تجليات الهوية والانتماء في الأدب اليمني.. من الشتات إلى الوطن المفقود

يمنات
محمد المخلافي
اليمن هو بلد تتداخل فيه عبق التاريخ مع مآسي الحاضر، مما يعكس واقعًا مؤلمًا يعيشه أبناؤه في ظل النزاعات المسلحة. لقد أجبرت الظروف القاسية العديد من الكتّاب والمثقفين على الهجرة بحثًا عن ملاذ آمن، بينما لا يزال آخرون يتجرعون مرارة الضغوط النفسية والمعاناة اليومية. تتجاوز مشكلات اليمنيين الحدود الأساسية للحياة اليومية، حيث تلاشت الرواتب منذ أكثر من ثماني سنوات. وقد جعل هذا الوضع الكثير منهم عاجزين عن تأمين احتياجاتهم الضرورية، حتى إن بعضهم لم يعد قادرًا على تحمل أجرة الباص. نتيجةً لذلك، تدهورت الحالة الصحية للكثيرين، حيث تعرض البعض لجلطات، وفقدنا العديد منهم. نماذج من المعاناة في هذا السياق، نجد نماذج مثل الكاتب الكبير المرحوم محمد المساح، الذي استسلم وترك المشهد الثقافي بعد توقف راتبه، وعاد إلى قريته ليعيش حياة بسيطة يرعى الأغنام. استمر في تلك الحياة حتى فارق الحياة، بعد أن أمضى معظم عمره بين الصحف والكتابة.
كذلك، لا يمكننا أن نتجاهل الأستاذ عبد الإله القدسي، ذلك المثقف النبيل والأديب المبدع، الذي يرقد حاليًا في أحد مستشفيات العاصمة صنعاء، متأثرًا بإصابته بورم في إحدى كليتيه. إن حالته الصحية تتطلب عملية جراحية عاجلة لاستئصال الورم، لكن الواقع يفرض عليه عائقًا كبيرًا. فهو وحيد تمامًا، يعيش في كنف فقر مدقع، مما يزيد من معاناته في هذه اللحظات الصعبة. للأسف، لم يلتفت أحد إلى معاناته أو يمد له يد العون حتى الآن.
أما محمد دبوان المياحي، الكاتب والصحفي، فقد تم اعتقاله منذ سبتمبر الماضي ولا يزال محتجزًا، فقط لأنه انتقد الوضع. تعكس هذه الحالات بوضوح حجم المعاناة التي يعيشها الكتّاب. ورغم تلك الظروف القاسية، وغياب المشهد الثقافي، ووجود الشلالية، تبرز في الساحة الأدبية أصوات مبدعة استطاعت أن تكتب روايات ودواوين شعرية وكتب متنوعة. لذا قمت مؤخرًا بدراسة بعض أعمال كتّاب يمنيين بارزين يمثلون نماذج متنوعة من التجارب الأدبية والإنسانية.
هؤلاء الكتاب، مثل حميد عقبي وأحمد سيف حاشد وعبدالغني المخلافي وبلال أحمد وغيرهم، يعكسون من خلال نصوصهم العميقة تجاربهم الشخصية ويطرحون قضايا الهوية والانتماء في سياق النزوح والغربة. تجارب الكتاب حميد عقبي، الكاتب اليمني المقيم في باريس، يقدم في روايته “يوريديس في ليلة الرازم” تجربة إنسانية عميقة تتمحور حول مواضيع الهوية والانتماء في زمن النزوح. الرواية، التي صدرت عام 2024، تعكس الانتظار والأمل وسط الفوضى، حيث يستخدم عقبي أسلوبًا سرديًا غير خطي ولغة غنائية، مما يضفي طابعًا أسطوريًا على النص. تدور أحداث الرواية حول مشاعر الغربة والعزلة التي يعيشها النازح، مركزة على شخصية تنتظر عودة شخص عزيز، مما يعكس حالة الصراع النفسي والتوتر بين الأمل والواقع. تستند الرواية إلى الأسطورة الكلاسيكية لأورفيوس ويوريديس، مع إعادة تشكيلها في سياق الذاكرة الثقافية اليمنية.
خلال عامي 2023 و2024، شهد عقبي نشاطًا ملحوظًا بإصدار 25 كتابًا في مجالات متنوعة تشمل الشعر والقصة القصيرة والنص المسرحي والسيناريو. ليس هذا فحسب، بل كتب عقبي أيضًا باللغة الفرنسية، حيث صدر له ديوان مترجم إلى الألمانية ونص مسرحي مترجم إلى الإيطالية، بالإضافة إلى ثلاثة كتب باللغة الفرنسية. مع إجمالي 29 كتابًا سابقًا في مجالات القصة القصيرة والنص المسرحي والنقد السينمائي، أظهرت أعماله تنوعًا وتفانيًا في الإبداع، وقد تم نشرها إلكترونيًا خلال الفترة من 2012 إلى 2016. أسس عقبي المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح منذ نهاية 2018، وما زال هذا المنتدى نشطًا من خلال ندوات وملتقيات نقدية افتراضية، مما يعكس التزامه بتعزيز الثقافة والفن. ومنذ عام 2020، دخل مغامرة الفن التشكيلي، حيث أقام عشرة معارض فنية في فرنسا، وأخرج وأنتج عشرة أفلام سينمائية قصيرة، بما في ذلك ثلاثية سينمائية القصيدة الشعرية.
في كتابه “فضاء لا يتسع لطائر”، يستعرض البرلماني والمناضل اليمني أحمد سيف حاشد تجربته النضالية التي تمتد لستين عامًا. يتجاوز الكتاب كونه سيرة ذاتية ليكون صوتًا للمظلومين في مواجهة الاستبداد. يُبرز حاشد صموده ضد القمع، مستعرضًا تجارب شخصية وصراعات وجودية تتعلق بالمعاناة اليومية للملايين.
يتميز أسلوبه بالعمق والوضوح، حيث يمزج بين السرد الواقعي والتأمل الفلسفي بلغة بسيطة ومعبرة. يتناول الكتاب مواضيع متنوعة تشمل الطفولة، والعلاقات الأسرية، وقضايا التعليم، مُعبرًا عن مشاعر القلق والأمل. عنوان الكتاب يُعبر عن القيود التي تعيق الحرية، مما يُعكس شعور الكاتب بالعزلة. بشكل عام، تُجسد تجربة أحمد سيف حاشد في “فضاء لا يتسع لطائر” نضالًا إنسانيًا عميقًا من أجل العدالة والحرية، مُبرزًا واقع المظلومين في عالم مليء بالصراعات.
يتناول كتاب “أصوات اليمن: مقالات في الأدب المعاصر والواقع الاجتماعي” للكاتب والناقد اليمني المعروف، الدكتور حاتم محمد الشماع، الذي يقيم في بريطانيا. صدر الكتاب عن أمازون باللغة الإنجليزية، وهو مجموعة رائدة من المقالات التي تغوص في عمق الأدب المعاصر في اليمن، كاشفةً عن الروابط العميقة بين الأدب والواقعين الاجتماعي والسياسي وهُوية الأمة الثقافية. يستعرض الكتاب بمهارة أعمال مؤلفين يمنيين بارزين، حيث يتناول موضوعات الذاكرة والجنس والصراع والقدرة على الصمود في مجتمع يشهد تحولات تاريخية. من خلال ربط الخطاب الأدبي العالمي بالرؤية اليمنية، يُعتبر هذا المجلد مصدرًا أساسيًا للباحثين والطلاب والقراء حول العالم الذين يسعون لفهم نبض الثقافة اليمنية من خلال سرديات كتابها.
بالإضافة إلى ذلك، يدير الدكتور حاتم مجلة تُعنى بترجمة الأدب العربي، ويخصص فيها لنشر المنجز الأدبي اليمني باللغة الإنجليزية. روايات تعكس الواقع تستعرض رواية “المعلامة” للكاتب اليمني علوان مهدي الجيلاني تباين الثقافات والتقاليد في المجتمع اليمني من خلال عيون طفل نشأ في ريف تهامة. تسرد الرواية تفاصيل الحياة اليومية في قرية الجيلانية، مُجسدةً مشاعر البراءة والعفوية، حيث تتناول ذكريات الطفولة وعلاقة الكاتب بجده وجدته، اللتين تمثلان رموز الحب والأمان. تبدأ الرواية في أوائل السبعينيات وتستمر حتى نهاية الثمانينيات، موضحةً كيف شكلت هذه البيئة البسيطة شخصية بطل الرواية. تبرز الجدة دورها كحافظة للذكريات وقوة داعمة، مما يعكس أهمية العلاقات الأسرية في تكوين الهوية. تُظهر الرواية كيف يمكن للتحديات، مثل المرض، أن تكون دافعًا نحو التفوق. يمزج الجيلاني بين السرد الواقعي والرمزية، مُستعرضًا مفاهيم الأمل والتضامن في أوقات الشدة. تعكس تفاصيل الرواية جمال اللغة الشعرية وتستخدم كلمات محلية لإضفاء حميمية على النص، مما يعزز من تفاعل القارئ مع الأحداث.
“على ضفتي المجرى” هي الرواية الأولى للكاتب اليمني بلال أحمد المقيم في هولندا، صدرت في عام 2022. يمزج بلال بين الرمزية والواقعية بأسلوب سهل وفعّال، مما يتيح للقراء التفاعل مع شخصيات نابضة بالحياة. تتناول الرواية قضايا الهوية والانتماء في زمن الفوضى، مركزًا على شخصية أسامة الجمهوري الذي يعاني من صراع داخلي بين الهوية المفقودة والسعي لبناء هوية جديدة. تستعرض الرواية التحولات الاجتماعية والسياسية في اليمن، مستخدمة تقنيات سردية مبتكرة تعكس عمق التجربة الإنسانية.
