أهم الأخبارالعرض في الرئيسةفضاء حر

شارع اليمنيين في القاهرة.. شاهد حي أن اليمن بلا رجال..!! 

يمنات

محمد الخامري

بالأمس، قررت الذهاب إلى مايطلقون عليه شارع اليمنيين، بحي فيصل بالقاهرة.. شارع مزدحم وبتفاصيل يمنية خالصة كأنك في سوق الملح بصنعاء او الشنيني بتعز او سوق الطويل في عدن، في ناصية الشارع 3 فتيات يبعن المخبوزات اليمنية الخاصة كاللحوح والملوج والكبانة وحتى كدر الدخن والشعير وغيرها..

اقترب مني أحدهم قال انه يعرفني.. سلم علي وعرفني بنفسه وانه يُحضِّر الدكتوراه في إحدى الجامعات المصرية، أشار إلى إحدى الفتيات البائعات، كانت ملابسها نظيفة أو جميلة مقارنة بالاخريات، رغم ملامحها المتعبة الا انها كانت تبتسم لكل زبون، كأنها تقاوم الدنيا بابتسامة صغيرة لاتريد أن تنكسر، كنت أتأملها بحزن وفخر في آنٍ معاً، تصورتها تحمل شرف اليمن كله في طبق اللحوح الذي أمامها، تشكو إلى الله حالها وحال أسرتها وكيف جار عليهم الزمن كما جار على كل اليمنيين بسبب نخبة فاسدة وقيادات رخوة، دمرت الدولة، وأهانت اليمنيين في أصقاع الأرض.

قال لي؛ هذه بنت فلان.. الأستاذ الجامعي، والوزير سابقاً.. قالها بتشفي واضح، وكأنه يحتفل بسقوط اليمنيين، لا بسقوط دولة أنهكتها الحرب ومزقها الفجور في الخصومة بين فرقاء السياسة والأيديولوجيا.

لم تسمع هي شيئاً، لكنني سمعت مايكفي ليشعل صدري غصة ووجعاً.. شعرت بدوار في رأسي، ليس على وضعها، بل على وضعنا نحن، على هذا الانحدار الذي جعل بعضنا يشمت في جرح اليمني بدلاً من أن يضمده..!!

لحظتها لم أعرف؛ أأبكي على حال تلك الفتاة التي دفعتها الحرب إلى الرصيف، أم أبكي على وضاعة هذا الشامت الذي يجسّد الشرخ الكبير في نفوس اليمنيين، وانحدار الأخلاق والقيم، وضياع ماكان يربطنا كأبناء وطن واحد.

كان ذلك المشهد وحده كافياً ليقول إن اليمن لم يعد اليمن، وأن عشر سنوات من الحرب قادرة على أن تكسر مالم تكسره قرون.

تركت هذا الشاب وذهبت لحال سبيلي ولا أدري لماذا جئتُ إلى هذا المكان الذي نغص عليّ لحظتي وحمّلني الدنيا فوق رأسي.. عشر سنوات واليمن يتشظّى حتى لم يعد فيه مايلملم الروح.. ضاعت أخلاق اليمنيين وقيمهم.. الأب يرفع السلاح في وجه ابنه، والأخ يقف على المتراس المقابل لأخيه، والأسر التي كانت ملاذاً صارت شظايا ممزّقة بين الفقر والقهر والخوف والخلافات السياسية والدينية.

لم يعد مايوحّد اليمنيين سوى رغيف الخبز وعلبة الدواء وحقّ بسيط في الحياة؛ حقوقٌ صارت اليوم ترفاً بعيداً، انهارت منظومة القيم، وخارت الأعمدة الاجتماعية التي ظل اليمن يحتمي بها لقرون. وصار الاختلاف بين الناس مجرد تنافس على النجاة، لا على وطن.

عندما تنظر للحرب وماذا فعلت بنا خلال عشر سنوات يشيب رأسك، وتتمنى أن تكون في كابوس مزعج وليس واقع حقيقي.

التعليم كقيمة يعتمد عليها العالم في النهوض والتقدم ومسابقة الزمن، أصبح في بلادنا شيء ثانوي لا داعي له فمصير الشباب معلق في جبهات القتال او طوابير الإعاشة والتسول الراقي امام قصور الامراء ومكاتب المسئولين في الدول المجاورة.. انهار التعليم في اليمن شمالا وجنوبا على حد سواء؛ مدارس الشرعية بلا معلمين، والمعلمون بلا رواتب، والمناهج بلا روح.

وفي مناطق الحوثيين صار التعليم مطيّة لغرس الطائفية وتبديل الهوية وتشويه عقل جيل كامل.

أطفال اليمن يذهبون صباحاً إلى مدارس تغيب فيها الدولة، وتصيح فيها الحاجة، وينامون مساءً على أصوات حرب لم يعد لها معنى.. جيل كامل يُدفن حيا بين سوء التعليم، وسوء التغذية، وسوء المستقبل الذي بلا ملامح.. جيل يتربى على الخوف قبل المعرفة، وعلى الطائفية قبل الكتاب..!! 

الغلاء يطحن اليمني طحن؛ في المدن والقرى وفي مخيمات النزوح داخل اليمن، وحتى في المنافي الاختيارية التي استطاع اليمني الهروب إليها، في كل زاوية تصل إليها أقدامنا.. أمهات يبعن ذهبهن من أجل الدواء، وآباء يكدحون حتى آخر رمق فقط ليبقوا واقفين، وأسر تنزلق كل يوم إلى هاوية لن يستطيع أحد إخراجها منها.

كرامة اليمنيين أُهينت من القريب والبعيد، (من اللي يسوا واللي مايسواش كما يقال)، من أعلى الهرم إلى أدناه، لم يعد هنالك فرق في الكرامة المهانة والقامة المنحنية بين رئيس ومرؤوس، كلنا اليوم ضحايا في طابور طويل من الألم، والجميع أصبح يفكر فقط: كيف أعيش، وكيف أعيل من بقي حولي..!! 

في الخارج ينتشر اليمنيون كالبذور المتطايرة في الريح او كملح الأرض حسب وصف الربادي رحمه الله لأبناء تعز، بعضهم يبحث عن عمل يبقيه واقفا من ذل الحاجة، وبعضهم يبحث عن هوية جديدة، وبعضهم يدفن روحه في بلاد لاتشبهه، باردة كأصحابها، لاروح فيها ولا دم..!!.

الوطن صار حقيبة سفر نحمله معنا، وصار الحنين مرضا يؤلمنا، وصار المستقبل حلماً باهتا بعيد المنال.

من يُصدق.. اليمن، بما كان فيه من تاريخ وحضارة ونبل ونقاء، صار اليوم مقبرة للأحلام ومساحة مفتوحة للدموع.. عشر سنوات كفيلة بأن تهزم أي شعب وتقتل فيه روح الحياة، وليس العلم والابداع والأخلاق فقط.. 

بعد هذا كله هل آن لليمن أن يستريح.. الحرب لم تُعطِ شيئا، ومالم يأتِ بالحرب سيأتي بالسلام، ومن يرفض السلام اليوم ليس مقاتلا ولا بطلا؛ إنه مرتزقٌ حقير، يعيش من دم هذا الشعب، ويمد يده للخارج ليطعمه كي يواصل الحرب.. هؤلاء لايدافعون عن قضية، بل عن رواتبهم ومخصصاتهم المالية.

السلام ليس ضعفا بل قوة وركن شديد.. الضعف الحقيقي هو الارتهان للغير، هو مد يدك لمن يدفع لك، هو أن تعيش على حساب دم الناس، هو أن تبقى واقفا على أنقاض وطن لن يبقى طويلاً إن استمر هذا الحال.. السلام فريضة ربانية ودعوة نبوية وغاية كل إنسان سوي.

زر الذهاب إلى الأعلى