أن تكون إنسانا في زمن الحرب
يمنات
لطف الصراري
أن تكون إنساناً، ذلك ليس مستحيلاً. كل ما يتطلبه الأمر، ضمير يقظ طوال الوقت، ونفس كريمة. هناك متطلبات أخرى بالطبع من قبيل المعرفة والحكمة. ذلك أن الإنسانية بطبيعتها منظومة متكاملة، حتى وإن تم اختصارها عادة في مفردات من سبيل «الضمير»، «الأخلاق» و«القيَم»، وليس على المرء أن يكون «أفلاطونياً» لكي يكون إنساناً. بعض الحكمة يكفي، الأساسي منها بالأحرى، الأساسي من الأخلاق، من القيم، ما يكفي من أساسيات هذه المنظومة التي تتعرّض الآن لأسوأ دورة انهيار في تاريخ البشر. يحدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه شعوب العالم اعتقدت أن الإنسان قد صار أكثر قدرة على الحيلولة دون اندلاع أي حرب.
تزدهر الإنسانية في أوقات السلم، حيث لدى كل شخص مساحة حرة لإثبات انتمائه لمنظومة الإنسانية؛ مساعدة الفقراء، الرفق بالحيوان، مساندة ضحايا الانتهاكات والمظالم… كل أشكال السلوك الإنساني النابع من الضمير، متاح في أوقات السلم، لكن كل هذا يبدأ بالانهيار بمجرّد اندلاع الحرب، ثم يستمر الانهيار كلما طالت أزمنتها. إنه أصعب اختبار لصمود وأصالة القيم الإنسانية، ابتداءً بالكيانات ووصولاً إلى الأفراد.
في أزمنة الحرب تقاس الإنسانية بمدى الضرر الذي يقع على المدنيين؛ أولئك الذين يفضلون حياة السلم، ليس لأنهم جبناء، بل بسبب الثقل الهائل الذي تلقيه الحرب على ضميرهم الإنساني. قادة الحرب لا يعرفون هذا الشعور. ربما يعرفه بعض المندفعين إليها كخيار أخير، لكنهم إذا لم تقتلهم المعارك، قتلهم ذلك الثقل الهائل لتأنيب الضمير الذي يلاحق قدامى المحاربين.
في رائعته ذائعة الصيت والأثر «مئة عام من العزلة»، يورد جابريل غارسيا، مشهداً يحتد الحوار فيه بين أول حاكم عيّنته الدولة لقرية «ماكوندو»، ومؤسس القرية خوسيه أركاديو بوينديا. يصرّ الحاكم على فرض طلاء أبيض للمنازل على السكان، ويصرّ المؤسس على حماية التنوّع اللوني للأهالي حسب تفضيلاتهم. وعندما يهدّد الحاكم باستعمال القوة، يمسكه خوسيه من صدره ويرفعه بأقصى ارتفاع تصله ذراعيه، ثم يرطم ظهره على جدار بيته ويقول له: «إنني أفضّل أن أحملك الآن حيّاً بكل ما لذراعي من قوة على أن أحملك ميتاً لما تبقى من عمرى». كانت تلك واحدة من أقوى صيَغ التهديد ذات الطابع الإنساني لمحاولة دفع الضرر بأقل الخسائر، وكان هو مثقلاً بتأنيب ضمير دائم على خلفية ارتكابه جريمة قتل في شبابه بعد أن استنفد كل وسائل دفع الضرر عن نفسه.
لا تتشابه حياة السرد الأدبي مع الحياة الحقيقية للبشر. رغم ذلك، يمكن العثور في الأولى على الكثير من الحكمة المختبئة لتحسين أنماط السلوك الإنساني في الثانية. نوع من التأثير الذي يطمح الكتاب المناهضون للحرب في إحداثه لإطالة فترات السلم بين البشر وزيادة منسوب التعايش والحوار فيما بينهم. لكن بيل كلينتون، الرئيس الأمريكي الوحيد الذي عبّر للعالم عن إعجابه بماركيز، وسمح له بدخول أمريكا بعد سنوات طويلة من المنع الرسمي، استمر في توقيع الأوامر لقصف العراقيين والأفغان والصوماليين… إلى آخر القائمة. والقنّاص الأمريكي الذي احتفت به «هوليوود» بإنتاج فيلم سينمائي عن خدمته العسكرية في العراق، لم يشعر بالذنب لقتله أكثر من 160 عراقياً، بل تمنى أن يُسمح له بالعودة لقتل المزيد. لم يكن العالم حينها يعاني من هذا المستوى من تلاشي السلم، لكن الضمير العالمي الذي سكت عن قتل العراقيين منذ تسعينيات القرن العشرين، لا يبدو أنه سيشفى من احتباسة النطق ليتكلم عن قتل اليمنيين والسوريين، وعن تضييق رقعة حياة السلم في الكثير من بلدان العالم. ما يؤسَف له أكثر من كل شيء، هو حين يبدو الأمر مضحكاً عند التعريج على السياسة الأمريكية الخارجية في سياق الحديث عن تأنيب الضمير وعن المآسي الإنسانية لشعوب تموت مغلوبة على أمرها بسبب غرور القوة الذي يتفشى كوباء، مصيباً كل دول العالم تقريباً، ومؤثراً على غالبية أنماط السلوك الإنساني في هذه الحقبة من زمن الانهيار الكبير للقيم.
المصدر: العربي
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا