العرض في الرئيسةفضاء حر

الفلسفة تُنير دروب الظلام حين يغفو الجهلاء في سباتهم

يمنات

غازي الجابري

عندما يُغلق الجهلاء أعينهم عن حقائق العالم، وتُغمض عقولهم عن التساؤلات الكبرى، تبدأ الفلسفة رحلتها الهادئة كشعلة مضيئة تتسلل بين الأزقة المُعتمة. إنه المشهد الذي يولد حين يخلو المجال للفكر أن يَهِمَ بحرية، بعيدًا عن ضجيج السطحيين وانشغالاتهم التافهة. هذه ليست مجرد استعارة شعرية، بل قانون تاريخي تتكرر فصوله كلما هيمن الغباء على مسرح البشرية.

التاريخ يشهد: العصور المظلمة تلدُ عُقولًا مُستنيرة

لطالما كانت لحظات الانحدار الفكري محفّزًا لنهضات فلسفية جريئة. ففي العصور الوسطى الأوروبية، حين ساد الجهل وتحكمت الخرافة، انبثقت من رحم الظلام شرارةُ عصر التنوير، حاملةً معها أسئلة ديكارت عن الوجود، وشكوك كانط في المطلق، وثورة فولتير على التقاليد البالية. لم تكن الفلسفة تمشي في الشوارع الموحشة فحسب، بل كانت تبني فيها مدنًا فكرية كاملة.

الفلسفة تبحث عن مساحة بين الضجيج ،اليوم، حيث تحولت الشوارع إلى فضاءات رقمية مزدحمة بالثرثرة والصور العابرة، أصبحت الفلسفة أكثر إلحاحًا. إنها لا تحتاج إلى صمت مطلق، بل إلى مساحة تُسمع فيها الأسئلة العميقة: لماذا نعيش؟ ما العدل؟ كيف نعرف الحقيقة؟ هذه التساؤلات تطفو على السطح حين يتوقف الناس مؤقتًا عن ملء الفراغ بِلغو الحديث، كما يحدث في الأزمات الكبرى التي تهزّ اليقينيات، أو في اللحظات الفردية التي يواجه فيها الإنسان وحدته الوجودية.

ليست معركة ضد “الأغبياء”، بل دعوة للاستيقاظ

ليس الهدف من هذه الرؤية احتقارَ فئةٍ بعينها، بل كشفُ العلاقة الجدلية بين السطحية والعمق. فالفيلسوف الحقيقي لا يفرح بغفلة الآخرين، بل يحوّل هذه الغفلة إلى دافعٍ لإيقاظهم. كما كتب نيتشه: الحكمة تبدأ حين تتعلم أن تشك حتى في ما تعتقد أنه بديهي. إن تحرير العقول ليس مشروعًا نخبويًا، بل مسؤولية إنسانية تُبنى بالحوار، لا بالانعزال في أبراجٍ عاجية.

الفلسفة ليست ترفًا إنها خريطة النجاة إذا كانت الشوارع تبدو موحشة للفلسفة اليوم، فذلك لأنها تنتظر من يملؤها بحواراتٍ تليق بالإنسان. لن تعود الفلسفة إلى المشي في دروبنا إلا إذا حوّلناها من مادةٍ أكاديمية إلى نمط عيش، من تساؤلٍ فردي إلى ممارسة جماعية. حينها، لن تكون اليقظة حكرًا على الحكماء، بل تصير اختيارًا يوميًا لكل من يرفض أن يكونَ عبدًا للسائد، أو أسيرًا للجهل المُريح.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى