ضرب الخرافة بتوصيف علمي دقيق

يمنات
د. وهاج المقطري
وانا في مكتبي سمعت صياح شاب في الممر وفجأة دخل علي رجل وامراة جاؤوا من محافظة اخرى يمسكان بفتاة في العشرين من عمرها وهي تشتم وتصرخ بصوت خشن كأن رجل يتحدث من داخلها، وبعد شوية هدات وعاد صوتها الناعم..!!
قال لي الرجل _ وهو خال البنت _ الحمد لله أنه جتها الحالة عندك علشان تشوفها بعينك يادكتور..!!
كانت العائلة متعلمة، لكن ومع ذلك كانوا مقتنعين بأن ابنتهم مسحورة،، قالوا إن شخص خطبها ورفضته وتوعد ينتقم، وأنه سلط عليها جني، وأن الصوت الرجولي الذي يطلع فجاة منها هو صوت الجني كما أكد لهم أكثر من شيخ..!!
قلت لهم طيب مادام أنتم مقتنعين 100% أنه سحر ليش ما استمريتم عند الشيوخ يعالجوها؟!
قال الخال للأسف يادكتور ما استجابت، أخذناها لقراء وشيوخ، وقبلها اخذت أدوية نفسية وقالوا عندها فصام وما نفعها شئ، قلنا نزيد نشوف رايك !!
بدأتُ رحلة الاستقصاء الدقيقة عن تاريخ البنت وطفولتها وبيئتها، وتصفحت كل فحوصوتها بما في ذلك تخطيط الدماغ لاكثر من مرة واشعة الرنين، ثم بعد مراقبتي لتصرفاتها وردات فعلها لحديثي معها في زيارتين منفصلتين لاحظت انني امام هويتين مختلفتين فعلا حتى بنبرات الصوت، لكن ليس ذلك جني، بل هو اضطراب تفارقي مع خصائص الهوية المتبدلة،، (Dissociative Identity features / DID spectrum)،،وهو اضطراب معروف في الطب النفسي العصبي..!!
لقد كانت الفتاة ضحية لصدمات طفولة مبكرة وعنف أسري كانت تعيشه يوميا وتوتر وفقدان أمان مزمن ثم انفصال والديها بطريقة قاسية،، فالطفل حين يحاصر بالخوف لا يملك خيار المواجهة، لكن دماغه يلجأ لآلية دفاع عميقة وهي الانفصال، ينفصل عن الألم وعن الذاكرة، وينشئ مستودع داخلي للصدمة مغلق بإحكام لسنوات طويلة،،لكن بعد البلوغ وفي عمر 18 – 25 يكتمل النضج النفسي والقشرة الجبهية تصل لذروة البناء والضغوط الاجتماعية ترتفع والعلاقات، المستقبل، الدراسة، الأمل والانكسار كلها تضرب دفعة واحدة، فتُسحب الأغطية وتخرج الصدمات التي كانت نائمة!!
وحتى ذلك الصوت الرجولي ليس صوت جني بل جزء من نفسها، وهوية اخرى عنيفة خُلقت داخلها لتنتقم من ذلك الألم الذي ذاقته وهي طفلة..!!
اوصيتهم التوجه لمركز طب نفسي لتلقي علاج صدمات موجه وعلاج سلوكي بهدف دمج تدريجي للهويات وانصاعوا بقناعة تامة بعد ان ضربنا الخرافة في اذهانهم بتوصيف علمي دقيق لحالتها…!!
من حائط الكاتب على الفيسبوك