عندما يعشق التهامي الوطن .. تضامن وطني و إنساني مع أبناء مناطق الشريط الحدودي
19 ديسمبر، 2015
563 33 دقائق
يمنات
خلال اسبوع فقط حصدت طائرات التحالف العربي بقيادة السعودية أرواح المئات من المدنيين الأبرياء في مناطق من حرض واخرى من مديريات مجاورة، حالة استعار مرضية متعطشة لسفك دماء اعزاء ابناء تهامة اليمنيين الطيبين، آخرها غارة نفذت قبل ساعتين تقريبا من انتصاف ليل بدء مؤتمر جنيف2 على قرية “بني الحداد” استشهد وجرح فيها عشرات الضحايا، عائلات تُباد بالكامل غالبيتهم من النساء والأطفال.
تسكن هذه العائلات بيوت من السعف و الحشائش وبعضها مبنية بالطوب ، كانت هذه الأسر تعتمد في معيشتها على حركة البيع والشراء في حرض المدينة التي ﻻ تنام ، والتي أصبحت الآن كالصريم “الأرض المحروقة” إذا جاز لنا التعبير.
من الصعب حقا تصور شكل مدينة حرض و ميدي التي سويت بيوتها وعماراتها بالأرض، و نزح من هاتين المدينتين ومناطق اخرى كمستباء وبكيل المير وعبس مئات الآلاف من اليمنيين كانوا من ابناء هذه المناطق أو ممن يعتاشون منها من مناطق يمنية أخرى.
مات و جرح الآلاف، في جرائم حرب لا يمكن تصور بشاعتها استخدمت فيها الأسلحة المحرمة دوليا حسب تقارير منظمات حقوقية منها هيومن رايتس ووتش.
و يشرح بعض الأهالي تعرض أبنائهم لأمراض جلدية و تنفسية مع تغير كبير لملامح الوجه نتيجة التعرض والتنفس المباشر للمواد والعناصر المكونة، اضافة الى الآثار النفسية، فيما بالمقابل لا تصل او ترفض المنظمات الدولية الطبية والإغاثية الدخول الى تلك المناطق – باستثناء الخدمات الطبية الإسعافية لمنظمة اطباء بلا حدود.
و يرفض من تبقى من اهالي هذه المناطق الواقعة على الشريط الحدودي المغادرة الى أماكن أخرى أكثر أمانا نتيجة تجارب وقصص معيشة صعبة للغاية مر بها اقربائهم ممن نزحوا آملين السلامة والعيش، والذين الآن يواجهون وحدهم متطلبات العيش والسكن. و يمكننا الإشارة الى مخيم جماعي كبير مختلط أقيم بالقرب من مدينة عبس.
و في حين تقدم المنظمات الدولية المساعدات الطبية والإغاثة المعيشية والمالية والمادية والإيوائية لنازحي المناطق المنكوبة جراء الحروب الداخلية والخارجية، يستثنى ابناء هذه المناطق التي يمكننا الإشارة الى خصوصية يبدو أنها تمثل لهم لعنة أبدية وهي: أنهم منذ عشرات السنين ظلوا مستبعدين من استيعابهم في وظائف الدولة ومحرومين من المشاريع الأساسية والخدمية، واستبعاد تعيين ذوي الكفاءات منهم في المستويات الوسطى والعليا في مناصب الدولة، وهو على كل حال استبعاد عام يعاني منه ابناء محافظة حجة، الا أن ابناء هذه المناطق التهامية يؤثرون عليهم أي فعل إنساني الآن. ويتركونهم يواجهون مصير قاسي جدا وغير إنساني، فبإلاضافة الى تعطل مصادر عيشهم من حركة الأسواق يواجهون الحياة بتجريدية تشكل مايشبه لوحة الصرخة لإدفارد مونك.
و تضيف ظروف الطقس والحالة الجوية الى معاناتهم معاناة، إذ تقطع حرارة الشمس انفاسهم في النهار وتصقعهم نوبة برد حادة في منتصف الليل.
في هذا سياق تراجيدي مؤلم روى لي شاهد عيان تلك القصة مفادها: قيام أحد اهالي هذه المناطق في شهور الحرب الأولى بمنح ابنته الصغيرة كزوجة لسائق سيارة نقل و التي لا يتعدى عمرها ثلاثة عشر سنة مقابل نقل عائلته وبعض الأثاث الى منطقة آمنة من قصف طيران السعودية وتحالفها العربي ..!
هذه قصة من قصص يتوقع آخرون من نشطاء هذه المناطق أنها يمكن أن تكون قد حدثت وأنها قد تكون أكثر مأساوية، ولن تنتهي القصة عند خذلان مؤسسات محلية ودولية تعمل في مجال تقديم الاغاثة والايواء فقط، بل وصلت الى أن من يدعون انهم يمثلون الشرعية اليمنية أنفسهم لم يكترثوا لهؤلاء التهاميين المتعبين، فالرئيس هادي الفار الى الرياض العاصمة أعلن بعض المدن اليمنية مناطق منكوبة، بينما فيما لم ينبس ببنت شفاة لما يتعرض له ابناء تهامة ومناطقهم من حرب ابادة ودمار هائل بأخطر الأسلحة المحرمة دوليا والتي لا يوازي دمارها اي دمار آخر!
و يبدو واضحا اقتصار إعلانه المنتكب على المناطق التي تدور فيها مواجهات بين مقاتليه وبين المسلحين الحوثيين، في الوقت الذي ﻻ يرى فيه قصف السعودية وحلفائها الجوي على هذه المناطق أي إحساس وطني يستحق التضامن، مما يثير لدى اليمنيين والعالم أجمع سؤال عن وظيفة الرئيس، وما اذا كان وجوده ومسؤولية تختصر فقط و بمزاجية على مناطق ومحافظات يمنية بذاتها بينما يذهب الباقي الى الجحيم ، هو أمر حادث على كل حال. لكن ما يجعلنا مصدومين حقا من هذا التضامن المَقيس بفجاجة فائقة هو: تناسخه ليشمل نائبه ورئيس وزرائه خالد بحاح والذي لم يقدم أي تعاطف انساني تجاه ما تتعرض له مناطق يمنية كثيرة، خصوصا المناطق الحدودية في تهامة، والتي يأكل أبناءها خذلان رئيس و إقصاء دولة لأهم عمق انتمائنا اليمني. بالضبط في الحد الفاصل بين دولتين بل وعلى سواحل البحر الأحمر أيضا والذي يعتبر واحد من اخطر المنافذ البحرية.
يستمد قوة تناسخ هذا الموقف المشوه والجهوي العنصري والمناطق و اللاوطني الخطير من اجماع لافت، من قبل نُخب سياسية وثقافية واعلامية وحقوقية يبرعون في لعبة تصنيف وفرز الضحايا، للجوع، وحتى للموت، وبالإمكان اجراء تتبع الكتروني لرصد أي تضامن لهؤﻻء النخب، تجاه ما يتعرض له اليمانيين في هذه المناطق، والتي بطبيعة الحرمان والإهمال التعليميين لا يوجد فيها نُخب ونشطاء يسندونها، ويقدمون موقفا ﻻفتا للعالم تجاه ما تعانيه من الويل.
إن الآثار النفسية والاجتماعية والوطنية التي لحقت بهم كارثية على النسيج والتوائم الاجتماعي. الشرخ يتوسع الآن وكل يوم وكلما سقط التهاميين بطيران الخيانة الشرعية دون أن يعني أمرهم أحد سيزيد الشرخ اتساع. و كل لقمة عيش وشربة ماء استعصت عليهم، وكل الجروح والآلام التي تغذي شيئا ما في اعماق الانتماء اليمني، سينضبط تلقائيا وبطريقته ليشكل عزف خاص وغير محمود النتائج على مستقبل الحياة وعلى مستقبل الهوية الوطنية.
جروح كهذه وقد تخلى عنها الجميع نخب السياسة والثقافة والحقوق، الى موقف الرئيس الذي يدعي شرعيته وحكومته بل والموقف المؤسسي الدولي الإنساني، كل هذا يحتاج حقا لردة فعل سلبية كونية كيما تشرح عري كوني خسيس بطعم مرارة لا نستطيع تخيل حد لها.
ويمكننا هنا من باب الإشارة الواضحة الى أن جماعة الحوثي وحزب المؤتمر ايضا المسيطران على محافظة حجة، ﻻ يبدون اي اهتمام حقيقي لما يتعرض له نازح هذه المناطق – وبصرف النظر عن النازحين الذين تمكنوا من الوصول الى مدينة حجة او الحديدة وهم ممن لديهم بعض إمكانات وتلقوا مساعدات إنسانية من بعض المؤسسات الدولية والأهلية – فإن دائرة تكتمل من اللامبالاة في ابهى صورها ظلما و قهرا وخذلانا و وحشية.
انهم يعانون استبعادا حقيقيا لعمق الإنتماء الوطني والإنساني، يقدم طيران السعودية وتحالفها دروسا قاسية لمواطني اليمن في اماكن من تهامة، ويتكفل الحوثي بتلقين تهامي الزرانيق درسا آخر، بسبب محاولة مشائخ ونافذي هذه المناطق تقديم صورة عميلة للأسياد في الرياض والنهاية هذه المطرقة السعودية والسندان الحوثي المطبقين على أبن تهامة، النازح التهامي و اولئك الذين يحتفظون ببطاقة انتماء عميقة للأرض ممن فضلوا مواجهة الموت بأخطر الاسلحة الفسفورية داخل عششهم وبيوتهم، وفق ثقافة لن نستطيع فك طلاسم عجائبيتها لألف سنة قادمة و ستتوه الميثلوجيا وعلمائها في فهم فيمونولوجية هذه الظاهرة النفسائية، التي لن تتكرر ابدا في أي مناطق حرب من ارض هذا العالم، ولم نعرف انها تشابهت مع قصص وروايات التاريخ، انه موت وجوع من نوع نبيل على طريقة تهامي يماني يشرح بجلاء فوارق لا اعتقد انه من غير ان تمتلك جذور ضاربة في التاريخ.
ان هؤﻻء الأباة التهاميين الذين لا ارض لهم سوى العراء و لا سقف لهم سوى السماء ، تغطيهم ثيابهم من البرد وتكيفهم في النهار الحار جدا مخيلة صبر بالغة الجرأة ، لا يصرخون كثيرا في الفيسبوك ووسائط الإعلام لانهم يحتفظون بأصواتهم ويريحون حناجرهم لوقت ما، أشهد انه سياتي ليتلقلق ويتبلبل بأغنية واحتجاج شديدي اللهجة واضح القصد والمقصود آسر الرؤية وبالغ الهدف ، لغة من نوع اكتسبت نضج تجربة المصائب والمحن اطعموها فلاذة الصبر، وسيقدموا لها حواضن مناسبة يملؤنها فقط بسريالية قصص ومشاهد لا أحد عاشها مثلهم، لذا فهم القادرين على مواجسة السرد الخاص بسيرة الألم وجرح الاغتراب الذي عاشوه في ظروف هي الاسوء على الإطلاق، في تاريخ الوعي البشري وتطور انساويته ، العالم تخلى عن اليمن.. واليمنيين تخلوا عن أبناء هذه المناطق العظيمة من تهامة.
كانت لقافلة معونات إغاثية ان تحقق يمننه معقولة تجس نبض القلوب الكسيرة والوحيدة، القلوب التي تخفق في العراء وازدحام مخيمات جماعية يستظلون تحتها بألآلم جماعية اشكلت وتشاكلت كحضرة جَلد صوفية، كيف لآلام شاهقة الاجتماع في مخيم كبير دون أن يرق لنا عليهم قلب او يطبق حزن في جفن او ترجف شفه بكلمة ندم ؟ هؤﻻء التهاميين يشبهون المسيح لحظة أن خذله الصديق والغريب ، هم لا يسكنون ذلك المخيم الطويل بل يصلبون آثامنا ويشرحون لصغارهم كيفية الخلاص، يتماسكون بقلب و روح واحدة ليمنحوا الطلق عواصف إقلاع و ابتلاع لن تتوقف الا بثمن ، كان عليهم فعل ذلك.. لكنهم تهاميون وخلاصهم في تسامحهم وسمو الآمهم كعيسى المسيح ، إنما لهذا التسامح ثمن باهض الآن وموازين هؤﻻء التهاميون جاهزة.
هذه الكتابة التي اشرع الآن في نثرها شهادة للتاريخ، في حق حرموا منه وانسانية لم يراعيها فيهم أحد، وعذاب لم يُنتشل منهم حين كنتم تضحكون بل و العالم كله يكركر ، براءة قررت اخلاء مسئوليتي من تبعات السكوت وعدم الإفصاح عنها، في حين الآخرين يتكلمون عن بطولات وهمية تمتلك مساندة واباطيل حقوقية وسياسية واعلامية ، هؤﻻء عاشوا قصة دمار وموت و نزوح وجوع وتشرد بالغة الألم والقسوة ، بالغة النسيان والتنكر ، بالغة الإقصاء و الاستبعاد ، تطهير وتصفية من نوع خاص ربما هدفها قد يكون استيطاني، تهجيري ، اقتلاع من شريط حدودي كانوا رغم التماس الباذخ بمميزات توطينية سعودية قادرين على قلب المعادلة، الا أنهم جسدوا أبلغ واعظم صور اليماني الأصيل العزيز ضارب الأعماق وجذور الإنتماء.
اتسائل بحق : هل هؤﻻء التهاميين المرهفين نسخة الخذلان الإنساني التي عاشها الهنود الحمر؟ أين أنت اذا يا سياتل تهامة لتقدم نسخة الألم التهامي؟ وتهز العالم بخطبة تشيع فيها ضمير التضامن الوطني والإنساني؟ أين حرقة السلام في نبرتك المضرجة الوجع وبالأرض الوجعى؟ أشرح لهم شساعة الشعور بالنفي وكيف بدأت رحلة النسيان والعطش، من أخوة الداخل الى إنسان اصقاع الأرض؟ أشرح لهم فقط كيف ان أمك لم تستطع ممارسة يومياتها المعهودة مع الارض والبقرة والأغنام والأشجار، كيف انها لم تستطع النوم لأنها بلا باب، وأنها لا تحب البطالة، وأن لديها قطط عطشى تنتظرها في الحدود ، قلهم ما معنى ان لا تلقي نظرة على مدد التماس الوطني قبل النوم وعند الاستيقاظ ، لكن ارجوك لا تفشي لهم سر التماسك بينكم وبين الوطن وعدم سقوطه طيلة آلاف السنين، ﻻ تقول لهم كيف تعبر الهوية لتبقى حكيمة وشجاعة، لأنك لو فعلت و فرطت في شفرة سر الحدود فسيعبثون بالقلق والتوتر الذي تبادلون به سجال الذات والآخر، سيدغمونها معا لخلق نموذج مشوه ثم يعقدون الصفقة ، تعرف انه لا صفقات ايها اليماني التهامي يمكن إجراءها على الحدود ، تعرف تماما انه ليس هنا بالتحديد يمكن اغفار الزلات وانه لا قبول لأي مبررات.
هم لا يفهمون كيف ابقيتموا لنا حدا ارضيا اسمه اليمن، وﻻ يعرفون انكم من تمنحونا اسمنا اليمني الخاص بنا ، ﻻ يعرفون انكم لستم مجرد سكان يمنيين تنامون وتعيشون في التماس الحدودي وحسب ، وانه لولا ارواحكم ما تماسكت شبرا وﻻ صدت دخيلا وﻻ غردت طيورنا نغما يمانيا ، لا يفهمون حقا المسافة التي يشكلها اللحن الداخلي للانتماء عندما يكون بين انتمائين، في حين يقدم الطرف الاخر باستمرار غمزة الاستقطابات ويلوح بثراء طعم الظم والانضمام.
قلهم يا اخي كيف انكم لم تخونون للحظة، حين خاننا غفير القوافل بفتات الإغراءات، حين كنتم بفقركم وجوعكم اغنى الاوفياء ونعم الصادقين ، قولوا لهم انكم تشترون زيت الطعام بعشرات الريالات اليمنية في حين باعونا وهم ياكلون متنقلين بين القارات يرعون تجاراتهم ، قولوا لهم ان لكم ثياب واحدة وانكم ﻻ تحبون ربطات العنق الانيقة لكنكم تربطون البلد كلها بعضها ببعض.
اعطوهم فقط نكته من تلك التي اسمعتموني عن من باع ظفائر أمه وانه غدى اصلع بلا كرامة ، أولوا لهم تلك الخرقة وانكم تحديدا ذلك البياض في البيرق اليمني ، وأن الأحمر دمائكم المنزوفة ، وان الاسود هو كل هذه الفواجع التي الحقوها بكم دون ان يلقي تجاهكم احد بال ، قول لهم كل الذي لا استطيع فهمه و قوله ، ثم كما تعلم لا تسقط دمعة الوجع اليماني التهامي ، دعها تجف وستأتي غيمة مناسبة تملئ المآقي دموع الفرح والانتصار.
فقط اطلب منك ومنكم ايها التهاميين أن تغفروا لي ما خيبتكم فيه وما تقصر من ألم في مستبطن أحشائكم، وحدكم من تعلمون الغوص في تلافيفها، وفي الشفق الذي يباري لمعة اعتلاء مجد البلد.
انتم فقط وحدكم قادرون وضع الخظاب في خناصر الحواضر وانتم وحدكم تعرفون كيف ومن يكسر شرف وعفة الأرض ، كنتم قواد ضد كل غازي وكان اولئك قوادين للغزاة ينتهكون بهم اعز الحواضر.
لله دركم كل هذا الوفاء وﻻ حتى لحظة خيانة واحدة ! ما اعجبكم واعظمكم كنتم تجسيدا عريقا واصيلا في حين ادخلوا الغزاة برضى يتفتت منها القلب ، هل فهمتم فيما السكوت والرضى المستبيح لدمائكم ودماء اطفالكم ونسائكم وامهاتكم باسلات العفة وشامخات الأنفة ، لهذا يا اعزائي يتكالب عليكم الجميع ويوقدون الضوء لخيانة جهاتكم فائقة الإنتماء، اقلهم موقفا اولئك ممن تحسبونهم في ذات الطرف منكم وﻻ يزيدونكم باللامبالة سوى طعنة غير متوقعة حينما كنتم تقفون على رؤس اصابع اقدامكم من وجس العدو فأتت من ألف خلف.