من دمار أوكلاهوما إلى صرخات غزة ومعاناة اليمن بريشة الأمريكي براين كرلسون

يمنات
محمد المخلافي
في زمن تتزايد فيه انتهاكات حقوق الإنسان وتطفو على السطح مظاهر الظلم بشكل متسارع، يظل الفن بمثابة نافذة حيوية تفتح آفاق التعبير عن السلام والأمل. من قلب شيكاغو الأمريكية، انطلق الناشط الحقوقي والفنان التشكيلي الأمريكي براين كرلسون، محلقًا بلوحاته التي تسلط الضوء على الجوانب المظلمة والدموية من واقعنا المعاصر.
خلال فترة دراسته الثانوية، واجه احتمال التجنيد في حرب فيتنام، ولكنه اتخذ قرارًا شجاعًا برفض هذا المصير، معتبرًا أن المشاركة في الحرب تتعارض مع قيمه الإنسانية العميقة. كانت تلك اللحظة بمثابة نقطة انطلاق لرحلته في مجال حقوق الإنسان، حيث اختار الفن كوسيلة تعبير عن توجهاته وقضاياه.
بعد حصوله على شهادتين في الفن البصري، وجد نفسه في مسار تقليدي كأي فنان عادي، لكنه شعر بخيبة أمل تجاه هذا الطريق الذي بدا له سطحيًا وغير مُلهم. ومن هنا، اتخذ قرارًا حاسمًا بتوجيه أعماله نحو القضايا الاجتماعية الهامة، ليصبح صوتًا يعبر عن المعاناة الإنسانية ويحث على التغيير الإيجابي في المجتمع.
من دمار أوكلاهوما إلى صوت المعاناة
بدأت جهوده الأولى في فنون التعبير في عام 1995، عندما شهد تفجير مبنى اتحادي في مدينة أوكلاهوما، والذي أسفر عن مقتل 168 شخصًا. كان يعيش حينها في تكساس، وعندما سمع عن التفجير، قاد سيارته على الفور نحو المدينة ليشهد الدمار بعينيه. كانت تلك اللحظة قوية ومؤثرة، حيث أدرك حجم المعاناة والفقد الذي خلفه هذا الحادث.
بعد عودته إلى منزله، شعر بأن عليه القيام بشيء أكثر من مجرد مشاهدة الأحداث. قرر أن يبدأ في صنع فن يحمل مضمونًا ذا معنى، يعكس الألم والمعاناة التي شهدها، ويكون صوتًا للذين فقدوا حياتهم. كانت تلك البداية لرحلته الفنية التي سعت إلى التعبير عن القضايا الإنسانية بشكل عميق وملهم.
أبدع جدارية كبيرة تخليدًا لذكرى ضحايا تفجير أوكلاهوما، وعرضها في أماكن متنوعة لتصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس. كما تبرع بها لجامعة أوكلاهوما، التي قامت بدورها بإهدائها إلى المتحف والنصب التذكاري الوطني في أوكلاهوما.
في مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة، بينما كان يعمل مع مجموعة من الفنانين المبدعين، جذبت انتباهه قضية مؤلمة تتعلق بالعنف ضد النساء في مختلف أنحاء العالم. انغمس في دراسة هذا الموضوع بعمق، وقضى عامين في البحث وجمع المعلومات والبيانات، مما أفضى إلى إنشاء عمل فني تفاعلي بارز أطلق عليه اسم “الكتابة على الجدران”.
تجسد هذا العمل في جدار أحادي قائم بذاته، تم طلاؤه من الجهتين بطلاء سبورة ليعكس روح التفاعل والمشاركة. دعا الجمهور في جانب من الجدار لتدوين الإحصائيات التي جمعها حول هذا النوع من العنف، بينما دعا النساء في الجانب الآخر للإدلاء بشهادات قصيرة تعكس تجاربهن مع العنف الذي تعرضن له أو شهدنه في حياتهن اليومية.
كان الهدف من هذا العمل هو زيادة الوعي بالقضية وتوفير منصة للنساء للتعبير عن تجاربهن، مما يسهم في نشر الوعي وتعزيز الحوار حول العنف ضد النساء.
تخليد ذكرى المخفيين
استعدادًا لرحلته إلى الأرجنتين، انغمس في دراسة واقع العنف ضد النساء هناك، وتعلم سريعًا عن سنوات الديكتاتورية الأخيرة بين عامي 1976 و1983. خلال تلك الفترة، اختُطف نحو 30,000 أرجنتيني، وكان معظم هؤلاء من الشباب، حيث كانت العديد من النساء ضمن المختفين، وتعرضن للتعذيب ولاقين مصيرًا مأساويًا.
أثناء إقامته في الأرجنتين للمشاركة في المعرض، دُعي لزيارة “ESMA”، وهي كلية عسكرية سابقة تحولت إلى مركز احتجاز سري. هناك، تم احتجاز حوالي 5000 شخص، ولم ينجُ منهم سوى بضع مئات، بينما قُتل الآخرون ودفنوا في قبور جماعية سرية أو أُلقيت جثثهم في المحيط. تركت تلك الجولة أثرًا عميقًا في نفسه، حيث شعر بالرعب واليأس والألم يتجسد في جدران المكان.
عاهد نفسه على إنشاء نصب تذكاري للمختفين، ورغبته كانت أن يعود به إلى الأرجنتين ليعرضه في “ESMA”، رغم عدم امتلاكه أي فكرة عن كيفية تحقيق هذا الحلم. كانت تلك اللحظة في عام 2007 بداية لرحلة جديدة من الالتزام الفني والاجتماعي.
على مدى سنوات، انخرط في جمع كل ما يمكنه عن تلك الفترة المظلمة، مصممًا على الوفاء بوعده للمختفين. خلال عملية جمع صور الضحايا التي أرسلها له أفراد العائلات والأصدقاء، التقى بآلاف من ذوي الأشخاص الذين اختفوا، مما أضفى على هذا النصب طابعًا إنسانيًا عميقًا، حيث أصبح يحمل قصصًا حقيقية تمتد عبر السنين.
الآن، بعد 13 عامًا منذ أن بدأ مسيرته في تحقيق هذا الهدف النبيل، يشعر بأنه أصبح جزءًا من تلك القصة، وأن فنه يعكس ليس فقط معاناة الضحايا، بل أيضًا الأمل في العدالة.
أكبر نصب تذكاري يدوي في العالم
“أباريسيدوس” هو نصب تذكاري ديناميكي يتشكل وفقًا للأماكن التي يُركب فيها. يتميز بسهولة نقله وسرعة تركيبه نسبيًا، مما يتيح إعداده لفعاليات تستمر لبضع ساعات أو تركيبه في أماكن داخلية لعدة أشهر. هذا النصب التذكاري لا ينتهي، فهو ليس مجرد شيء مادي، بل هو عملية مستمرة وفعل حي. مع وجود 30,000 ضحية، يدرك أن “إنهاء” النصب في حياته أمر مستحيل. لديه حاليًا 3,000 بورتريه مكتمل، ويعتبر، حسب علمه، أكبر نصب تذكاري مصنوع يدويًا من قبل فنان واحد في العالم.
يوجد للنصب نسخة على الإنترنت حيث يمكن رؤية حوالي 1,000 من البورتريهات، وكل صورة عبارة عن زر يمكن النقر عليه لرؤية مزيد من المعلومات عن الشخص المختفي. بالإضافة إلى ذلك، تعمل صفحته على فيسبوك كمدونة تتناول قضايا حقوق الإنسان، وتوفر منصة لمشاركة العديد من المقالات، بالإضافة إلى كونها لوحة إعلانات للإشعارات حول أنشطة حقوق الإنسان.
من المهم الإشارة إلى أنه لا يتلقى أي أموال مقابل صنع هذا النصب، فقد تحمل كافة التكاليف بنفسه ولا يزال. حصل على منحتين صغيرتين ساعدتا في تغطية تكاليف الطيران، لكن لم يكن هناك أي دعم آخر خلال السنوات الثلاث عشرة التي قضى فيها في إنشاء وعرض “أباريسيدوس”.
تضمنت التحديات الرئيسية التي واجهها عدم إجادته للغة الإسبانية، ونقص التمويل، حيث لم يكن لديه منح أو مدخرات كبيرة للاعتماد عليها، بالإضافة إلى العيش على بعد 9,000 كيلومتر من بوينس آيرس.
لوحات فنية تكسر حصار الصمت عن معاناة الفلسطينيين
على مدى السنوات القليلة الماضية، قرر توسيع عمله ليشمل دولًا أخرى، مع التركيز على وقائع حديثة من الإرهاب الحكومي. يهدف هذا التوسع إلى رسم الصلة بين تلك الحقبة التاريخية في أمريكا اللاتينية والأحداث الراهنة، حيث تتشابه الديناميكيات والنتائج بشكل كبير.
في عام 2018، عندما بدأ الفلسطينيون “المسيرة الكبرى للعودة”، وهي مسيرة سلمية نحو السياج الذي يفصلهم عن وطنهم، تعرضوا لمجازر. بدأ في رسم شهداء فلسطين، مع التركيز على الأطباء والصحفيين الذين تم اغتيالهم. وعندما اجتاحت حماس في السابع من أكتوبر، شعر أن ما يتم بثه لم يكن القصة الكاملة، وأن العديد من الروايات كانت مضللة. كانت الديناميكية مشابهة لتفجير أوكلاهوما، حيث سرعان ما أصبح الحديث يدور حول “إرهابيين عرب”، مما أدى إلى انتشار الغضب في الولايات المتحدة.
بدأ التدوين على صفحته بينما كانت إسرائيل تفعل ما توقعه، حيث بدأت حربًا تم الترويج لها على أنها “حرب ضد حماس”، لكنها كانت موجهة ضد 2.3 مليون فلسطيني في غزة، ولاحقًا في الضفة الغربية. قرر أن تكون لوحاته هذه المرة ليست بورتريهات للضحايا، بل مستندة إلى الصور القادمة من غزة، في فعل بصري يهدف إلى “سماع القصة” ونقلها، مع محاولة تكبيرها وتحويل الصور إلى ألوان.
عُرض عدد من اللوحات في السفارة الفلسطينية في بوينس آيرس، وفي معرض فني مؤيد لفلسطين. كما نظمت مجموعة في فنلندا معرضًا للملصقات المستندة إلى الصور، وأيضًا مجموعة في المملكة المتحدة من نشطاء مؤيدين لفلسطين فعلت الشيء نفسه. يظهر ذلك كيف يمكن للفن أن يكون جسرًا للتواصل بين الثقافات والأفكار.
خلال تواصله مع المزيد من الفلسطينيين، التقى بطبيب فلسطيني كان يعمل في مستشفى ناصر في خان يونس. إنه بطل حقيقي؛ فقد أُجبر على مغادرة منزله في شمال غزة بعد أن تعرض عمله في مستشفيات مختلفة للاقتحام، بما في ذلك مستشفى الشفاء. تم تدمير منزله، وقُتل 25 من أفراد عائلته، لكنه تمكن من الوصول إلى الجنوب وأصبح مدير قسم جراحة التجميل والحروق في مستشفى ناصر، الذي كان بالطبع تحت الحصار وتعرض للهجوم. تعرف عليه بفضل صورة نشرها لجراحة كان يجريها باستخدام ضوء فلاش هاتفه الذكي. عندما سأله إن كان بإمكانه عمل لوحة مستندة إلى صورته، وافق على الفور، وسرعان ما أصبح أخًا جديدًا له يتواصل معه بشكل يومي.
بورتريهات تعكس معاناة اليمنيين
فيما يتعلق بالوضع في اليمن، كان يتابع بانتظام نشر المقالات حول الأزمة الإنسانية هناك. تأثر بشدة ببعض الصور المؤلمة التي شاهدها، والتي عكست معاناة الشعب اليمني، واستند إليها في لوحاته التي تجسد واقعهم الأليم. لم تكن هذه الأعمال مجرد تعبير عن الألم، بل كانت صرخة من أجل الوعي والتضامن.
أسهمت هذه التجربة أيضًا في إقامة روابط مع بعض اليمنيين المقيمين في الخارج، خصوصًا في أوروبا، حيث تعرف على مجموعة من الفنانين والممثلين الذين يشاركونه نفس الهموم. لم تمنحه هذه الروابط فرصة للتواصل مع معاناتهم فحسب، بل أضافت بعدًا إنسانيًا عميقًا لأعماله، مما جعله يشعر بأنه جزء من قصة أكبر.
لا شك أن الكثيرين في اليمن يظهرون شجاعة مذهلة، وولاءً عميقًا لعائلاتهم ومجتمعاتهم، وجذورهم راسخة في الأرض التي نشأوا عليها. إن قدرتهم على الاحتفاظ بالأمل في ظل الظروف الكارثية التي يعيشونها تعكس قوة لا تُضاهى. لقد عايشت إيمانهم بالله، الذي لمسته بين الأشخاص الذين أعرفهم أو الذين حظيت بلقاءهم، وهو إيمان يتجاوز حدود التجربة الإنسانية العادية.
إن الشعبين الفلسطيني واليمني يمثلان نماذج ملهمة تُضيء دروب الأمل لمستقبلنا. إن قصصهم تعلّمنا أن الصمود يمكن أن يتجلى في أبهى صوره، حتى في أحلك الأوقات. إنهم يذكروننا بأن الإنسانية تتجلى في أسمى معانيها عندما نتمسك بتراثنا ونواجه التحديات بشجاعة وإيمان.
دعوة للتفكير في هويتنا المشتركة
يسعى حاليًا للبحث عن أماكن لعرض جميع لوحات غزة، وهي مجموعة كبيرة من الصور المؤثرة المستندة إلى أحداث حقيقية تجري في الوقت الراهن. يشعر بإلحاح دائم لعرض هذه الأعمال بأوسع شكل ممكن، لكي تصل رسالتها إلى أكبر عدد من الناس.
لا يمكنه تحمل تكاليف شحن اللوحات بمفرده، لكنه عمل على جعل هذا الأمر غير مكلف نسبيًا. فمعظم اللوحات ليست مؤطرة، بل يمكن لفها وتعليقها ببساطة من قضيب أو عصا، مثل اللفائف. هذا الخيار لا يسهل النقل فحسب، بل يعكس أيضًا طبيعة الأعمال الجمالية التي يقدمها.
تعلم أن البشر ليسوا منقسمين بطبيعتهم، ولا يمكن تقسيمهم بأي شيء مادي، سواء كان ذلك بالنسب أو العرق أو الدين أو مكان الولادة. نحن في الغالب مقسومون بسبب حفنة من الأشخاص الذين يتبوؤون السلطة، وينشرون الخوف، ويشعلون النزاعات، ثم يدّعون أنهم الحل لتلك الانقسامات التي أنشأوها. ببساطة، نحن عائلة واحدة. هذه هي قناعته الأساسية، وهي حقيقة تؤكدها العلوم؛ فأسلافنا كانوا من نفس النوع.
ختامًا، يتجلى لنا أن الفن، في جوهره، ليس مجرد تعبير عن الجمال أو الإبداع، بل هو قوة نابضة تحمل بين طياتها معاني الإنسانية والعدالة. رحلة براين كرلسون، التي انطلقت من عمق الألم والمعاناة، تبرز كيف يمكن للفنان أن يصبح صوتًا للمظلومين، وأن يتحول الألم إلى أمل. من خلال أعماله، لا يسلط الضوء فقط على جراح الماضي، بل يبني جسورًا للتواصل والتفهم بين الثقافات المختلفة، مؤكدًا أن الإنسانية تتجاوز الحدود والقيود. إن “أباريسيدوس” يمثل تذكيرًا دائمًا بأن الذكرى ليست مجرد حنين، بل هي دعوة للعمل من أجل عالم أفضل، حيث يسود السلام والعدل، ويحتفظ كل فرد بمكانه تحت خيمة حقوق الإنسان.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا
للاشتراك في قناة موقع يمنات على الواتساب انقر هنا