العرض في الرئيسةفضاء حر

طرب في عزاء..!!

يمنات

أحمد سيف حاشد

في مستهل عهدي بعضوية مجلس النواب عام 2003، اشتريتُ هاتفاً سياراً، وكنتُ ما زلتُ حديث عهد به.. تعاملتُ معه ببدائية لفترة غير قصيرة قبل الاستغناء عنه.. استخدمته للاتصال واستقبال المكالمات، وارسال واستقبال الرسائل.

لم أعد أذكر اسم ونوع ذلك الهاتف، ولكنّه كان متيناً ويقوم سليماً ومعافى بعد كل وقوع أو سقوط، وأكثر ما يميزه عن غيره صوته المجلجل تنبيهاً بوجود اتصال.. لم يكن مبرمجاً على رنة معتادة، بل كان قد تم ضبطه على مطلع أغنية لم اختارها أنا، بل اختارها من قام بضبط التلفون على الأغنية.

تقنية بصوت مدوّ حينما يأتي بغتة يشبه في وهلته الأولى صوت قذيفة مدفعية، حتى وإن كان ما هو صادر منه صوت أغنية عذبة وشجية.. صوت في ازعاجه يشبه ميكرفونات الجوامع القريبة التي تفرقع هزيع الليل بتسبيح ودعاء ضاج، يداهمنا بعد الساعة الثالثة والنصف في غلس الليل ونحن نغط في نوم عميق.. يستنفرنا بشدة للصلاة قبل موعدها بساعة أو ساعتين، وعليك أن لا تشكو هكذا حال.. يلزمك الحذر من أي اعتراض، بل يجب أن تلوذ بالصبر ولا تستعدي أو تخوض معركة مع وكلاء الله في أرضه.

أحسستُ أن صوت هاتفي مزعج وكافٍ أن يزعج مدينة إن أطلقتُ فضاءه.. مشبع بمطلع أغنية لا تشد الانتباه فقط، بل تكزك وتنكزك لأول وهلة من مكانك إلى الأعلى.. فزة تحتاج لبرهة زمن لتستوعب ما حدث، وتستعيد توازنك، وتعلم أنها أغنية تشغف القلب وتأسر الوجدان.. يومها كان “ميكرفون الصوت” مفتوحاً إلى آخره.. كان الصوت العالي للهاتف صارخاً، بل كان أصرخ من صرخة “الموت لأمريكا”.

***

أخبروني أن هناك عزاء في بيت الوزير عبده علي قباطي، وهو واحد ممن كانوا قد ساندوا حملتي الانتخابية.. قصدتُ العزاء وكان في بيت الوزير، وكان البيت مزدحماً ومكتظاً بالمعزّين.. وصلتُ إلى صدر المجلس بمشقّة بسبب الزحام.. افسحوا لي مكاناً فيه.. جلستُ وبدأتُ بتعاطي أعشاب القات.

وحالما شرعوا في قراءة الفاتحة لروح الميت.. جاء اتصال لهاتفي، وصدع صوته في أرجاء المجلس بأغنية “انا يابوي انا.. خطر غصن القنا.. وارد على الماء نزل وادي بنا” سادني ارباك متتابع، أولا في الوصول إلى الهاتف باحثاً عنه، ثم في اغلاقه بلحظة اضطراب، استغرقتَ قرابة العشرين ثانية أو خلتها كذلك.

كان شكلي لافتاً في تلك اللحظة التي بدت وكأنها اصطدام شاحنتين كبيرتين.. عزاء وأغنية.. ميتم وطرب.. تعارض جم.. أبحث عن الهاتف لأجده أولاً، ثم بدوتُ منحنياً وقد جثوت، معقوفاً عليه كجنبية شيخ قبلي.. كنتُ أشبه بمن يعاني من نوبة صرع وأنا أهسهس على كل الأرقام والمفاتيح بعشوائية مضطرب ومدهوش.. شعرتُ أن كل العيون ترمقني ساخطة ومستنكرة، فيما بعضهم ربما داهمه كثير من الغرابة والعجب.

كان شكلي وأنا أحاول أن اخرس هاتفي الذي خانني في لحظة شديدة الحساسية كمن يقاوم لحظة صرع تكاد أن تطيح به.. وددتُ في تلك اللحظة أن أكسر الهاتف على الجدار أو أسحقه بأي وجه، ولكن شعرتُ أن المشهد سيكون أسوأ مما أنا فيه.

أخرسته بعد أن تسبب لي في خجل بلغ مبلغه.. أحسستُ بحرج شديد ومُطبق.. بدت اللحظة أشبه بشخص ذي وقار أرتكب فعلاً فاضحاً أمام جمهور مزدحم.

الجميع تطلّع نحوي بدهشة صادمة، والفاتحة شابها ما يفسدها طولاً وعرضاً.. أحسست أن روح الميت فوق رأسي ساخطة، وأن ما ارتكبته فعلاً لا يبرأ ولا يطيب.

شاهدتُ الحاضرين زمراً يتهامسون ويبتسمون، وكنتُ أعلم أن “حشوشاً” يحتشد ضدي في كل زمرة من زمر الحاضرين.. أحسستُ أن ما فعلته لا يُنسى ولا يفوت.. شعرتُ في المجلس أنني صرتُ أسير لعنة تلك اللحظة القاسمة.. استمريتُ في المقيل على صفيح ساخن.. ربع ساعة مرّت دقائقها كعجلات شاحنة على جسدي.. ثم غادرتُ المكان بعد أن فل صبري.

استأذنت.. خرجتُ من العزاء وثمة شعور انتابني أنني قد صرتُ من يستحق العزاء أكثر من الميت.. حاولتُ أخفف عن نفسي بعزاء آخر وأنا أقول: مررت في الكثير، وها أنا قد ألفت النسيان، ولو لم أنسِ لَمَا قابلتُ مخلوقاً، أو حضرت مقيل أو عزاء.

 وبعد المغادرة اكتشفت أيضاً أنني نسيت قاتي في مجلس العزاء.. واكتشفتُ أيضاً أو ما عرفته لاحقاً بحسب المصادر إن تلك الأغنية وزناً وقافية قد جاءت بمهمة محو ما أستقر في أذهان الناس في قصيدة وأغنية تشهيرية “الدودحية” لتحل محلها وتحولها إلى غزلية فاتنة.

***

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى