أدب وفنالعرض في الرئيسةفضاء حر

قراءة في رواية أساور مأرب للروائي محمد الغربي عمران

يمنات

د. نجيب عسكر

رواية أساور مأرب هي الإنتاج الثالث عشر لأديبنا بعد سلسلة الأعمال القصصية والروائية التي وصلت إلى العالمية من خلال ترجمة عدد منها إلى الإنجليزية والإيطالية وبعض اللغات الأخرى، كما أن بعضَ تلك الروايات قد حصدت العديد من الجوائز، ومنها رواية (ظلمة يائيل) التي حصلت على جائزة الطيب صالح عام 2012م.

وبالتالي فالرواية التي بين أيدينا هي تتويج للخبرة والنضج والعطاء المتواصل الذي يمتد لثلاثين عاماً ويزيد، إضافة إلى معايشة الكاتب للواقع من خلال عمله البرلماني والإداري والمجتمعي.

القارئ لهذه الرواية ينطلق من دوي الانفجارات التي أيقظت بطلة القصة (كنز)عام 2021م، وهي في غرفتها الضيقة بمبنى منظمة إغاثة أوروبية، وهي بداية جديرة أن تشد القارئ إلى ما ورائها.

تبدأ سلسلة الأحداث المتشابكة التي يكتنفها الغموض في الليالي الأولى من ليالي الرواية التي بلغت ثماني عشرة ليلةً مجزأة..مما يزيد من شوق القارئ لمعرفة الكثير من تفاصيل الرواية التي أجاد الكاتب حبكتها، واستطاع أن يجذب القارئ ويشدّه وراء سلسلة الأحداث التي تتوالى في السرد ولكن في أزمنة لم تكن متوالية.

فالعقدة تزداد مع مرور الليالي، وهكذا يظل القارئ يفتش بشغف عن الخيوط التي توصله إلى اكتشاف ما يستطيع من خلاله فك بعض الشفرات التي بدأت بها الرواية؛ فإذا به يقع مرّة أخرى بشرك الكاتب، إذ تشده خيوط أخرى تلزمه بضرورة مواصلة القراءة والغوص في أعماق الأحداث.

وبعد أن تبدأ تتكشف بعض التفاصيل ، ينتقل الكاتب بالقارئ إلى طرق أخرى بعضها ممهد وبعضها شديد الوعورة، ليتركه يواصل مشواره، متنقلاً بين خيام الصحراء والمدينة والجبال والكهوف، بين الأٌنس والوحشة، بين الإنسانية والقهر والذل والتشرد، وهو ما يزال معلقاً بين كمٍ كثيفٍ من الأحداث التي تثير في نفسه الألم، وهو يشاهد أبطال الرواية وهم يسردون مغامراتهم ومعاناتهم.

وهكذا يستمر الحال، وبحنكة كبيرة، يستطيع الكاتب أن يشد القارئ حتى آخر سطر في الرواية.

الرواية اتخذت من مأرب مكاناً لأحداثها، لأن مأرب هي إحدى أهم بؤر الصراع التي يعشيها الوطن، كما أنها تجمع بين المدنية والبداوة، وقد استطاع الكاتب أن يرسم من خلال هذه الرواية صوراً عديدةً للمآسي التي أنتجتها الحرب، ومن أهمها:

التشرد: ويتضح ذلك من خلال مأساة بطلة القصة (كنز) وعائلتها، فالحرب رمت بها في متاهات عديدة، وعرضتها للذئاب البشرية، وفرقت بينها وبين أخيها الذي خاطبها ذات يوم عبر الهاتف قائلاً: من الصعب أن نلتقي، رغم أننا نرى المدينة من موقعنا على قمم الجبال، فلا يستطيع أحدٌ أن يهبط أو يصعد.. وهي صورة مؤلمة لفراق الأحبة رغم قربهم من بعض.. كما ولدت الحرب تشرد الملايين خارج وطنهم، وجعلت الكثيرين يتغربون داخل وطنهم..

الحرمان من التعليم: وهو ما حل بالمزرر(أخو كنز) الذي ترك التعليم ليلتحق بصفوف المقاتلين رغم صغر سنه، ليصبح بعد ذلك أحد ضحايا الحرب، حيث قتل وترك حسرةً في قلب أخته التي لم تره منذ فراقهما. وهو حال آلاف الأطفال والشباب الذين أصبحوا وقوداً للحرب، دون أن يكون لهم فيها يد.

الاستغلال: وفي هذا الجانب، تتكشف الكثير من أساليب الاستغلال خاصةً للمرأة، حيث تعرضت للاستغلال من قِبل المسؤول المرفّه، والشيخ القبلي، والشيخ المتلبس بعباءة الدين وسائق السيارة، وكان جسدها عرضةً لكل هؤلاء الذئاب.

الانحراف الفكري والأخلاقي: حيث تعرضت الرواية لكارثة الانحراف الفكري من خلال إقناع الكثيرين ومنهم (المزرر) الذي تم إقناعه بأنّه يقاتل أعداء الله، رغم أنه يقاتل مسلمين وأخوة له، فهو يقول في آخر مكالمة له مع أخته: إن وجدتي هاتفي مغلقاً، فاعلمي أننا في جهاد أعداء الله ورسوله..

أما من حيث الانحراف الأخلاقي، فقد تطرّقت الرواية إلى شبكات الدعارة التي تنتشر نتيجة الحروب برعاية من بعض المسؤولين والمشائخ وتجار الجنس المحليين وغير المحليين، وحتى ممن يثق الناس بهم ويظهرون بأنهم ملائكة رحمة، كطبيبة النساء التي أوقعت بطلة القصة في شراكها، وغيرها، كما نجد صديقتها (التي لم تعد سمينة) تبعث لها رسالة تقول: كم سعادتي لا توصف وقد أمسيت في مأمن ، بعيداً عن مخالب شبكة الدعارة.

القتل والدمار: وهو العنوان العريض لمأساة الوطن، فالحرب أنتجت الكثير من المآسي، وقتلت الشباب والنساء والأطفال والشيوخ وخيرة أبناء البلد، ودمّرت الاقتصاد، وجلبت الفقر والعار للكثير من الأسر التي كانت مستورة الحال، كما خلفت الحرب الآلاف من الضحايا والمعاقين، وشبكات الألغام التي ستستمر آثارها لعشرات السنين القادمة.

الثأر: وهو أحد الأدواء المنشرة في اليمن ، ومن الطبيعي أن يزداد الثأر اشتعالاً بسبب الحرب، فهذه الجدة ترسم لنا إحدى صورة المأساة التي لا حقتهم نتيجة الثأر بقولها: تزوجت صغيرة بمن أحببت، زوجي ظلت تلاحقه لعنة الثأر، ولذلك كلما حللنا في ديار لا نلبث أن نهرب منها إلى غيرها، وهكذا قضينا حياتنا نهرب من أقدارنا .. نهرب من الموت، قطعنا قفاراً بعيدةً حتى ظننا بأننا أصبحنا في أمان، تحملنا عوز وخوف غربتنا…فقد كانت حياتنا رحيلاً دائماً..وفي أحد الأيام رحل زوجي إلى سوق لجلب ما نحتاجه ولم يحمل بندقه، ولكنه خرج ولم يعد…

إذلال الناس: ومن أسوأ ما أنتجته الحرب الإهانات والذل الذي لحق بالكثير من أبناء الوطن، بطريقة همجية ولا أخلاقية، خاصة من قبل بعض أدعياء المشيخ ، وقد عبرت عن ذلك جدة كنز بقولها: هكذا هم قبائل الجبال، يستخدمون الأراذل لأذية الناس، وهو أسلوب قذر بالتأكيد، يتم استخدامه مع كثير من الناس.

دور المنظمات الأجنبية: نعلم أن الحرب تولّد الحاجة، وتفتح الأبواب للمنظمات الأجنبية للتدخل كي تساعد ضحايا الحرب، ونحن نعرف ما أثير من ضجة حول تلك المنظمات والشبهات التي دارت حولها، وإن كان الكاتب لم يتطرق إلى تلك الشبهات بشكل واضح، بل تناول الجانب الإنساني الذي كانت هيلين رمزاً له.

العودة إلى زمن الخرافة والجهل: مما لا شك فيه أن الحرب التي دمّرت التعليم قد جعلت الناس يعودون إلى عهود مضت، كانت الخرافة منتشرةً فيها، وهنا يسرد الكاتب كيف أصبحت البدوية المباركة (جدة كنز) وكهفها قِبلة للنساء الراغابات بالإنجاب، وكل من يبحث عن دعوة مستجابة ينتقم بها من خصمه، أو يتداوى من علة عجز عنها الطب.. وكيف أصبحت تتلقى الهدايا والدجاج والسمن والبيض، وحتى التيوس والكباش أصبحت تسال دماؤها أمام الكهف وفاء للنذور من قبل الزوّار، وهكذا أصبح الناس يتباركون بها .

قهر المرأة ومصادرة حقوقها والمتاجرة بها، ومن ذلك عدم مشاورتها في اختيار شريك حياتها، فها هو المزرر يأتي إلى أخته ذات يوم ليقول لها: مبروك، فسألته على ماذا؟ قال وهو يبتسم: قرأنا الفاتحة وبعد أيام ستزفين إلى دارك! وكان ذلك دون علمها أو موافقتها..فهي تقول: لا أريد أن أظهر له رفضي بعد أن أمسى يرى بأنه رجل وأنا مجرد امرأة تابعة، ولست أخته الكبيرة، ولم يعرف بأن صمتي رفض..كما أنّ المرأة تصبح عرضةً للقهر والإذلال خاصة عندما تفقد السند الذي يحميها.

الطبقية الاجتماعية: وهي إحدى المشكلات المستعصية في بلادنا، والتي تقف وراء الكثير من المآسي، فالطبقية المقيتة داء عضال، وهنا تتدخل المرأة التي كانت سمينة، لتحكي بألم وحسرة قائلةً: أفكر وأستغفر الله في تفكيري!

لماذا خلقنا الله نحن النساء، وخلق ما يشقينا؟ لم أذق يوماً حلو الحياة، غير أيامٍ قليلة، منذ وعيت أسمع الناس حولي يتهامسون حين رؤيتي:حلوة لكنها (مجحمية)، حياة أمي ومن أعرف من أقربائنا مسخّرة لإرضاء الرجال، نكنس ونخبز وننظف ونرضع الصغار، فقط مقابل فتات بواقيهم، أو ليرضوا ويقبلوا أن نعيش جوارهم.

هكذا كانت رحلة القراءة مع رواية (أساور مأرب) التي أوجزت تاريخاً من حياة اليمنيين خلال السنوات العجاف التي مضت، وهي رواية ذات حبكة محكمة ولغة رصينة وأسلوب سردي مدهش وعرض جرئ.

وهناك الكثير من القضايا التي تناولتها الرواية، سنترك للقارئ الكريم الغوص فيها، والتنقل بين ثناياها، واستنتاج المزيد القضايا التي تناولها الكاتب، وسعى لكشفها.

ونهنئ الكاتب على هذا الإنتاج المتميز، ونتمنى له التوفيق، ونتمنى للقارئ الكريم أن يستمتع بقراءة هذه الرواية.

من حائط الكاتب على الفيسبوك

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

للاشتراك في قناة موقع يمنات على الواتساب انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى