أرشيف

الربيع العربي يُلهم ويُزهر! د. عبدالله خليفة الشايجي

على رغم أن الحراك الثوري العربي لم يتم حتى الآن حسم أي من “ثوراته” في الدول التي تفجرت فيها حركات الاحتجاج التي يطلق عليها تجاوزاً “ثورات عربية”، وعلى رغم اضطراب مشهد ذلك الحراك واختلاط مشاعر التوجس والخوف الحقيقية التي تلوح في الأفق عن احتمال اختطاف أو تعثر هذا الحراك على أكثر من جبهة ودولة وصعيد، إلا أن المشهد يحمل في طياته أيضاً بذور أمل التغيير. فهناك انتخابات لمجلس تأسيسي في تونس خلال هذا الشهر، وهناك تحديد لانتخابات برلمانية في مصر، ومع اقتراب الذكرى السنوية الأولى “لثورة 25 يناير” في مصر يقترب أيضاً تحديد انتخابات الرئاسة. والقذافي انتهى كليّاً مع فقدان السيطرة على مقاتليه وكتائبه التي لا تزال تمثل لغزاً: لماذا لا تزال تلك الكتائب تقاتل في آخر حصونه ومسقط رأسه -سرت- حتى الرمق الأخير محاولة دون جدوى تأخير قدر محتوم! أما الرئيس اليمني فيعود ليناور مجدداً في تكرار لوعوده بالتنحي عن السلطة خلال أيام دون أن يتحدث عن الآلية أو المبادرة الخليجية التي هي طريق الخلاص الوحيد له. وفي سوريا يحصد الخيار الأمني أرواح السوريين دون هوادة ويرتفع عدد من سقطوا إلى أكثر من ثلاثة آلاف قتيل ليستمر نزيف الدم السوري دون ظهور ضوء في نهاية هذا النفق المخيف. ووسط هذا المشهد الذي يختلط فيه التفاؤل مع القلق واللون الأبيض والربيع الأخضر بلون الدم الأحمر النازف، بدأنا نرى كيف يزدهر ويتمدد هذا الربيع العربي ليتخطى حدود جمهورياتنا. ونفتخر ونحن نرى الربيع العربي يزهر في أكثر من مكان، فقد تمدد ربيعنا العربي ليصل إلى تخوم الصين وكوريا الشمالية وحتى أميركا التي تحاضر على الدول والشعوب بأهمية وضرورة التغيير والإصلاح والديمقراطية.

 


ثلاثة تطورات واضحة ومهمة تؤكد كيف قوي عود هذا الربيع العربي وأزهر خلال الأشهر العشرة الماضية. الأول هو نجاح العرب ولأول مرة منذ عقود في إحداث التغيير، ليخرقوا ويخالفوا الدراسات والنظريات والتوقعات التي كانت شبه مجمعة على أن العرب غير قادرين على إحداث التغيير من الداخل وبشكل سلمي. وأن الطريق الوحيد للتغيير هو بالقوة والتدخل الخارجي والأجنبي ولنا في العراق عبرة ودرس. أو عن طريق العنف والإرهاب الذي تتبناه “القاعدة” والمنظمات المتأثرة بإيديولوجيتها وأسلوبها في التغيير. فإذا بالتغيير كما أوضحت هنا في مقالي الأخير يأتي من الداخل، ويأتي بشكل سلمي، على الأقل من الطرف المنتفض والمطالب بالتغيير.


وهذا التغيير الذي بدأ بتونس وانتقل لمصر واليمن وليبيا وسوريا، أدهش العرب في السرعة والطريقة التي سقطت بها رؤوس، وترنحت رؤوس أخرى، لأكثر الأنظمة العربية مركزية وبوليسية وتشبثاً بالسلطة وبقاءً فيها. ومع ذلك أدهشنا العالم الذي لطالما حاضر علينا وشطبنا من سجلات التقدم والتغيير والديمقراطية، وشخص حالتنا بأننا نعاني من أعراض “الاستثناء العربي” في مجال الديمقراطية، ومن “عجز الحريات”. فإذا بهؤلاء يُدهشون!

 

والتطور الثاني المرتبط بنتائج الربيع العربي هو قوة الإلهام التي نجح الربيع العربي في استقطابها بتمدده كقوة مؤثرة وملهمة للشعوب في الشرق والغرب. والفضل في ذلك يعود لنفوذ وحضور الإعلام الذكي من فضائيات ووسائل تواصل اجتماعي من فيسبوك وتويتر ويوتيوب، وكذلك بفضل التغطية المكثفة والنقل الحي للأحداث من قبل الفضائيات الإخبارية من عربية وأجنبية. ورأينا كيف نعى الأميركيون والعالم كله العبقري ستيف جوبز المدير التنفيذي السابق لشركة “آبل” للإلكترونيات صاحبة الدور الريادي عن طريق أجهزتها الذكية من “آيفون” و”آيباد” وغيرهما، التي ساهمت بشكل كبير في نقل وانتشار الأحداث ومقاطع الفيديو والصور عن طريق تطبيقاتها المتخصصة لتصل إلى أعداد أكبر من المهتمين والمتابعين، حتى لمن ليس لديه تلفزيون وحاسوب محمول!

 

لقد تمددت قوة إلهام الحراك الثوري العربي لتصل إلى الصين وكوريا الشمالية وإيران. ووصلت إلى الشعب الأميركي المنتفض على اختطاف نظامه من قبل رجال المال والأعمال والمؤسسات المالية والمصرفية. وبدأت حركة خجولة “لنحتل وول ستريت” في حي المال والأعمال في مدينة نيويورك حيث أكبر سوق أسهم في العالم. ويقول قادة هذه الحركة التي قويت وتمددت في طول أميركا وعرضها إنهم قد استلهموا تحركهم من الربيع العربي وحركاته الاحتجاجية! ولأول مرة، بهذه الطريقة، نصدر للغرب ولأميركا ولا نستورد منهما الحراك الثوري والمطالبات بالحرية والديمقراطية.

 

وقد تمثل التطور الثالث لحصاد الحراك الثوري العربي في منح جائزة نوبل للسلام -بالمشاركة- للناشطة اليمنية توكل كرمان ليمنح ذلك شرعية دولية للحراك الثوري العربي، ويقر بحيوية هذا الحراك الشعبي المستمر منذ مطلع العام، ويعترف بدور كرمان خاصة في دعم الجهود السلمية “للثورة اليمنية” منذ فبراير الماضي. ولاشك أن فوز توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام يؤكد أن المجتمع الدولي قد انحاز بشكل واضح للشعوب، وضد الأنظمة التي تحارب وترفض التغيير. وقد ظهر ذلك بالتصويت في مجلس الأمن لإدانة النظام السوري وجرائمه وهو تصويت أحبطه “فيتو” مزدوج من روسيا والصين اللتين يحرق السوريون علميهما، ولولا ذلك لكان المجلس توافق على عقوبات مشددة على النظام السوري وقياداته.

 

وكذلك يؤكد فوز توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام عولمة الربيع العربي ومن شأنه أن يضخ الرياح ليس في شراع الثورة اليمنية فقط، بل سيضخ الزخم وقوة الدفع في عموم الحراك الثوري العربي في الدول التي تشهد انتفاضات شعبية. وهذا ما يُطلق عليه القوة الناعمة التي تُقنع وتتحول بسرعة إلى قوة إلهام.

 

والأرجح أن هذا الحراك الثوري العربي سيستمر لأن الشعوب ذاقت طعم الحرية ورأت كيف يسقط الطغاة وكيف تنتصر الشعوب ولن تتراجع. ومع هذا يبدو مشهد الحراك الثوري على مفترق طرق الآن. ولكن كما علق أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مؤخراً: “في أي طريق سنتجه سيقرر مستقبل هذه المنطقة وشعوبها وطموحنا وأحلامنا!” وهذا صحيح، ولكن نحن واثقون من حقيقتين، الأولى أننا في عصر تمكين الشعوب وكسر حاجز الخوف والانتفاض على القمع والحكم المطلق والرئيس الضرورة، والتوريث وقوانين الطوارئ، ولا رجعة عن ذلك. والثانية أننا أصبحنا قوة إلهام لأنفسنا وللآخرين سواء كانوا قريبين أم بعيدين. وهذه قوة ناعمة علينا كعرب البناء عليها لتغيير الصورة النمطية السلبية التي ترسخت في عقول الغربيين عنا. فبعد كل ما كانوا يستبطنونه من صور نمطية سلبية، إذا بالعرب المتهمين بـ”الإرهاب”، يفاجئون أنفسهم ويفاجئونهم وينجحون في التغيير ويفوزون بجائزة نوبل أيضاً!

 

المصدر: الاتحاد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى