العرض في الرئيسةفضاء حر

أقلعنا عن القات ولم نقلع عن السياسة

يمنات

أحمد سيف حاشد

في مرحلة أولى من تعاطي القات كان مذاق القات لديّ مُرّاً، وبعض منه مرارته مقذعة، وفي أفضل حال لا يروقني أو لا أستحسنه إلا بعد أن أقضي أكثر من مدة نصف المقيل مغالبة مع مذاق أتجشمه، ولا أتكيّف معه إلا بعد حين من بداية قيلتي.

ربما ما أتجشمه هو لخاطر اجتماعي أكثر منه كيفاً وروقاً ومتعة.. ربما أبدي أمام نفسي أنني أخزِّن لخاطر من يكون معي في مجلسه، استمد سعادتي من حضور الأحبة الذين أود اللقاء بهم، او الأشخاص الذين أسعى للتعرف عليهم أو آنَسُ للمقيل معهم.

كنتُ أحاول في مستهل عهدي بالقات أن أخفف من طعمه اللاذع والمقذع بالشاي، والقهوة “المزغول”.. ثم انتقلت إلى النعنع الأبيض و”سكر نبات”، ثم إلى “الشارك” و ‘الردبول” و “الببسي” وغير ذلك من المشروبات الغازية، ثم تساءلت في إحدى مناسبات المقيل: لماذا لا أجرّب الحليب، فهو مفيد، وأكثر صحة وفائدة، فيما غيره معلول وفيه ضرر، ولعل طعم الحليب مع القات أفضل، وفيه سلطنة وكيف؟!

تساءلت: لماذا لا يكون الحليب أحد هذه الخيارات المتاحة؟! لماذا لا ندع الحليب يقول في القات كلمته؟!! الحليب بالتأكيد أطيب وأفيد من كل ما سبق.. لو جرّبوه ربّما بعضهم يتشيعون له، ويسعون لتعميمه، واستلذاذ حضرته.. “طز” في صديقي “المطري” الذي يحملني على ما يريد، أو يريدنا عنوة أن ننهل من منهله، ويستبد علينا بمقيله وقيلته..!!

وأمضي في الحديث مع نفسي: لا بأس فيما عزمت عليه.. لن أعير بالاً لمن يحاول أن يفرض علينا في القات وصايته ورغبته وكيفه.. لن يؤدّي هذا إلى عقوبة مروقي على القوم أو خروجي عن الجماعة.. الأمر أبسط من هذا بكثير، ثم أن الخروج والتمرد مهم لكسر رتابة تدوم، وملل لا يغادر، فطالما بإمكاني أن استسيغ شرب الحليب مع القات؛ فلماذا لا أجربه؟! لماذا أمنع نفسي منه؟!!

وفي هذا التجريب وجدتُ أن هناك انسجاماً بين القات والحليب.. شعرتُ بالفخامة والرضى وأنا اتعاطى القات مع الحليب وأتذوقه.. أحلّق معهما في مدارات وفضاءات واسعه.. الحليب يعطي القات نكهة مميزة، وبقدر ما يجعل القات متماسكاً في فمي، فأنه يفكك مرارته المقذعة، ويمنحني طعما مستساغا ونكهة مرغوبة، بالإضافة أنه يمتص قدر من سموم القات، ويبطن المعدة بما يقيها، أو يخفف من نسبة تلك السموم وضررها على الصحة، فضلاً أن الحليب غني بالكالسيوم، ويحمي أسناننا من التسوس.

***

عزمني زميلي المرح عضو مجلس النواب علي المعمري إلى مقيله الذي أحضره للمرة الأولى، وكانت هي العزومة اليتيمة، الأولى والأخيرة.. كان مجلسه يومها ممتلئاً ولا يخلو من زحام.. على الأرجح كان هذا في العام 2004.

شعرتُ أنه لا يكفيني في هذا المقيل قرطاسان من الحليب، ولكن كان عليّ أن لا أهدر وقاراً كرَّسه عُرفٌ من عهد بعيد، ومع ذلك يبقى شيء في نفسي لكسر ما هو بال ومعتاد.. ما زلتُ أذكر يومها رشقات سهام بعض الناظرين إليّ في المجلس، وأنا مخزِّن وأمص حليب “نانا” من قرطاسه بأنبوبه الرفيع، حتى بدوتُ وكأنني اختبر صبر الحضور في ذلك المقيل.

شعرتُ أن هناك من يكبت ويكتم في صدره الصغير ضحكة بحجم المكان، ولكن أصحابها حاولوا قمعها في مشهد الحضور، ورموني بدلاً عنها ببعض الأسئلة المهذبة، مثل: كيف طعم القات مع الحليب يا أستاذ أحمد؟!!! فيما أنا أجيبهم: رائع.. كنت أتخيل إجابتي مناسبة لعرض اعلاني اكثر روعة.. في الحقيقة كنت أشعر أن أصحاب مصانع الحليب قد فاتهم عرض إعلاني مميز، وربما كان الناس قد هجروا الماء مع القات من زمن بعيد، واستبدلوه بالحليب وربما الأجبان.

أقلعتُ عن “الشارك” لظني أنه يؤثر على الكبد.. أقلعتُ عن الزنجبيل البريطاني بعد أن عفتها وكأن عيناً حامية تم صرعي بها.. ثم أقلعتُ عن الحليب مع القات بعد حين لاعتقادي أنه يؤدّي إلى تخليق الحجارة في الكليتين.. انتقلتُ من الحليب إلى المانجو مع الحليب “راوخ” فهو ألذ وأطيب، ثم انتقلت إلى العسل مع الحليب وهي وصفة لا تضاهى.

***

كنتُ أخلط الحليب مع العسل في قنينة اطويها بجريده وربل.. ولكن حتّى هذه العادة أقلعتُ عنها، ليس فقط لارتفاع سعر العسل، ولكن لأنني لاحظتُ غمز ولمز لم أفهمه حتى نصحني صديق لي بقوله: “إن البعض يذهب به الظن إلى بعيد”.. فعملتُ بنصيحته التي أنقذتني من غمز ولمز، واتهام ربما يؤدّي إلى جلد صاحبه في وسط يستسهل رمي السهام، وكيل الاتهام، ويطمئن إليه.

وبالإضافة إلى ذلك الاتهام أجد نفسي مُغتاباً أنه لا يعجبني العجب؛ رغم أنني أعود إلى هذا وذاك في بعض الأحايين من باب الحنين، وربما التمرّد وكسر العادة، ولأنني لا أحب قطيعة الأبد، أترك الأبواب مواربة، وبعض النهايات مفتوحة للرجوع حتّى من باب ما يحملني عليه الواقع، أو تدفعني إليه السياسة.

غير أن هناك ما زال ما هو طريف في الأمر.. في أحد الأيام وفيما كنتُ أنا ونبيل الحسام مع ابن عمي عبده فريد في سيارته، وكان مقرراً التخزين والمقيل مع بعض.. نزل من السيارة إلى الدكان؛ وقال:
– أيش تشتو أجيب لكم مع القات؟
فطلب أحدنا حليباً، فيما طلب الآخر مانجو!!
إلا أن صاحبنا لم يتمالك أعصابه، وأعادنا إلى البيت فورا وقال:
– انزلوا من سيارتي.. أنا تغديت.. باروّح أرقد أحسن..

استمريت في التجريب والمواربة حتى قال الطبيب كلمته:
– ممنوع القات..صحتك أولاً.
استطعت أن أمتنع من القات واقلعت عنه، فيما لم استطع الامتناع أو الإقلاع عن السياسة.

***

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى