العرض في الرئيسةفضاء حر

ساسة وأحذية

يمنات

أحمد سيف حاشد

حالما كنتُ صغيراً، لطالما استهلكتُ حذائي حتى آخر رمق فيه.. أستنزفه حتّى النهاية.. لا أرميه حتى تنقطع أنفاسه، ثم اضعه في كوة أو زاوية من البيت، بما يشبه الذكرى، وربما أحتفظ فيه لضيق وعوز أشد، أبحث فيه عمّا يمكن استخدامه كقطع غيار لحذاء مهترئ آخر مازال مُصّراً على أن يعيش.

كنتُ إذا انقطع حزام فردة حذائي أعيد تثبيته بمسمار أو أكثر؛ كان يتم استخدامها لهذا الغرض على أيامنا تلك.. كانت أحذيتنا الهالكة أشرف وأغلى من وجوه بعض ساستنا الذين يستفزوننا هذه الأيام، ويستثيرون فينا مخزون القرف.

وعلى ذكر بعض الساسة وأنا أكتب عن حذائي المهترئ أستحضر قصيدة الشاعر اليمني فتح مسعود، “سنبيعُكم لكنْ لمَن؟!” وأجتزئ من أبياتها:

سنبيعُكم لكنْ لمَن ؟! مَن يشتري منا العفَن ؟!
مَن يشتري منّا البواسيرَ الخبيثةَ والدرَن ؟!
لستم نعالاً تُلبَسون ، ولا عبيداً تُؤتمَـن …
باللهِ لو أكرمتمونا فارحلـوا عنّـا إذن ،،
موتوا أو انقرضوا إذا كنتم تُحبّون اليمـن ،
وإذا انتحرتم سوف نشكركم على حُبّ الوطن.

***

بين ترك حذائي المنتهي وشراء آخر، كانت تمر أيام وأسابيع، وأنا أضرب بأقدامي الأرض دون حذاء.. مشيتُ بقدمين عاريتين حتّى شبع الشوك منهما.. قدماي عرفتا الشوك مليّاً.. عانيت من آلامها التي كانت في بعض الأحيان تدوم لفترات قد تطول.

كان ما يسمّى “الهوك” ويطلق عليه “المَشبك” وهو دبوس رفيع، يساعدني على إخراج الشوك من قاع القدم، وأحياناً كانت خالتي هي من تساعدني وتتولى إخراجهن.. خالتي التي لا تلبس الأحذية بسبب عيب خلقي في قدميها.. كانت تجيد إخراج الشوك بألم أقل.. كنتُ أيضاً أرتقُ بـالمشبك قميصي المفقود أزراره.. كنّا نكبر ونتمنّى أن تكبر معنا ملابسنا وأحذيتنا ما كبر عمرنا.. عندما تنسلخ فردة حذائي أو ينقطع حزامها استخدم مسماراً أو أكثر؛ لأطيل عمر خدمتها.

على أيامنا لم تكن لأحلامنا أحذية.. كانت أحذيتنا تهلك ونحن نحاول إطالة عمرها، وكان حذاء الشَّيطان هو الذي لا يبلى ولا يهترئ كما جاء في المثل.. يوم شراء الحذاء كان بالنسبة لي يوماً بهيجاً، ويوم هلاكه يوم تعاسة وفقدان.. أقدامنا كانت أحياناً لا تقوى على لبس الحذاء بسبب الجراح التي تعيشها.

لم تكن الأحذية في أيامنا نغيّرها إلا لهلاك أو ضرورة، وليست كشعارات وولاءات هذه الأيام.. شكراً لذلك القائل: “سأقذفُ جواربي إلى السماءِ تضامناً مع مَنْ لا يملكون الأحذيةَ وأمشي حافياً..” وأصاب من قال: “نحن نعيش أَوْج عصر التفاهة، اللباس فيه أهم من الجسد..” ولم يجانب الصواب ذلك الذي قال: “صاحب هذا الحذاء اشرف من جميع لصوص السلطة”.. أمّا أنا فلا أحب مَن يروني دونهم لمجرد حذائي المنهك ومعاناتي الثقيلة.. أنا أعشق الشرف والاعتزاز بالنفس عندما تلازمهم البساطة، وإن كانت بحذاء مهتري أو حتّى دون حذاء إن لزم الأمر.

ربما أبحث عن أناقة الكتابة أكثر من أناقة الجسد دون أن أبخسه.. الأناقة جيدة عندما تقدم جمال الروح والجسد.. لا أبحث عن الأناقة الزائفة والخادعة.. أمقت الأقنعة الكاذبة.. أعشق الامتلاء وأمقت الخواء، وأستريح لقول الشاعر:
ليس الجمالُ بمئزرٍ .. فاعلم وإن رُدِّيتَ بُردا
إِنّ الجمالَ معادنٌ.. وَمَنَاقبٌ أَورَثنَ مَجدا

اليوم بالمال كما قال أحدهم: “يمكنك شراء أي شيء : “البرلمانيين ، السياسيين ، القضاة ، النجاح والحياة المثيرة..” ربما أتحفظ على التعميم هنا، ولكن في المقولة نصف الحقيقة أو أكثر من نصفها، وفي المقابل هناك من لا يملك غير حذاء مهتري أو حتّى لا يملك قيمة حذاء، ولكن لن تستطيع أن تشتريه “محمول ومشمول” بأموال وكنوز الأرض كلّها.

***

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى