مصيدة التجنيد.. وملشنة المجتمع..!
يمنات
كنت أظن، وبعض الظن إثم وبعضه أملٌ خادع، أن الفرقاء المتصارعين في اليمن سيعجزون عن تجنيد المزيد من المقاتلين بعد مرور 6 شهور على الأكثر.
عدد الضحايا الكبير مقارنة بحروب اليمن السابقة كان يدفعني لتصديق هذا السيناريو. لكني اكتشفت أن الحروب الأهلية تخلق ما يمكن أن نسميه “مصيدة التجنيد”.
تحتاج الحروب الأهلية لجنود دائمين ورخيصين وبلا حقوق أو التزامات. الجيوش الرسمية في هذه الحال لا تكون المؤسسات الأمثل لإدارة الحروب الأهلية والانتصار فيها. نتيجة لذلك تصعد الميليشيات والجماعات المسلحة لتدير الحروب الأهلية الطويلة.
يؤدي الظلم واختلال توزيع الثروة والامتيازات الطائفية أو المناطقية إلى ندرة الفرص الاقتصادية وتعميق الفقر والبطالة، وهذا يؤدي بدوره إلى توافر مقاتلين رخيصين وجاهزين للقتال مقابل بندقية ووجبة.
قاد موسوليني مسيرة الاستيلاء على السلطة بثلاثين ألف مقاتل من فقراء ايطاليا الغاضبين. وتمكن عبد الملك الحوثي من حشد ما يقارب عشرين ألف مقاتل من مقاتلي الريف وفقرائه الغاضبين لحصار صنعاء وإسقاطها. لكن الاستيلاء على السلطة ليس إلا بداية المصيدة. فما يلبث الفقراء المقاتلون أن يكتشوفوا أن إسقاط السلطة ليس إلا الحلقة الأولى في سلسلة حروب ومعارك طويلة. وأنهم بدلاً من العودة لقراهم سيتحولون إلى مقاتلين لسنين طويلة.
ما أن تندلع الحرب حتى تصبح الفرص الاقتصادية أكثر ندرة، مما يعني المزيد والمزيد من المقاتلين الجاهزين.
فإذا استمرت الحرب أطول وحصدت الآلاف، أو عشرات الآلاف، ودمرت المنشآت وتدهور الاقتصاد أكثر، فإن هذا لا يؤدي إلى استنزاف المقاتلين وتوقف الحرب بل ظهور المزيد من فرص التجنيد مع كل فرصة اقتصادية تضيع.
كل منشأة تقصف تعني المزيد من العمال العاطلين القابلين للتحول إلى مقاتلين رخيصين، وكل وظيفة تُفقد تعني مصدراً جديداً لمقاتلين جدد بنظام “السخرة”: كل واشرب وقاتل.
هي مصيدة إذن، كلما تحركت للخلاص منها أطبقت على أقدامك أكثر، وكلما حشدت قواك للحسم العسكري وتقصير أمد المعركة كلما أدى الشد والضغط إلى جولة جديدة، ودمار جديد للمزارع والمدارس والمنشآت، ومقاتلين جدد.
ليس غياب الفرص الاقتصادية وحده من يزود الحروب الأهلية بوقودها من الرجال. البعض يقاتل بدافع الخوف، أو تحت أثر التضليل. شعارات مثل “مواجهة العدوان”، و “الدفاع عن السنة”، و “استعادة الشرعية”، و”ملاحقة الدواعش”، تفعل فعل المغناطيس في تحويل المواطن إلى مقاتل ميليشاوي.
البعض يقاتل لأن أصدقاءه ومعارفه صاروا في الميدان، أو ثأراً لأقاربه الذين قتلوا، أو خوفاً من العار الاجتماعي: “كيف يموت أصدقاؤك وأنت لا تزال حياً، لم تمت بعد!”.
البعض يحارب من أجل “الغنيمة”. وليس هناك أفضل من الحرب لصائدي الفرص والانتهازيين الذين يجدون لحظتهم الملائمة للتحول إلى أمراء حرب. يعرف هؤلاء جيداً أن آلاف العاطلين والمحبطين والفاشلين هم الأسهل للتجنيد ليكونوا ذراعهم الحديدية التي تبتز وتنهب وتروع.
لا تتعافى الشعوب بسرعة من الحروب الأهلية مثلما تتعافى من الغزو الخارجي، فالحروب الأهلية تغير بنية المجتمع وتجرفها وتوقعها في المصيدة إثر المصيدة.
المصيدة الثانية التي تقع فيها مجتمعات الحروب الأهلية هي مصيدة “حرب تلد أخرى”. البلد الذي يقع في مصيدة الحرب الأهلية يصبح أكثر عرضة لتكرار الحروب الأهلية وتجددها في برهة قصيرة من الزمن.
حسب التحليل الذي وضعه البروفيسور بول كولير فإن الدولة التي تشهد حرباً أهلية واحدة تكون أكثر قابلية لشهود حرب أهلية جديدة كل خمس سنوات.
قبل فترة، تحدثت وسائل الإعلام عن جهات تقوم بتجنيد الشباب في عدن والمحافظات الجنوبية من أجل محاربة الحوثيين وقوات صالح على الحدود السعودية. لم تذكر الأخبار هوية القائمين على التجنيد، لكن الخبر كان لحظة كاشفة حول تغلغل “مصيدة التجنيد” في واقع الحرب.
من الناحية الأخرى يتنقل القادة العسكريون للحركة الحوثية من قبيلة إلى أخرى لحشد المقاتلين من أجل مواجهة ما يسمونه “العدوان”. ورغم أن الحوثيين استولوا على الدولة إلا أنهم لا يفضلون العمل من خلال مؤسساتها.
تجاهلوا الجهاز الإداري والأمني الرسمي وانشؤوا أجهزتهم البديلة.
تجاهلوا الجيش ولا يزالون يقاتلون من خلال القبائل والجماعات المسلحة والميليشيات المؤقتة.
لست أبالغ إذا قلت إن حالة التجنيد في اليمن وصلت إلى وضع شبيه بالاتجار بالبشر!. تجنيد سهل بلا كشوف ولا مرتبات ولا حقوق، يقذف بآلاف الأطفال الشباب إلى الجبهات بلا تدريب كافٍ، ولا زاد ولا إدراك لمصيرهم.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا