر، بعد أن بدأت أدرك سوء ما فعلتُ.

بعد يومين طلب صديقي أن نمر على السوق الذي اشتريت منه قاتاً وعلى الرجل الذي باع لي قات، وأصر على طلبه، فلمحته على رصيف الشارع يجمع بقايا قات إلى “علاقية” نايلون فشهقتُ وقلت لصديقي: 

– هذا هو.. هذا هو الذي باع لي القات.. هذا الذي باع لي القات!!

فرد صديقي: 

هذا مجنون!! ما تشوف القراطيس الذي فوق رأسه!! 

كان رأسه معصوباً بقراطيس “النايلون” الملونة، ومرابط أخرى، ومشقّر بشرايح قراطيس سجائر محلية.

فأجبت وقد أدركتُ ورطتي: 

– يا أخي أنا أصلاً لم أكن مركزاً على رأس الرجل.. أنا كنتُ مركزاً على القات.

فانطلقت قهقهتنا رغم إرادتنا كصوت رشاش، استرعت انتباه المارة.. التفت البعض إلى مصدر الصوت مستغرباً، ومنهم من توقف يبحث عن سبب القهقهة..!!

***

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى