أهم الأخبارالعرض في الرئيسةفضاء حر

القضاة ليسوا عبيدًا في مكتب أحد، والوظيفة القضائية لن تكون الوجه الآخر للعبودية

يمنات

القاضي عمر عبد الغني الهمداني*

تم توقيف راتبي بقرار مفاجئ و منفرد محرر من القاضي علي الأحصب – رئيس جهاز التفتيش القضائي بمكتب النائب العام – دون أي إخطار سابق، أو مساءلة، أو مذكرة رسمية، ودون أي صفة للمذكور في توقيف راتبي ، حيث لم أعد أتبع إداريا لمكتب النائب العام ، بل لمجلس القضاء الأعلى.

ما جرى لا يمكن توصيفه كإجراء إداري مشروع، بل هو تعسف صريح في استعمال السلطة، ومساس مباشر بكرامة القاضي وهيبة القضاء.

لم تصلني أي مذكرة، ولم يُطلب مني شيء، ولم يتم التخاطب معي ولا مع مجلس القضاء الأعلى وفق الأطر القانونية المعروفة حول إي إشكالية يمكن اعتبارها سببا لتوقيف الراتب .

كل ما في الأمر أن الراتب أُوقف، ثم طُلب مني أن أبحث أنا عن السبب، وأن أطوف بين وزارة العدل، ومجلس القضاء، ومكتب النائب العام، لأكتشف لاحقًا أن التوقيف تم بذريعة “إخلاء عهدة السيارة”.

والقاضي الأحصب يعلم علم اليقين أن السيارة صُرفت لي بعد إخلاء عهدتي من النيابة العامة ونقلي إلى المحاكم، لا لكوني عضو نيابة بل لكوني قاضيا مستحقا مثلي مثل غيري من القضاة.

وحتى على فرض الجدل – جدلًا لا إقرارًا – أن صرفها كان بصفتي عضو نيابة، فإن صرفها لي يبقى مستندًا إلى صفتي القضائية، باعتباري قاضيًا أعمل في خدمة الدولة وفي الميدان، بسيارة حكومية وبرقم حكومي، لم تُستخدم لأغراض إجرامية ، ولا في أي نشاط خارج إطار الوظيفة.

ومن ثم فإن المطالبة بإعادتها، في الوقت الذي لا أزال فيه قائمًا على رأس عملي القضائي، لا تستند إلى منطق إداري ولا إلى مقتضيات المرفق العام، لأن العهدة تُسحب بزوال الصفة أو انتفاء الحاجة، لا لمجرد تغيّر المسؤولين أو الأمزجة أو تبدّل مواقع الرضا. فالسيارة صُرفت لقاضٍ، ولا تزال بيد قاضٍ، يعمل في الميدان ويؤدي واجبه، وليس لمن انتهت خدمته أو غادر العمل القضائي.

فكيف يُطالَب قاضٍ قائم بعمله بإعادة وسيلة أداء وظيفته، ليُعاد صرفها – عمليًا – لموظف آخر ، لا لاعتبارات تنظيمية معلنة، بل لموازين وساطة ورضا؟

هذا إن لم يتم رميها في حوش مكتب النائب العام لتهلك وتتدمر كغيرها من مئات السيارات التي أكلتها الشمس والمطر في حوش المكتب دون أن تستفيد منها الدولة أو موظفيها.

إن هذا المسلك، لا يندرج تحت إعادة تنظيم العهد، بل تحت إساءة استعمال السلطة والانحراف بها عن غاياتها المشروعة، بتحويل الوسائل الوظيفية من أدوات خدمة عامة إلى أدوات مكافأة وعقاب.

ومع ذلك، لم يحدث – مطلقًا – أن طُلب مني إعادة أي سيارة فرفضت، ولم يسبق توقيف الراتب أي إخطار، أو مذكرة رسمية، أو طلب قانوني بإعادة العهدة، حتى يُقال إن هناك امتناعًا أو مخالفة.

والأصل قانونًا وإداريًا أن تُحرَّر مذكرة رسمية بطلب إعادة العهدة، وتُبلَّغ للمعني، ويُمنح مهلة معقولة، ويُثبت الامتناع إن وُجد، ثم تُتخذ الإجراءات وفق تسلسل مشروع ، هذا في حالة كان هناك مبرر مشروع للإعادة.

أما القفز مباشرة إلى توقيف الراتب دون مبرر للإعادة ودون حتى طلب، ودون إخطار، ودون محضر امتناع، فهو إجراء باطل وتعسفي لا سند له من قانون ولا لائحة.

وبالتالي: لا يوجد مبرر مشروع للإعادة ، و لا يوجد طلب إعادة ، ولا يوجد رفض ، ولا يوجد محضر امتناع ، ولا يوجد أي أساس قانوني لتوقيف الراتب.

إن ما جرى ليس تنفيذًا للنظام، بل استعمال للراتب كأداة ضغط، وهو مسلك مرفوض يمس كرامة القضاء وهيبة قبل أن يمس كرامة القاضي نفسه.

وقد تواصلت مع القاضي علي الأحصب هاتفيًا ، فلم يرد ، ثم أرسلت له رسالة عرّفت بنفسي وصفتي، ثم اتصلت به، ففتح الهاتف وقال: “من معي؟” ثم أغلقه بذريعة أنه لا يسمع، وحين حاولت الاتصال به مرة أخرى رفض المكالمة وردها “مشغول”.

وهنا أقولها بوضوح: من كان نظيف البطن لا يقبل أن يُعامل كلص، فالذليل هو السارق فقط، لا القاضي.

لقد أخلينا عهدتنا من النيابة العامة منذ قرابة عام، ونُقلنا إلى المحاكم، وعُيّنا في عبس محافظة حجة ، ثم في صعدة، ثم في شرق إب، ومع ذلك لا تزال رواتبنا محتجزة في النيابة العامة، وتُستخدم كأداة ضغط وابتزاز، في مخالفة صريحة لأبسط قواعد الإدارة.

والسؤال المشروع الذي نطرحه أمام الجميع: لماذا لم تُنقل رواتبنا إلى وزارة العدل؟ وكم يحتاج القاضي من السنوات لينجز معاملة تخص راتبه وحقه؟ وأين وزارة العدل؟ وأين مجلس القضاء الأعلى؟ وأين الجهاز الإداري المسؤول؟

اليوم يُطلب منا أن نترك عملنا ، ونذهب إلى صنعاء لمتابعة إطلاق راتب أُوقف من غير ذي صفة وبلا سبب.

وأقولها بمرارة يشهد الله عليها: لا أملك ما يوصلني إلى صنعاء، وأحتاج راتبين لأتمكن من السفر لإطلاق راتب واحد.

ويُزاد على ذلك أن السيارة محل الذريعة ليست جديدة ولا مميزة، بل سيارة مستعملة ومتهالكة، تحملتُ عبء إصلاحها من راتبي الخاص ، وأنفقتُ من قوت أطفالي لإبقائها صالحة للسير وأداء الواجب.

كنت – ولا أزال – كل يوم في ورشة ، أُصلح أعطالها حتى لا يتعطل عملي القضائي، ومع ذلك يُستكثر علينا حتى هذا الحد الأدنى من وسيلة أداء الوظيفة.

فأي منطق إداري أو أخلاقي يبرر سحب سيارة متهالكة، أُنفق عليها القاضي من جيبه، لا لأنها زائدة عن الحاجة، بل لأنها لم تعد تندرج ضمن حسابات الرضا والوساطة؟ ثم إن الراتب ليس ملكًا للقاضي، ولا منحة زائدة عن حاجته. فالراتب نفقة مقررة شرعًا وقانونًا، تتعلق بها حقوق أطفال ونساء وأسر لا ذنب لها، ولا شأن لها بأي إجراء إداري أو نزاع وظيفي.

والمساءلة – إن وُجدت – يجب أن تكون شخصية، بوسائل قانونية معلومة: طلب إيضاح، إخطار، مساءلة، تحقيق، أو وقف عن العمل وفق الضوابط، دون أن يُتخذ الراتب سلاحًا يطال غير المخالف قبل المخالف.

أما توقيف الراتب دون مخالفة ، بل تحكم وهوى ، واستهتار ، فهو: غير قانوني لعدم سنده الإجرائي ، وغير أخلاقي لأنه يعاقب الأبناء والنساء بدلًا عن الشخص ، وغير إنساني لأنه يقطع مورد العيش الوحيد بقرار فجائي ، ويمثل انحرافًا خطيرًا في استعمال السلطة لا يمكن السكوت عنه، لأن السكوت عليه اليوم يجعله قاعدة غدًا.

إن هذا المسلك لا يسيء إلى قاضٍ بعينه، بل يضرب فلسفة العدالة ذاتها، ويحوّل الإدارة القضائية من ضامن للحقوق إلى خصم يستعمل القوت اليومي وسيلة إخضاع.

هذه ليست قضية راتب…
هذه قضية كرامة قاضٍ، وحدود سلطة، وهيبة قضاء

* قاضي محكمة شرق إب الابتدائية

زر الذهاب إلى الأعلى