تتناول رواية “خيار العودة: يوميات أديب” للكاتب اليمني عبد الغني المخلافي تجربة إنسانية عميقة تعكس معاناة العودة إلى الوطن في زمن الحرب والشتات. تبدأ الرواية بمغامرة محفوفة بالمخاطر لشخصية تسعى للعودة إلى اليمن بعد 22 عامًا من الغربة في السعودية، حيث تعكس أحداثها التحديات المالية والظروف القاسية التي تواجهها. تتسم الكتابة بأسلوب سردي شعري، يعبر عن مشاعر الفقد والحنين، ويعكس الصراع الداخلي بين الأمل والواقع المرير.
يتناول المخلافي في روايته مفهوم الهوية والانتماء، مستعرضًا كيف تغيرت الأوضاع في وطنه بسبب الحرب، مما يزيد من شعوره بالغربة حتى بعد العودة. أدب الحضور الرقمي تجسد تجربة الدكتور عبد العزيز الزراعي في كتابه “الخطاب الشعري على فيسبوك” دراسة عميقة لتأثير الفضاء الرقمي على الشعر اليمني. ينطلق الزراعي من خلفيته الأدبية الغنية وتجربته الشخصية في قرية “بني الزراعي”، حيث بدأ شغفه بالأدب. تتناول الدراسة كيفية استخدام الشعراء اليمنيين لمنصة فيسبوك كوسيلة للتعبير والتواصل، مما يتيح لهم تجاوز الحدود التقليدية للأدب. يسلط الزراعي الضوء على التحولات في شكل ومضمون النصوص الشعرية، مشيرًا إلى كيفية تأثير التفاعلات الرقمية على المعاني والنصوص. يتميز الكتاب بأسلوبه التحليلي الدقيق، حيث يجمع بين مقاربات اللسانيات والسيميائيات، مما يمنحه عمقًا أكاديميًا.
يعكس الكتاب أيضًا قضايا الهوية والانتماء في زمن الأزمات، ويبرز قدرة الشعر على التعبير عن المشاعر الإنسانية في ظل الظروف الصعبة. بفضل منهجيته المتكاملة، يُعتبر الكتاب مرجعًا مهمًا لفهم التحولات الأدبية في العصر الرقمي، مما يفتح آفاقًا جديدة للبحث والنقاش حول الأدب الرقمي وتأثيره.
الشعر الحديث يبرز الشاعر اليمني عبد المجيد التركي كواحد من أبرز الأصوات في شعر النثر الحديث من خلال ديوانه “كبرتُ كثيرًا يا أبي”. يتميز التركي بقدرته على تجاوز الحدود التقليدية لقصيدة النثر، مستلهمًا تقنيات السرد الروائي لبناء نصوص شعرية غنية ومعبرة. يستعيد التركي في ديوانه ذكرياته مع والده، معبرًا عن الحنين للطفولة والامتنان للحياة، حيث تتداخل المشاعر الإنسانية العميقة مع التجارب اليومية.
يستخدم التركي لغة شعرية متقنة وصورًا بلاغية حية لتصوير الصراع الداخلي بين البراءة والعنف، مما يجعل نصوصه تعكس عمق المعاناة والحنين. تتسم نصوصه بالاحتفاء بالطبيعة، حيث يصف قريته “شهارة” بطريقة فلسفية، معبرًا عن العلاقة الحميمة بين الإنسان والبيئة.
يسعى التركي من خلال شعره إلى تجسيد الواقع وتجسيد القضايا الإنسانية بمهارة، مما يعكس رؤيته العميقة للحياة. كل هذه الكتب صدرت خلال السنوات الأربع الماضية بدون أي دعم يُذكر، فقط بجهود ذاتية.
يركز معظم الكتاب على موضوعات الهوية والانتماء، موضحين كيف تؤثر الظروف الاجتماعية والسياسية على تجارب الشخصيات في أعمالهم. يتناولون الصراعات الداخلية والخارجية الناتجة عن النزوح أو الغربة. يركز الكتاب على التجارب الإنسانية العميقة، مثل الفقد والحنين والأمل. يعبر كل كاتب عن مشاعره بطريقة تلامس القارئ، مما يجعل النصوص معبرة عن واقع معقد. تظهر اللغة الشعرية بشكل بارز في أعمالهم، حيث يستخدمون أساليب بلاغية متنوعة تعزز من جمالية النص وتعمق الدلالات المعبرة. كما يتناولون الواقع الاجتماعي والثقافي في اليمن، مسلطين الضوء على التغيرات التي طرأت على المجتمع بسبب الصراعات والحروب. يستلهم العديد من الكتاب من التراث الثقافي والأدبي اليمني، مما يضفي عمقًا تاريخيًا على أعمالهم ويعكس ارتباطهم بجذورهم. يسعى الكتاب أيضًا إلى تجديد أشكال التعبير الأدبي، مستخدمين أساليب سردية وشعرية جديدة تتجاوز الأشكال التقليدية، مما يعكس تفاعلهم مع العصر الرقمي والثقافات المعاصرة. هذه السمات تجعل أعمالهم تمثل صوتًا أدبيًا مميزًا يعكس التجارب الإنسانية في سياق اجتماعي وثقافي معقد.
نقلا عن موقع نخيل عراقي
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا