أخبار وتقاريرأدب وفنأهم الأخبارالعرض في الرئيسة

قراءة تحليلية لنص “الهروب إلى الأمام” لـ”أحمد سيف حاشد”

يمنات

قراءات تحليلية متعددة المستويات لنص «الهروب إلى الأمام» للكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد، والمنشورة في كتابه “فضاء لا يتسع لطائر”. 

أنجزت القراءات باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدية في تنظيم الأفكار، واستخلاص البنى الدلالية، ومقارنة الخطابات.

قراءة أدبية تأملية في النص

توطئة

يمتلك أحمد سيف حاشد صوتًا أدبيًا نادرًا يجمع بين العمق الإنساني والجرأة الفكرية. يكتب لا ليحكي فحسب، بل ليوقظ الوعي، ويجعل من التجربة الفردية بابًا لفهم المصير الجمعي.

في نصه «الهروب إلى الأمام» تتجلى قدرة حاشد على تحويل الوجع الشخصي إلى تجربة فكرية وجمالية، وعلى مزج السرد بالتأمل في لغة شفافة تفيض بالصدق والحكمة.

هو كاتب ينتمي إلى الإنسان قبل أن ينتمي إلى أي تيار أو أيديولوجيا، يكتب بعين المفكر وقلب الشاعر، ويصوغ من الألم جمالًا، ومن الخسارة وعيًا جديدًا.

يمارس حاشد نقداً ذاتياً وشعبياً وسياسياً دون انفعال شعاري، ما يعكس نضجاً في الرؤية ومسؤولية فكرية نادرة.

إن نصه هذا ليس مجرد حكاية عن طفولة، بل مرآة كبرى لليمن والإنسان العربي في بحثه المستمر عن ذاته بين الخوف والحلم والنجاة. إنها رؤية تتجاوز السيرة إلى نقد ثقافة الهروب والتبرير في الفكر العربي المعاصر.

دلالة النص

يقدّم حاشد في نصه «الهروب إلى الأمام» تجربة إنسانية مفعمة بالرمز والدلالة، تجمع بين السيرة الذاتية والتأمل الفلسفي في واقع الفرد والجماعة.

والنص لا يكتفي بسرد واقعة طفولية بسيطة، بل يحوّلها إلى مرآة كاشفة لمأزق إنساني عام يعيشه الإنسان اليمني والعربي في علاقته بالخطأ والخوف والمصير.

من خلال حكاية تأخر طفل عن الطابور المدرسي، تتولّد شبكة من المعاني حول الهروب من المسؤولية، وتنامي الخوف، والتورط في أزمات متراكمة، تشبه إلى حد بعيد سلوك المجتمعات التي تخشى المواجهة وتختار تأجيل الألم على تحمّله.

البنية السردية والرمزية

يعتمد النص على السرد الذاتي في شكل اعتراف طفولي يتحوّل تدريجيًا إلى رؤية فلسفية. يبدأ من موقف شخصي بسيط، لكنه ينفتح على أفق رمزي واسع يعبّر عن مأزق وطني وإنساني.

وهذا الانتقال من الخاص إلى العام، ومن الفردي إلى الجماعي، يعكس نضجاً فنياً ووعياً فكرياً بالترابط بين التجربة الذاتية والمصير الجمعي.

الحجرة الصغيرة التي يختبئ فيها الطفل فوق زريبة الجار تتحول إلى فضاء رمزي للانكماش والخوف والعزلة، بينما تمثل المدرسة صورة للسلطة والمحاسبة والمجتمع الصارم.

وفي هذا التناقض بين الخوف من العقاب والرغبة في النجاة تتشكل مأساة الإنسان اليمني الذي يعيش بين الخضوع والتمرد، وبين الندم والهروب.

وهكذا تتحول الواقعة الشخصية إلى استعارة وطنية عميقة عن الهروب الجماعي من مواجهة الحقيقة وتحمل المسؤولية.

وفي النص يوظف حاشد الرمز ببراعة دون افتعال، فالهروب من العقوبة الأولى يصبح استعارة للهروب من مواجهة الحقيقة، ومن استحقاقات الدولة والحرية والعدالة.

إنها رمزية إنسانية وسياسية في آن، تُعطي للنص بعداً فلسفياً يتجاوز حدود المكان والزمان.

اللغة والإيقاع والصور

لغة أحمد سيف حاشد في هذا النص تتصف بالصفاء والصدق، وهي مزيج من التجربة الشخصية والوعي الشعري.

الجمل الطويلة المتدفقة تشبه تيار الوعي الذي يسرد الذات في حالة قلق دائم، والصور الحسية في النص ليست مجرد زخرفة بل تعبير عن زمن نفسي ثقيل، حيث يتحول الخوف إلى ثقل مادي يضغط على الجسد والروح معًا.

يتضح ميل الكاتب إلى الاقتصاد اللغوي الممزوج بالتكثيف الشعري، حيث تحضر الصورة بوصفها وسيلة تفكير لا تزيين.

ويمكن للباحثين دراسة العلاقة بين هذا النص وأسلوب “الاعتراف السياسي” في الأدب العربي الحديث.

التوازن بين الأدب والفكر

يتميز النص بقدرته على دمج الجمالي بالسياسي دون أن يفقد أحدهما عمقه. فالكاتب لا يتحدث من موقع المراقب، بل من موقع الفاعل الذي عاش الخوف في الطفولة كما عاش خيبات السياسة في الكهولة. ويتحول النص إلى شهادة وجدانية تمثل ذاكرة وطنية لجيل بكامله.

النص ينتقل من السرد الواقعي إلى التأمل السياسي بانسيابية طبيعية، لا تبدو مفتعلة أو مقحمة، ما يجعله نموذجًا فريدًا لما يمكن تسميته بـ“الأدب الشاهد”، الذي يوثق بالوجدان لا بالوثيقة.

البعد الوجودي والرمزية الوطنية

في النصف الثاني من النص، يتحول السرد من الحكاية الذاتية إلى خطاب جمعي، لتصبح تجربة الطفل رمزًا للوطن كله.

وهنا يتحول الهروب من عقوبة المدرسة إلى صورة للهروب السياسي والاجتماعي الذي تعيشه القوى والنخب اليمنية، من أزمة إلى أخرى، ومن فشل إلى فشل أكبر.

يكتب حاشد وكأنه يرسم خريطة الانحدار الوطني من الدولة إلى “اللا دولة”، ومن الحلم إلى الخراب.

ويختتم نصه بالنكتة الشعبية الشهيرة: «اتركوا التيس واربطوا جمعة»، التي تتحول في يده من نكتة إلى رمز ساخر للحماقة الجماعية التي تستبدل الفاعل بالضحية، والمشكلة الحقيقية بالوهمية. إنها نكتة تُضحك وتبكي في آن واحد، وتلخص مأساة وطن يعيد الخطأ ذاته مرارًا وهو يظن أنه يتقدّم.

التناص الشعبي والبلاغي

إدخال النكتة اليمنية في نهاية النص (قصة التيس وجمعة) يمثل ذكاء بلاغياً، إذ تُختتم الفكرة العميقة بأسلوب شعبي ساخر يُكثّف المعنى ويجعله قريباً من المتلقي العام.

وهذا الدمج بين الحكمة الشعبية والتحليل الفكري يمنح النص أصالة محلية وروحاً ساخرة تخفف من قتامة الموضوع.

والسخرية هنا ليست للضحك، بل هي أداة وعي، تُعيدنا إلى جوهر المفارقة في السلوك الإنساني واليمني على السواء.

تكثيف تأملي

يمثل «الهروب إلى الأمام» نصاً فريداً في الكتابة اليمنية الحديثة، لأنه يجمع بين الصدق الذاتي والوعي الجمعي، ويعيد بناء العلاقة بين الأدب والسياسة من داخل التجربة الإنسانية.

إنه نص عن الخوف بوصفه أصل العطب، وعن الهروب بوصفه جوهر الفشل، لكنه أيضاً نصّ ينهض من رماد الذاكرة ليذكّر بأن الاعتراف هو أول أشكال الشجاعة

تذكير

إن «الهروب إلى الأمام» ليس مجرد نص عن الخوف والطفولة، بل عن الإنسان في لحظة عجزه الكبرى أمام ذاته وتاريخه.

وفي النص يذكّرنا أحمد سيف حاشد بأن مواجهة الحقيقة مهما كانت مؤلمة، هي الخطوة الأولى نحو النهوض الفردي والجماعي.

وأن الهروب لا يُنقذ، بل يؤجل السقوط. والاعتراف بالخطأ ليس ضعفًا، بل هو فعل شجاعة يعيدنا إلى إنسانيتنا الأولى.

من خلال لغة شفافة ونَفَسٍ تأملي صادق، يحوّل الكاتب تجربته الخاصة إلى مرآة لليمن والعالم العربي، في رحلة طويلة من الخوف إلى الوعي، ومن الألم إلى البصيرة.

إنها دعوة للعودة إلى الذات قبل أن نغترب عنها أكثر، وللتحرر من الخوف بوصفه أول أشكال العبودية

تأمل ومقارنة

ما يميّز نصّ أحمد سيف حاشد هو انفتاح الذات على التاريخ، وكيف حول الاعتراف الطفولي مرآة لمأزق وطني؛ وهي سمة يتشاركها معه عدد من الروّاد الذين جعلوا من الفرد بوابة لفهم الجماعة. 

يكتب أحمد سيف حاشد في «الهروب إلى الأمام» نصًا يجمع بين الاعتراف الفردي والرؤية الجمعية، بين سيرة الطفولة ووعي الوطن. تجربة صغيرة تتحول في يده إلى استعارة كبرى لمأزق الإنسان اليمني والعربي، حين يهرب من الحقيقة إلى الوهم، ومن المواجهة إلى التبرير.

وفي هذه الزاوية الإنسانية يلتقي حاشد مع طيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، فكلاهما يحوّل التجربة الذاتية إلى مرآة للصراع بين الداخل والخارج، بين الخوف والرغبة في التجدّد. غير أن حاشد يتجه نحو البساطة الاعترافية، بينما يبني صالح رموزه على طبقات من الغموض والاغتراب.

أما عبد الرحمن منيف فيستدعي المقارنة من باب الوعي السياسي؛ فكما ترصد «مدن الملح» تهاوي الدولة وانكسار القيم، يلمّح حاشد إلى الانحدار ذاته من موقع التجربة الشخصية. عند منيف الفساد بنية، وعند حاشد هو خوف متوارث وسلوك يومي، كلاهما وجهان لمأزق واحد.

يشارك نجيب محفوظ “حاشد” في حسّ الشهادة اليومية؛ فالمشهد البسيط في النص يصبح وثيقة للزمن، واللغة الشفافة أداة تأمل لا تزيين. غير أن حاشد أكثر قربًا من البوح الداخلي، بينما محفوظ يرسم الكلّ عبر تنوع الشخصيات والمكان.

وفي العمق الفكري، يذكّرنا نصّ حاشد بروح إدوارد سعيد وعبد الله العروي؛ إذ لا يكتفي بوصف الهروب، بل يلمّح إلى جذوره الثقافية والسياسية: كيف تصنع السلطة الخوف وتربّي التبرير في الوعي العام. إنه نقد للإنسان والنسق معًا.

أما البعد الشعري الذي يتخلل النص فيقارب تجربة أدونيس حين يحوّل الألم إلى طاقة رمزية. لكن حاشد يبقي الشعر في خدمة الفكرة، فلا ينفصل الوجدان عن الفكر، ولا الرمز عن الواقع.

وهكذا يتجاور الجميع في فضاء واحد: صوتٌ يحاول تحويل الوجع إلى وعي، والسرد إلى مرآة للضمير الجمعي.

إيجاز مقارن

وفي النص يلتقي حاشد، من حيث لا يقصد، مع أرواح كتّابٍ كـ الطيب صالح وعبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ وإدوارد سعيد، إذ يشترك معهم في قلق السؤال عن المعنى، وفي البحث عن خلاصٍ لا يأتي إلا بالوعي. لكنه يحتفظ بصوته الخاص، صوتٍ يكتب من رماد التجربة ومن وهج الإيمان بالإنسان، فيحوّل الهروب إلى مرآةٍ للشجاعة المؤجلة، والألم إلى نافذةٍ على ضوءٍ آخر.

وما يربط حاشد مع “صالح، منيف، محفوظ، سعيد، العروي، أدونيس” هو رغبة واحدة، هي: تحويل الألم إلى وعي، وتحويل الذاكرة إلى فعلٍ يُعيد للحياة معنى ويعيد للسياسة غرضها الإنساني.

قراءة سوسيولوجية

يقدّم أحمد سيف حاشد في هذا النص سردية ذاتية ذات طابع اعترافي، لكنها لا تقف عند حدود التجربة الفردية، بل تتحول إلى نموذج تفسيري للظاهرة الاجتماعية والسياسية في اليمن. 

والنص في بنيته يشبه ما يسميه علم الاجتماع التمثيل الميكروي للمأساة الماكروية: أي استحضار حادثة شخصية بسيطة تُستخدم كعدسة مكبرة لفهم بنية الوعي الجمعي والعلاقات السلطوية وآليات إنتاج المأزق الاجتماعي.

العقاب كمنظومة اجتماعية

يُظهر النص البيئة التعليمية والأسرة كأنظمة ضبط اجتماعي قاسية. التأخر عن الطابور ليس مجرد مخالفة زمنية، بل فعل يستدعي العقوبة بوصفها أداة لتشكيل السلوك. غياب الحوار وتفكك الوسائل التربوية يحول الخطأ إلى خوف، والخوف إلى هروب، والهروب إلى تراكم مأزق.

زهنا يتجلى ما يسميه علم الاجتماع بـ “عنف التنشئة”، حيث يتم بناء الانضباط لا من خلال التوعية، بل من خلال التخويف والتهديد.

آلية النص

و”الهروب إلى الأمام” ليس فعلاً عشوائياً، بل آلية دفاع اجتماعية تظهر عندما يغيب الأمل في حل معقول أو آمن. والطفل الذي يخشى العقاب لا يواجه الخطأ الأول، بل يضاعفه. وهذه الآلية نفسها تتكرر على مستوى الجماعة السياسية، من خلال: تجنّب مواجهة الأخطاء، واستبدال الحلول الجذرية بقرارات ترقيعية، والانتقال من أزمة صغيرة إلى كارثة بنيوية.

والناتج هو منطق الانحدار التراكمي: حيث يصبح الزمن ذاته عامل تفاقم لا عامل حلول.

الحجرة كنموذج رمزي

الحجرة فوق “زريبة البقرة” تمثل فضاء الهروب، لكنها تتحول إلى سجن ذاتي.

هذه الصورة الرمزية تصلح لوصف ما يسميه علماء الاجتماع بـ “الحبس الجمعي المتخيّل”، حيث المجتمع يعيش في دائرة أزمة يعلم أنها خانقة ولكنه يبقى فيها لأنه فقد الثقة في البديل.

والحجرة هنا معزولة وكئيبة، وجدرانها ضيقة، ونافذتها محدودة. وهي صورة مكثفة لـ الوطن في حالة الحرب والانقسام.

من الفرد إلى الجماعة

ينقل حاشد التجربة من مستوى الطفل إلى مستوى” الأحزاب، النخب، القوى المسلحة، الدولة، الناس العاديين” ليصوغ أطروحته المركزية:

إن الأزمة اليمنية ليست مجرد صراع مصالح أو صراع قوى، بل بنية هروب جماعي من الاعتراف بالخطأ والمسؤولية التاريخية.

الدولة كخسارة رمزية

يتتبع النص التحوّل من: الدولة الممكنة إلى الدولة الفاشلة إلى بقايا الدولة إلى اللاحالة/اللاقانون / اللاحرب واللاسلم

وهذا المسار يعبر في علم الاجتماع السياسي عن تفكك العقد الاجتماعي، حيث لا تعود الدولة مرجعاً شرعياً، بل مجرد ساحة تنازع قوى.

نكتة “اربطوا جمعة”

النكتة ليست مجرد تزيين بل أداة تحليل اجتماعي.

هي نموذج لما يسميه علم الاجتماع الرمزي: سوء تقدير الأولويات و استبدال المشكلة بمشكلة أخرى.

النخب السياسية، وفق نص حاشد، لم تربط “التيس” (جذر الأزمة)، بل انشغلت بربط “جمعة” (نتيجة الأزمة)، فتحولت المعالجة إلى توليد أزمات جديدة أشدّ عنفاً.

تكثيف سوسيولوجي

النص يتبنى رؤية انتقادية ترى أن: الأزمة اليمنية ليست وليدة اللحظة بل نتاج تراكم تاريخي في الذهنية الاجتماعية، حيث يتحول الخطأ الصغير إلى كارثة لأن المجتمع لا يملك ثقافة الاعتراف ولا بنية المساءلة ولا مؤسسات عقلانية قادرة على إدارة الخلاف.

وبعبارة مكثفة: حاشد يقدّم اليمن من خلال النص بوصفه مجتمعاً يهاب المواجهة، فيصنع أزماته بأيدي أبنائه، ثم يهرب منها إلى أزمات أعمق.

البعد السياسي في النص

النص في جوهره ليس مجرد اعتراف ذاتي أو استدعاء لطفولة بعيدة؛ إنه تشخيص سياسي للبنية العميقة للأزمة اليمنية منذ ما قبل الحرب وحتى لحظتها الراهنة.

وفي النص يستخدم أحمد سيف حاشد حادثة شخصية صغيرة كـ”نموذج مصغر” لفهم آلية اتخاذ القرار على مستوى النخب السياسية والدولة والمجتمع. وهنا نلاحظ انتقال السرد من تجربة فردية إلى خطاب سياسي نقدي يعيد قراءة مسار الدولة اليمنية خلال العقود الأخيرة.

العقاب المؤجل بوصفه سياسة دولة

فكرة “الخوف من الاعتراف بالخطأ” تشير إلى بنية سياسية اعتادت تأجيل الأزمات بدل حلّها.

والنظام السياسي اليمني لعقود كان يبني شرعيته على إدارة التناقضات وليس حلّها، وعلى إبقاء مؤسسات الدولة في حالة هشاشة تسمح بالسيطرة عليها برأس واحد.

وهذا أدى إلى: تآكل الثقة بين المجتمع والدولة، وغياب مؤسسات المساءلة، وتفاقم الأخطاء الصغيرة إلى انهيارات كبرى. 

وبالتالي فإن ما حدث للطفل في “الحجرة” هو صورة الدولة داخل حجرة اللاحل.

من الدولة الممكنة إلى اللا دولة

يفكك حاشد في النص المراحل السياسية بوضوح عبر لغة تراكمية: شبه دولة، دولة فاشلة، بقايا دولة، الحرب، اللاحرب، واللاسلم. 

وهذا التسلسل يمثل ما يسميه علم السياسة بـ “انهيار العقد السياسي”، حيث تفقد الدولة: احتكار العنف، وحدة القرار، شرعية السلطة، القدرة على تقديم الخدمات. 

وبذلك تتحول الدولة من “فاعل منظم” إلى “مساحة نزاع”.

الهروب إلى الأمام كمنهج حكم

حاشد حول النص الى مرآة للسياسة اليمنية، التي تلتف على الإصلاحات السياسية، وتفادي معالجة ملفات الجيش والدولة العميقة، تأجيل العدالة الانتقالية، ودمج القوى المتصارعة دون إعادة هيكلة. 

والنتيجة أن كل تأجيل كان ينتج أزمة أعمق من سابقتها. تماماً كما يفعل الطفل: ” يتجنب العقاب الأول فيهرب إلى عقاب أكبر”. 

النخب السياسية بوصفها “جمعة” في النكتة

في النكتة التي يختم بها حاشد نصه، تتحول الجهود من حل المشكلة الأصلية (التيس) إلى صراع جانبي (جمعة).

وهذا يعكس: الانشغال بالصراع على السلطة لا ببناء الدولة، والتركيز على الخصم الأقرب لا على القضية الأعمق، وصناعة أعداء دائمين بدل صناعة حلول. 

والنخب في النص لا تواجه الأزمة، بل تواجه بعضها.

البعد الإقليمي والدولي

يشير حاشد إلى تحول: صراع داخلي، إلى صراع إقليمي، ثم إلى صراع دولي. 

وهذا يشير إلى فقدان القرار الوطني، حيث تتحول البلاد إلى: ساحة نفوذ، ومجال تنازع قوى، لا فاعل مستقل. 

وبذلك تنتقل السياسة من مشروع دولة إلى شبكات جماعات مفككة مرتبطة برعاة خارجيين.

إيجاز سياسي

في النص يقدّم حاشد قراءة سياسية يمكن إيجازها في: 

إن الأزمة اليمنية ليست أزمة حدث، بل أزمة بنية سياسية وثقافية في إدارة السلطة والنزاع.

الهروب من مواجهة الأخطاء السياسية الأولى قاد الدولة اليمنية إلى التحول من دولة ناشئة إلى ساحة حرب دائمة، لأن النخب اختارت إدارة الخلاف بالعنف والتأجيل بدل الإصلاح والاعتراف والمسؤولية.

***

نص “الهروب إلى الأمام” 

أحمد سيف حاشد

في أحد أيام مستهل عهد دراستي الأول، تأخرتُ عن الطابور المدرسي، وخشيتُ من العقوبة التي سيتخذها أستاذ المدرسة ضدي، وبدلاً من أن أذهب إلى المدرسة، ذهبتُ إلى حجرة فوق زريبة بقرة جارنا مانع سعيد.

كانت تلك الحُجرة بمثابة نُزُل مخصص لاستقبال الباعة المتجولين الغرباء، والذين يقضون فيها يوماً، أو يومين إن طال بهم المقام، وأغلب الأحيان تظل فارغة لأسابيع دون نزيل.

هربتُ من عقوبة التأخير من الطابور الصباحي إلى ورطة أشد منها، وهي الغياب عن المدرسة كلها ليوم كامل.. هكذا وجدتُ نفسي أوغل أكثر في ورطتي تلك، أو أنتقل من ورطة إلى أخرى أكبر منها.

في اليوم الثاني، ذهبتُ إلى نفس الحُجرة، وتكرر المشهد في اليوم الثالث والرابع، لأجد نفسي كل يوم أدخل في ورطة أكبر وأشد وخامة عمّا قبلها.

كل يوم يمر أشعر أن ورطتي تتعاظم، وتوقّعي للعقاب يكبر بالموازاة مع استمرار غيابي من المدرسة.. وكلّما زاد تغيُّبي انتابني خوف وهلع، واعترتني خشية كبيرة من عقوبة أشد إيلاماً، حتّى تبدّت لي في اليوم الرابع أنها ستكون فادحة.

لقد افتقدتُ الشجاعة من اليوم الأول في تحمُّل مسؤولية ونتيجة الخطأ الأول، فظل هذا الخطأ يكبر ويتسع، ومعه كانت العقوبة المؤجلة تكبر على نحو موازٍ للخطأ.

ست ساعات في اليوم أقضيها في تلك الحُجرة الكئيبة.. كان الحال عصيباً والساعات ثقيلة، وقد أحسست بوزنها القاتل، وأنا أنسحق تحت دواليبها، وكأن قطاراً يمر على جسدي المُنهك.. غير أن الشجاعة ظلّت تخونني في الاعتراف بالخطأ والاستعداد لتحمل المسؤولية!!

كانت الساعات تمر بطيئة بطء السلحفاة في أرض لا تخلو من وعورة.. ساعات مملة ورتيبة.. لم أكن أعرف مسبقاً أن تلك الساعات ستكون على تلك الصورة التي عشتها، أو على ذلك النحو من البطء والرتابة، حتّى وإن كنت أراها في الوقت نفسه أقل وطأة من عقاب ينتظرني ظل يشتد ويزداد مع كل يوم يمر، وربما صار يفوق احتمالي.. إنه الهروب إلى الأمام، ومن فادح إلى ما هو أفدح.

كنتُ أحاول أن أخفف من وطأة رتابة تلك الساعات بالنظر إلى الفضاء المقابل والمحصور بزوايا النافذة الصغيرة التي يطل منها نظري بحذر وتخفًّ.

كل يوم يمر في تلك الحجرة التي اخترتها حبساً اختيارياً، أعاني منها وأُنهك لمدة ست ساعات من الانتظار ونزيف الروح.

أشاهد جزءاً صغيراً من الوادي الذي تشرف عليه تلك النافذة.. أمعن النظر في الذاهبين والآيبين فيه، وكلما سمعت صوتاً ما في الجوار القريب أنتفض مرتاباً لأرقب من شقوق الباب ماذا يحدث خارجه, وكلّي توجّس وقلق من انكشاف أمري ومخبئي..!!

ربما أيضاً في بعض الأحيان وبدافع الفضول وحب استطلاع للجهة المقابلة لباب الحجرة المصنوع من الألواح والصفيح، يطل نظري المحبوس من شقوق الباب، وأحياناً بدافع التنزه وتفريج الضيق، أجد نظري يجول بحذر هنا وهناك، ويشتد محبسي مع مرور الوقت الزاحف ببطىء، ويشتد الوقت بطئاً كلما طال وقت الانتظار.

في اليوم الخامس انكشف أمري وفضحني السؤال، حيث سمعت الأستاذ يسأل أبي عن سبب غيابي المتكرر.. فأجابه والدي بدهشة مصدوم أنني أذهب كل يوم للمدرسة، وما إن تنامى هذا إلى مسمعي هرعتُ إلى المدرسة هرولة، وأدركتُ حينها أن الفأس قد وقع في رأسي، وأن أمري قد انكشف وافتضح، ولابد أن أستعد لدفع ثمن باهظ من الألم دفعة واحدة لا أعلم مقدارها، ولا أعلم قدرة تحمّلي لها.

* * *

ربما كنتُ يومها معذوراً لأنني مازلتُ طفلاً لم أرشد، بل لم أصر حدثاً بعد في بيئة شديدة القساوة، وتفتقر للحد الأدنى من الثقافة التربوية ووسائلها المصاحبة، بل كانت جلّها معكوسة، ووسائلها جافة أو مشوهة أو غير متوفرة أصلاً.

اليوم الهاربون إلى الأمام باتوا أفراداً وأرتالاً وجماعات.. تبدّل الحال عن أمسه وانقلب رأساً على عقب.. بات الهروب إلى الأمام مألوفاً ومعتاداً.. صار الهروب من ورطة إلى أشد لا تقتصر على طفل مثلي، بل وتتمدد إلى الأحزاب والقوى السياسية والثورات بل والشعوب أيضاً.

إنها ليست قصتي فحسب، بل هي قصة اليمن كلّها، وشعبها برمته.. قصة القوى والنخب والأحزاب التي هربت إلى الأمام من سيء إلى أسوأ، ومن الأسوأ إلى الكارثة، ومن الكارثة إلى الأكثر كارثية.. من صراع داخلي، إلى إقليمي، ثم إلى دولي شديد التعقيد..!

ما حدث كان ردة فاجعة عن حلم واستحقاق الدولة إلى أللادولة.. هروباً حد الذعر من استحقاق وحلم الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية إلى حرب لا تريد أن تضع أوزارها، وقد عشنا عامها السابع من العبث والنزيف، ولا أسوأ منها إلا ما تلاها من فقر وسحق وتكريس لمخرجات الحرب.

استمر التراجع والنكوص من شبه الدولة، إلى الدولة الفاشلة، ثم إلى بقايا الدولة، ووصولاً إلى أللادولة.. تقزمت أحلامنا وتلاشت إلى ما لا كان يخطر على عقل ولا بال.

انتقلنا من الاختلاف، إلى الخلاف إلى الصراع ودورات العنف المتكررة، ثم إلى حرب ضروس، تواشجت مع حروب داخلية وخارجية مريعة وفاجعة.

انتقلنا من الاحتجاج السلمي إلى معارك شتّى، ثم إلى حرب طويلة، أو من لا حرب إلى حرب ضروس، ثم إلى حروب متعددة لا تبقي ولا تذر.

ما حدث ويحدث يُذكّرني بتلك النكتة اليمنية بامتياز، والتي خلاصتها “اتركوا التيس واربطوا جمعة”. تقول تلك النكتة المتداولة:

دخل تيس إلى الغرفة، وكان الأب يتعشى مع أولاده. 

قال الأب لابنه الأكبر: قم يا جمعة اربط التيس بسرعة حتّى لا يركضنا.

قام جمعة مستعجلاً، فخبط رأسه باللمبة المعلقة وكسرها، فصار البيت مُعتماً، ولم يعد جمعة يرى شيئاً..!! فوقعت إحدى قدميه في صحن الأكل، فانقلب الصحن، ونثر ما بداخله من أكل على الارض.. فقفز جمعة المذعور، وجاءت رجله اليسرى في بطن الأب، واليمنى بجبهته!!!

فصرخ الأب في أولاده: يا عيال.. خلوا التيس واربطوا جمعة!!

ما أكثر جُمعنا اليوم.. جُمعنا كانت رغم سوئها أفضل مما هي عليه.. ربما كانت لا تخلو من طيب ومسك وتسامح، فصارت اليوم رصاصاً وموتاً وباروداً وفقداناً.. ما أكثر جُمع أيامنا، وما أشبه حالنا بنُكتنا التي تبعث على السخرية اللاذعة، والمرارة المقذعة، والألم الأشد. 

ما حدث ويحدث بات يفوق بكثير احتمال وصبر اليمن، وهو واقع بات حاصلاً وما كان ليخطر على بال أو خيال.

* * *

زر الذهاب إلى الأعلى