أدب وفنالعرض في الرئيسةفضاء حر

سفير الأغنية اليمنية

يمنات

محمد المخلافي  

يُعتبر الفنان اليمني حسين محب واحدًا من أبرز الأسماء في الساحة الفنية، حيث استطاع بموهبته المتميزة أن يُحلق بالفن اليمني عالياً، جامعًا بين تراثه الثقافي الغني وإبداعه الشخصي. نجح في تقديم الفن اليمني بصورة تتناسب مع مكانته التاريخية والحضارية، مما يعزز من حضوره في المشهدين العربي والعالمي ويضمن له مكانًا في ذاكرة الأجيال الحالية والقادمة.

تمكن من دمج الأصالة بالحداثة، مما جعله يحظى بشعبية واسعة. لقد استطاع أن يُبرز جمال التراث الموسيقي اليمني بتقديمه في قالب عصري، مما يجذب جمهورًا متنوعًا يتجاوز الحدود الجغرافية. إن إسهاماته لا تعكس فقط مهاراته الفنية، بل تعبر عن روح الهوية اليمنية، مما يجعل من تجربته الفنية تجربة غنية ومؤثرة.

 الأسرة والفلكلور في مسيرة حسين الفنية
عاش حسين طفولته المبكرة في وادي ظهر، شمال غرب صنعاء، في أسرة فنية تعنى بالفلكلور الشعبي، مما ساعده على اكتشاف موهبته مبكرًا. منذ صغره، كان ينشد ويغني بشكل تلقائي، وبرز صوته الجميل عندما اختاره مدرسه ليقرأ القرآن في إذاعة المدرسة، مما عزز ثقته بنفسه وأظهر له الطريق نحو الفن. كان يجتمع مع أصدقائه في بيت الجيران ليغنوا ويدندنون في الخفاء.

عندما علم والدُه من الجيران بموهبته، قال له: “احضر العود، واجلس أمامي. لا تغني الآن، فقط أريد أن أرى إذا كان لديك قبول وشخصية. وإذا أعجبتني، ستعجب الناس.” كان والدُه يؤمن بموهبته ويشعر أنه سيفاجئ الجميع في يوم من الأيام. كان لديه نظرة فنية عميقة، حيث يمتلك القدرة على اكتشاف الجوانب الإبداعية، وكان دائمًا يشجعه على الاجتهاد والسعي نحو تحقيق حلمه.

تأثر حسين بشكل كبير بوالده، خاصةً في الأوقات التي كان يجلس فيها معه، يستمع إلى المناقشات التي تدور بينه وبين ضيوفه المثقفين. كان يراقبهم بتركيز، مستمتعًا بما يتبادلون من أفكار وآراء. كان والدُه إنسانًا طيبًا يسعى دائمًا لإصلاح ذات البين، مما أثر فيه من الناحية الإنسانية، حيث زرعت تلك القيم النبيلة روح التعاون والمساعدة في نفسه. وفي الجانب الفني، كان يتلقى الثناء من الآخرين، حيث كانوا يصفونه بالمبدع أمام والدِه. وعندما يغادر هؤلاء الضيوف، كان يسأله والدُه: “هل أنت مقتنع بما يقولونه عنك؟” فيجيب: “لا.” فيقول له: “لا تزال بحاجة للعمل أكثر.”

صوت يحمل روح الحارثي
في مرحلة مبكرة من حياته، شارك حسين مع المنشد قاسم زبيدة في إحياء الأعراس، مما أتاح له فرصة تعلم مخارج الحروف بشكل صحيح وإتقان فن الأداء. واصل حسين رحلته الفنية حتى بلغ الخامسة عشرة من عمره، حيث بدأ يحيي الأعراس في منطقته والمناطق المجاورة. كان والده دائمًا إلى جانبه، يختار له مجموعة من أغاني الفنان المعروف الحارثي، ويشجعه على تعلمها وإتقانها. كان والده من أكبر معجبي الحارثي، ويؤمن بأن هذه الأغاني تحمل عمقًا فنيًا يستحق أن يتقنه ابنه.

على الرغم من أن أغاني الحارثي تُعتبر تحديًا كبيرًا وتحتاج إلى تمارين مستمرة ووقت طويل للتعلم، إلا أن حسين، بفضل حبه وشغفه، تمكن من إجادتها بسرعة ملحوظة. وعندما كان يغني، كان من الواضح للجميع أنه يمتلك صوتًا يحمل روح الحارثي، مما جعله يترك انطباعًا قويًا لدى كل من استمع إليه.

رحلة حسين محب نحو النجومية
كان حسين محب يحب العمل في الأرض بجانب منزلهم في وادي ظهر، برفقة جهازه المفضل الذي كان يجمع بين الراديو والمسجل والكشاف. كان يستمع إلى الأغاني ويرددها، بالإضافة إلى البرامج الثقافية التي أثارت شغفه بالقراءة والاطلاع.

كانت هناك لحظة أخرى مهمة حفزته على القراءة والاطلاع. في إحدى المرات، شارك في لقاء عبر إذاعة صنعاء مع الإعلامي المعروف محمد المحمدي، بجانب فنان مشهور. قبل بدء اللقاء، قام المحمدي بترتيب القاء، وذكر أنه سيبدأ مع الفنان المعروف ثم ينتقل إلى حسين، كفنان صاعد ما زال في بداية مشواره. لكن ما حدث كان غير المتوقع؛ بعد مقدمة المحمدي، اتجه مباشرة إلى حسين وبدأ يسأله.

تردد حسين في البداية، حيث كان يرغب في أن يخبر المحمدي أن يبدأ مع الفنان المعروف، لكنه تردد ولم يتمكن من الكلام. بعد تلك التجربة، قرر حسين أن يقرأ ويتعلم أكثر ليحسن من سرعة بديهته. بدأ في البحث عن كتب، حتى عثر عند أحد أصدقائه على “كتاب فن الغناء الصنعاني” للكاتب الكبير محمد عبده غانم، ليغوص في عمق التراث والفن. بالإضافة إلى ذلك، قرأ كتب السيرة الذاتية للفنانين العرب، ساعيًا لتطوير مهاراته.

كلما كان يقرأ، كان يجد تشابهًا بينه وبين هؤلاء الفنانين، مما زاد من عزيمته وإصراره على تحقيق حلمه في مجال الفن. استمر حسين في سعيه نحو تحقيق حلمه، حيث كانت الأيام تمضي بوتيرة متسقة، حتى جاءت له فرصة غير متوقعة. في إحدى الزيارات، استقبل والده الأستاذ عبد الله العابد، مدير مكتب الثقافة بمحافظة صنعاء، الذي جاء ليستفسر عن الرقصات الشعبية والملابس التراثية، وذلك في إطار التحضير لفعاليات “صنعاء عاصمة الثقافة العربية” لعام 2004.

في تلك الأثناء، كان حسين يغني في عرس أحد جيرانه، مستمتعًا بأغاني الحارثي. عند دخول الأستاذ عبد الله، استغرب من الأجواء، وسأل: “كيف يمكن أن يُشغل في العرس أشرطة للحارثي دون أن يحضروا فنان؟” فرد الفنان محب، والد حسين: “هذا ابني حسين يغني.” تفاجأ الأستاذ عبد الله بموهبة حسين، وقال: “لا يوجد فرق بين صوته وصوت الحارثي، كأنما هما صوت واحد. كيف يمكن أن يكون لدينا فنان موهوب مثل هذا، بينما نستأجر فنانين من خارج المحافظة ليمثلونا في الفعاليات؟ إذن، نريد حسين أن يشارك معنا.”

على الرغم من الإعجاب الذي أبداه الأستاذ عبد الله، رفض الفنان محب في البداية. قال: “ما زال حسين في بداية مشواره الفني، ولا أعتقد أنه جاهز لمثل هذه الفعاليات.” لكن الأستاذ عبد الله أصر عليه وقال: “ربما، هذه الفرصة قد تكون نقطة انطلاق حاسمة لحسين.” وافق الفنان محب بشرط أن يغني حسين أمام الفنان محمد حمود الحارثي. إذا وافق الحارثي على مشاركته، سيشارك، وإذا رفض، فسأعتذر.

بعد أن تواصلوا مع الحارثي، انطلقوا إلى منزله. هناك، غنى حسين محب ثلاث أغاني حارثية. كان الحارثي يستمع بإمعان، وعندما أنهى حسين أغانيه، انبهر بموهبته، ورد عليه بأغنية شهيرة له: “أه وشل ما شليت وحط ما حطيت، قد أنت وسط البيت، يا فائق الغزلان.” كانت تلك الكلمات بمثابة تأكيد على قدرة حسين، ورمزًا للاعتراف بموهبته.

بعد الأداء، توجه الحارثي إلى حسين بنصائح مليئة بالحكمة. أخبره أنه يمتلك صوتًا جميلًا وقدرات قد تفوق حتى قدراته هو نفسه، وأكد على أهمية القراءة والحفظ وألا يكون مجرد مقلد. “ابحث عن نفسك، وابتكر أسلوبك الخاص”، كانت هذه النصيحة بمثابة شعلة أمل لحسين، حيث حفزته وغيّرت مسار تفكيره.

كيف تغيرت حياة حسين محب في يوم واحد
عاد حسين إلى قريته ولم يكن يتوقع أنه سيشارك في الفعاليات. في صباح اليوم التالي، خرج كعادته ليعمل في الأرض بجانب منزلهم ويستمع إلى مذياعه. وفجأةً، نادوه ليتهيأ للذهاب إلى المركز الثقافي اليمني للمشاركة. حينها، لم يكن مستعدًا؛ أخذ الكوت من ابن عمه والجنبية من ابن خالته، وكان مظهره غير مرتب.

صعد إلى المسرح وغنى، وأطرب الجميع. صفّق الكل حتى إنهم ألغوا بعض الفقرات وتركوه يستمر. وفي اليوم التالي، طلبوا منه المشاركة مجددًا. حتى إن وزير الثقافة حينها، الأستاذ خالد الرويشان، اتصل به شخصيًا وأثنى عليه وشجعه، ووصف حضوره على المسرح بأنه كان مبهراً، كأنه ابن المسرح، حيث لم يشعر بالارتباك رغم أنها كانت المرة الأولى التي يظهر فيها على المسرح. يومها قال له والده: “أنت الآن في الواجهة، وفي تحدٍ كبير؛ إما أن تجتهد لتكون متميزًا وتسعى لتحقيق حلمك، أو أن تتراجع وتفقد هذه الفرصة.” كانت هذه الكلمات دافعًا له لبذل المزيد من الجهد.

 يحلق في سماء الفن
من هنا، بدأت مسيرة حسين تتجه نحو الشهرة، وأصبح يشارك في إحياء الأعراس والفعاليات على نطاق أوسع. ها هو الآن يحلّق عالياً، ممثلاً فن بلاده اليمن في مختلف المحافل العربية والعالمية. يصدح بالأغنية اليمنية في العديد من المهرجانات، من مهرجان الرياض إلى الأوبرا في بريطانيا وفرنسا وهولندا وغيرها من الدول، حيث يبرز جمال التراث الموسيقي اليمني وتأثيره في الثقافة العالمية. إن إسهاماته في هذه الفعاليات تعكس روح الهوية اليمنية، وتجذب جمهورًا واسعاً من محبي الفن والموسيقى.

في آخر حفلاته، أحيى حفلاً غنائياً رائعاً في دار الأوبرا في مانشستر، حيث حضرت عمدة مانشستر شخصيًا وغردت على حسابها في تويتر داعيةً الناس للحضور ليستمتعوا بالفن اليمني. ارتدى حسين محب الزي اليمني، مما أضفى أجواءً خاصة على الحفل، الذي قوبل بترحاب كبير من مختلف الجنسيات العربية والأوروبية. استمتع الجميع بأجواء تنبع من عمق التراث والثقافة اليمنية، مما جعلهم يشعرون بثراء التجربة الفنية.

وفي حديقة السويدي بالرياض، أُحياء حفلة شهدت حضور أكثر من مئة ألف شخص، مما يعكس الشعبية الكبيرة التي يحظى بها هذا الفنان الشاب في الساحة الفنية. كان الحضور يرددون أغانيه، ويعيشون لحظات من الفرح والاحتفاء بفنه، حيث تداخلت الأصوات لتشكل سيمفونية من الحب والتقدير.

“ولعناها وحنولعها لحسين محب”، كانت هذه تغريدة تركي آل الشيخ في مهرجان الرياض، تعكس الشغف الكبير الذي يحيط بهذا الفنان ونجاحه المتواصل في تقديم الفن اليمني بأبهى صورة.

تجسد مسيرة حسين محب رحلة فنية ملهمة، حيث استطاع بموهبته الفريدة أن ينقل الفن اليمني إلى آفاق جديدة، موحدًا بين الأصالة والحداثة. منذ بداياته المتواضعة في وادي ظهر، أظهر حسين قدرة استثنائية على التأقلم والنمو، مدفوعًا بدعم أسرته وتوجيهات الرواد في مجاله.

اليوم، يُعد حسين محب رمزًا للفخر الفني اليمني، حيث يصدح بأغانيه في المهرجانات الكبرى ويجذب جمهورًا متنوعًا من مختلف الثقافات. إن إسهاماته تبرز جمال التراث وتعكس روح الهوية اليمنية، مما يجعله سفيرًا حقيقيًا للفن في سماء الإبداع. بفضل شغفه واجتهاده، يستمر حسين في التحليق عالياً، موجهًا أنظاره نحو المزيد من النجاحات في المستقبل.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

لقراءة وتحميل كتاب فضاء لا يتسع لطائر انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى