أدب وفنأهم الأخبارالعرض في الرئيسةفضاء حر

مجيدة محمدي بين الشعر والمقال والإبداع

يمنات

محمد المخلافي

الشاعرة والكاتبة التونسية مجيدة محمدي تُعدّ من الأصوات الأدبية الصادقة في المشهد العربي المعاصر. كتابتها تنبع من تجربتها الشخصية ومشاعرها تجاه الحياة، دون أي تصنع لغوي، ولغتها واضحة وسهلة القراءة، لكنها تحمل عمقًا يسمح للقارئ بالاتصال بما تكتبه.

خلال حديثي معها عبر الماسنجر، تحدثت عن علاقتها بالكلمة وفلسفتها في الكتابة، التي تراها وسيلة لفهم الذات والعالم، وطريقة للتعامل مع الحزن وترتيب المشاعر. قالت:

“أنا أكتب لأني لا أستطيع الصمت. الكلمة تنقل ما لا تستطيع الأصوات قوله. أبحث عن معنى في اللغة، عن لمحات صغيرة تجعل الليل أقل ظلمًا. أكتب لترتيب مشاعري، ولأعطي للحزن شكلًا يمكن رؤيته بطريقة مختلفة. في كل نص، أضع جزءًا مني، وأترك نصي يتحرك كما يشاء بين السطور.”

الكتابة بالنسبة لها ليست نقل فكرة، بل تجربة حياة كاملة، يشارك فيها الكاتب والقارئ معًا. الأدب كان حاضرًا منذ طفولتها، فقد نشأت في بيت يقدّر الكلمة ويحبها. تقول:

“الحب للأدب جزء من تربيتنا، لكنه الشغف الشخصي هو ما يعطي للحرف حياة.”

القراءة المستمرة شكلت لديها مخزونًا لغويًا وثقافيًا، وكل كتاب فتح أمامها نافذة جديدة على العالم وفهم الناس والحياة. الكتابة جاءت لاحقًا كامتداد طبيعي للقراءة، وطريقة لاكتشاف الذات والتعبير عن التجربة الإنسانية.

مجيدة تكتب الشعر والمقال معًا، لكنها لا تفصل بينهما، فهي ترى أن الفكرة هي التي تحدد شكل النص. قالت:

“الفرق بين كتابة القصيدة والمقال ليس في الانفصال، بل في الطريقة التي تتشكل بها الفكرة.”

في الشعر، تمنح العاطفة اللغة زمام القيادة، بينما يحتاج المقال إلى وضوح وتنظيم للأفكار، لكن كلاهما ينطلق من نفس الرغبة: تحويل التجربة الإنسانية إلى معنى. الشعر أقرب إلى القلب لأنه ينبع من الداخل، من ألم أو حلم أو لحظة دهشة، أما المقال فهو مساحة للتفكير والتأمل، لكنه لا يخلو من نبض المشاعر.

تؤمن مجيدة بأن الكتابة تبدأ دائمًا من الداخل، من فكرة أو إحساس بسيط، ثم يتحول إلى نص:

“في الشعر أو القصة، يبدأ كل شيء بإحساس بسيط، كنبضة داخلية، ثم يتحول إلى نص. في المقال، الفكرة تقود النص، وفي الشعر، الإحساس هو الذي يقوده. لكن الهدف واحد: تحويل التجربة الإنسانية إلى نص حي.”

الحياة بكل تفاصيلها هي مصدر إلهامها الأكبر، فهي تكتب من الواقع، وتحوّل الحزن إلى شكل يمكن قراءته وفهمه:

“الحياة بكل تفاصيلها هي ما يكتبني. وكل ما صدر مني من شعر أو مقالات هو جزء من رحلتي مع الكلمة والمعنى.”

تسعى مجيدة من خلال كتابتها إلى الجمع بين الفكر والعاطفة، بين العقل والقلب:

“أقدّم ما يُحرّك الفكر، ويُلامس الشعور، ويضيف لبنة صغيرة في بناء الثقافة التي نؤمن بها. إنني أكتب وفي داخلي يقين بأن الكلمة ما زالت قادرة على الإضاءة، وأن الحلم، مهما بدا بعيدًا، يبدأ دائمًا بحرف صادق.”

ترى مجيدة أن حضور المرأة في المشهد الثقافي العربي أصبح أكثر تأثيرًا:

“المرأة الكاتبة اليوم لا تكتب لتثبت وجودها فقط، بل لتعيد صياغة الوعي الجمعي، وتقدّم رؤية إنسانية عميقة تُوازن بين العقل والعاطفة، بين التجربة الشخصية والهم العام. ومع ذلك، فهي تواجه تحديات اجتماعية وثقافية، من بينها التصنيف الجنساني الذي يحصر كتابتها ضمن إطار ضيق. لكن المرأة الكاتبة تثبت يومًا بعد يوم أنها قادرة على تجاوز هذه الحواجز بالوعي والموهبة والإصرار، وأن صوتها جزء أصيل من النسيج الثقافي العربي.”

تتعامل مجيدة مع النقد بروح مفتوحة، وتراه فرصة للنص ليحيا من جديد:

“أنا أتعامل مع النقد بوصفه ولادة ثانية للنص، فرصة ليحيا مرة أخرى في ضوء عين مختلفة. النص حين يغادر يد الكاتب لا يموت، بل يبدأ في التشكل من جديد داخل وعي القارئ والناقد معًا. النقد شريك لا خصم، يوضح ما لم أرَه أنا أثناء الكتابة، ويكشف زوايا جديدة في اللغة والتجربة.”

توازن مجيدة بين حياتها اليومية وكتاباتها، رغم أعباء العمل والمنزل والأمومة:

“بوصفي أمًا وزوجة وامرأة عاملة، يومي مزدحم بالمسؤوليات، متقاطع بين البيت والعمل، وبين الرغبة في أن أكون كاتبة حاضرة. غالبًا ما أكتب في أوقات سرية، نهارًا أو ليلاً، وكأن الكتابة سر أحتفظ به لنفسي بين فواصل الحياة اليومية. ورغم التحديات، كل كلمة أكتبها تحمل خبرتي الحياتية ورغبتي الإبداعية، فتتحول النصوص إلى شهادة على القدرة على الجمع بين مسؤولية الحياة وإشراقات الروح.”

وفي ختام حديثي معها، عبّرت عن امتنانها للقراء:

“شكرًا لمن أتاحوا هذه الفرصة للقاء القراء، الذين أراهم مرآة لقلبي وفضاء لأفكاري. وشكرًا على هذا الحوار الجميل الذي أضاف بعدًا آخر من الروحانية والإبداع، حيث الكلمات تصبح نبضات مشتركة بين العقول والقلوب. مثل هذه اللقاءات تجعلنا نؤمن أن الإبداع تجربة مشتركة، وحوار ممتد بين من يكتب ومن يقرأ، بين من يقدّم ومن يحتفل بالمقدّم.”

من قصائدها، “سقوط الأسماء“:

ماذا لو انسكبت الذاكرة من رؤوسنا مثل ماءٍ في إناءٍ مثقوب؟

ماذا لو صرنا نَصحو فجأةً، غرباء عن أنفسنا،

ننظر في المرآة كما لو كانت نافذةً لشخصٍ آخر؟

ليس لنا ماضٍ نستند إليه،

ولا جرحٌ قديم نتحسّسه كلّما مرّت ريح.

 كأم تغمض عينيها عن طفلها 

لن نعرف اسم أول حبّ،

ولن نميّز ملامح من رحلوا،

ولن نفهم لماذا نبكي حين نسمع لحنًا معينًا،

أو لماذا نخاف من غرفٍ بعينها.

سننسى كيف كانت الأم تضع يدها على جبيننا إذا اشتعلت الحمى،

وسننسى أن ضحكة الاب كانت موسيقى خفيّة،

نُطفئ بها الليل.

سنفقد طريق العودة إلى الأماكن الصغيرة،

زقاق المدرسة،

بائع الكعك،

شجرة التين التي كانت تؤمن بأسرارنا أكثر من أهلنا،

سنفقد أصدقاءنا القدامى ،

 لأنّ الذاكرة لن تجد لهم عنوانًا.

سنراهم في الشوارع، فنبتسم كمن يرى وجهًا مألوفًا في حلم،

ثم نُكمل المسير دون أن نعرف لماذا اقشعرّ الجلد.

سننسى كيف كنّا نضحك حين نركض تحت المطر،

وكيف كنّا نرتبك أمام من نُحب،

سننسى الأخطاء الجميلة التي علمتنا الحياة،

والكلمات الغبية التي قالتها قلوبنا بصدق.

ولكن، هل سنجني شيئًا؟

ربما ،

ربما سنحبّ الناس بلا ذاكرة سابقة،

سننظر إلى الوجوه كأنها لوحات بلا توقيع،

جميلة، دون أن نعرف لماذا.

سنصافح العالم بأيدٍ بيضاء،

لا تذكر من طعنها،

ولا من ضمّها.

سنبدأ القصّة من سطرها الأول،

بدون ندم،

بدون توقّعات.

لكن ،ماذا عن الحنين؟

من أين يولد حين تُخرس ذاكرته؟

أين يسكن من لا ماضٍ له؟

وأين يذهب مَن لا أحد يتذكّره؟

زر الذهاب إلى الأعلى