صياح الديك وإيقاظ العقول
يمنات
المحامي د. يوسف هبه
تبدأ الحكاية بسؤال بسيط: “لماذا لا يصيح ديككم؟” ليأتي الجواب صادمًا: “اشتكى منه الجيران لأنه يوقظهم، فذبحناه”.
هذه الإجابة القصيرة تحمل في طياتها معاني عميقة حول طبيعة البشر عبر التاريخ، وكيف يتعاملون مع من يزعج سكونهم، حتى لو كان هذا الإزعاج بمثابة إيقاظ من سبات عميق.
صياح الديك، الذي ارتبط منذ القدم ببزوغ الفجر وبداية يوم جديد، لم يعد مرغوبًا فيه في هذا السياق. لقد أصبح مصدر إزعاج يجب التخلص منه. هذا يذكرنا بالعديد من الشخصيات والأفكار عبر التاريخ التي واجهت مقاومة شديدة لمجرد أنها “أيقظت” الناس من غفلتهم، سواء كانت هذه الغفلة فكرية أو اجتماعية أو سياسية.
المفارقة الأخرى التي يطرحها النص هي الاهتمام بالدجاجة وإهمال الديك. الناس يتداولون اسم الدجاج لأنها تملأ بطونهم، بينما يُنسى الديك الذي يوقظ عقولهم. هذه إشارة واضحة إلى تغليب المنفعة المادية الآنية على القيمة الفكرية والمعنوية. نهتم بما يسد حاجاتنا المباشرة، ونتجاهل ما يحفزنا على التفكير والتغيير.
هذا يقودنا إلى التساؤل: هل أصبحنا مجتمعًا يفضل النوم على الاستيقاظ؟ هل بتنا نهتم فقط بما يرضي غرائزنا الآنية، ونتجاهل ما ينبهنا إلى أخطائنا ويحثنا على التطور
المقال يطرح فكرة أن من يوقظ الناس من سباتهم، سواء كان ديكا يصيح مع الفجر أو مفكرًا يدعو إلى التغيير، غالبًا ما يجد من يسعى إلى إسكاته أو حتى التخلص منه. هذه سنة كونية، ولكنها لا تعني أن نستسلم لها. يجب أن ندرك أهمية “الإزعاج” الذي يوقظنا، وأن نميز بين ما يزعج راحتنا وما ينبهنا إلى ما هو أهم.
أمثلة تاريخية:
لتوضيح هذه الفكرة بشكل أعمق، نستعرض بعض الأمثلة التاريخية التي تجسد هذه الديناميكية:
سقراط: الفيلسوف اليوناني الذي أيقظ عقول الأثينيين من خلال تساؤلاته الفلسفية الجريئة وانتقاده للأفكار السائدة. اتُهم بإفساد الشباب وحُكم عليه بالإعدام. كان سقراط بمثابة “الديك” الذي أزعج سكون المجتمع الأثيني، فكان جزاؤه الإقصاء.
جاليليو جاليلي: العالم الفلكي الإيطالي الذي دافع عن نظرية مركزية الشمس، ما يتعارض مع الاعتقاد السائد آنذاك بأن الأرض هي مركز الكون. واجه جاليليو معارضة شديدة من الكنيسة الكاثوليكية، التي اعتبرت أفكاره هرطقة. أُجبر جاليليو على التراجع عن نظريته وقضى بقية حياته تحت الإقامة الجبرية. كان جاليليو “ديكا” أيقظ العالم العلمي على حقيقة جديدة، فواجه قمعا شديدا.
مارتن لوثر كينغ جونيور: زعيم حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الذي نادى بالمساواة بين السود والبيض. واجه كينغ معارضة عنيفة من أنصار التمييز العنصري، وتعرض للاعتقال والاعتداءات المتكررة، حتى اغتيل في النهاية. كان كينغ “ديكا” أيقظ الضمير الأمريكي على الظلم العنصري، فدفع حياته ثمنا لذلك.
المصلحون الاجتماعيون: في كل مجتمع، يظهر مصلحون يدعون إلى تغيير الأوضاع السلبية ومحاربة الفساد والظلم. غالبا ما يواجه هؤلاء المصلحون مقاومة من أصحاب المصالح والنفوذ، الذين يسعون للحفاظ على الوضع القائم. يُعتبر هؤلاء المصلحون “ديوكا” تزعج سكون المستفيدين من الوضع القائم، فيتعرضون لحملات تشويه وتهميش.
هذه الأمثلة تُظهر أن مقاومة “الإيقاظ” ليست ظاهرة حديثة، بل هي نمط متكرر عبر التاريخ. الإنسان بطبعه يميل إلى الراحة والاستقرار، وأي شيء يهدد هذا الوضع يُنظر إليه بعين الريبة والعداء. لكن في الوقت نفسه، فإن “الديوك” التي تزعج سكوننا هي التي تدفعنا إلى التطور والتقدم. لولا سقراط وجاليليو وكينغ وغيرهم، لبقينا في سبات عميق.
لذلك، يجب علينا أن نُقدّر “الإزعاج” الذي يأتي به من يوقظ عقولنا، وأن نميز بين ما يزعج راحتنا وما ينبهنا إلى ما هو أهم. علينا أن نكون مستعدين لسماع الأصوات المختلفة، حتى لو كانت تزعجنا، وأن نُقيّمها بعقلانية ومنطق، بدلًا من رفضها لمجرد أنها تُخالف ما اعتدنا عليه.
في الختام، تدعونا هذه القصة إلى إعادة النظر في أولوياتنا. هل نهتم فقط بمن يملأ بطوننا، أم نهتم أيضًا بمن يوقظ عقولنا؟ هل نفضل السبات الهادئ على الاستيقاظ الواعي؟ الإجابة على هذه الأسئلة تحدد مسار مجتمعاتنا ومستقبلنا.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا