أهم الأخبارفضاء حر

عود يا أغلى الحبايب… يا أغنيةً عمرها ثلاثون سنة ولا تزال تشعل قلبي كلما هبّ اسمها في الهواء

يمنات

عبدالوهاب قطران

على غير موعد، أهدتني الحياة عصر اليوم مفاجأة تشبه تلك اللحظات التي لا يهبها القدر إلا لمن أنهكته الأيام،واثقلت قلبه الاحزان ثم أراد أن يربّت على كتفه… جلسة مقيل دافئة بصحبة الفنان الذي ظل صوته يسكن ثلاثين عامًا من ذاكرتي الندية: عبدالغفور الشميري.

قبل حوالي خمسة أشهر، كنا في مقيلٍ يجمعني بالصديق مصطفى راجح واحمد عبدالرحمن وعلي الضبيبي وعبدالكريم الشرعبي وآخرين، نتقلّب بين الأغاني على يوتيوب كما يتقلب القلب بين مواسم الحنين. وما إن ظهرت أغنيته الخالدة “عود يا أغلى الحبايب” حتى توقفت أرواحنا عن الضجيج، وهبط علينا ذلك السحر القديم… السحر الذي كنا نختبره في تسعينات اليمن حين كان الفن أجمل ما في الحياة.

غنّى معنا مصطفى، ثم التفت متفاجئًا من شدة الطرب الذي اجتاحني. فقلت له وأنا أبتسم بوجع الذكرى:

“هذه الأغنية الحزينة تشدّني من أطراف عمري وتعيدني إلى همدان… إلى شابٍ يافعٍ يفلح الأرض، يغرس السفرجل والتفاح والعنب، ويقود الشاص محملة بصناديق العنب إلى سوق مذبح، والمسجّل يصدح بصوت عبدالغفور… ويقلب الطريق بين همدان وصنعاء إلى مهرجان من الأمل.”

تداخل علي الضبيبي قائلاً إنهم في ريمة كانوا يعشقونها أيضًا، وأكد أحمد عبدالرحمن انها كانت مسموعة بقوة عندهم في شرعب و أن محمد العلائي أخبره بحضورها في حجة… فاتفقنا جميعًا:

انها كانت ترند اليمن كلّه، عندما كانت اليمن كلها قلبًا واحدًا يوم كان الفن سيدًا فوق كل الفواصل.

وقبل ثلاثة أيام، فتحت الأغنية مجددًا في مقيلي أحمد عبدالرحمن، قال لي ضاحكًا:

“لعل عبدالغفور يشرّفنا قريبًا.”

فقلت له:

“لو جاء… سأحضر مقيلك ولو زحفت. اعزمني مش تدعمم”

لم أكن أعرف أن الزمن يخبئ لي مفاجأة لا تحدث إلا مرة في العمر.

اليوم، اتصل بي أحمد وقال:

“استعد… فنانك الكبير سيحضر المقيل.”

واشترط –على غير عادته – أن آتي وحدي، “بدون هجانة!” فضحكت وقلت: حاضر.

تغديت، واقتطبتُ، وحملت غصون القات الهمداني، وخرجت من البيت على قدميّ. وفي الطريق، عاد الزمن الجميل يزاحمني خطوةً بخطوة…

تذكرت حقول همدان، وعرقي على الأرض، وعناقيد العنب العاصمي التي أحملها على الشاص إلى صنعاء، والطريق يغني لي… “عود يا أغلى الحبايب” و “كلما جيت أدق الباب قابلني وعدك الكذاب.”

غنيت وأنا أمشي… ما زلت أحفظ الكلمات مثلما أحفظ تفاصيل شبابي.

ولمّا طليت على مقيل أحمد، رأيته…

كان هناك، بوجهه الهادئ، بضحكته الطيبة، بالروح التي تشبه أغنياته.

صرخت، دون حساب لأي بروتوكول:

“معقول صاحب عود يا أغلى الحبايب بيننا اليوم؟!”

اه ياليتك دريت ليلة العيد كم بكيت..

اقتربت منه، صافحته بحرارة، فعانقني وقبّل رأسي، وضحك من قلبه… ضحكة فيها طيبة اليمن كلها.

جلسنا حوله، حكينا له عن زمن الأغنية، عن كيف غزت الريف اليمني من شرعب الى همدان إلى ريمة إلى حجة، وكيف كان صوته يرافق الفلاحين والطلاب والمسافرين وأحلام العاشقين.

وجدناه إنسانًا… قبل أن يكون فنانًا.

بسيطًا، عفويًا، خفيف ظل، يضحك كأن الدنيا ما زالت بخير.

كأننا نعرفه منذ ثلاثين سنة.

وحين لمس حبّنا له، ونبشنا لذاكرة اليمن معه، ازداد وجهه بهاءً. حدّثنا عن أيام غربته في جدة حين غنّى “عود يا أغلى الحبايب” لأول مرة.

قلت له:

“اليمن كبير بشعبه… يوحّده الفن، والادب والشعر، والأغنية… قبل أن يفرّقه الساسة الخونة.”

وتوقف الزمن.

ثم التقط العود وغنّى… غنّى تلك الأغنية التي تربّت عليها قلوبنا:

عود يا أغلى الحبايب

عود يكفيني عذاب.

راح عمري وانت غايب

واحترق غصن الشباب..

عود حتى ليلتين

عود وامسح دمعتين.

عود وانظر كيف اني

أستقي دمع الأسى.

من رأني لامني

والبكى مني اشتكى.

عود لو صِفْر اليدين

عود كفى غربة ودَين.

طال بعدك عني طال

هل نسيت كل اللي كان؟

هل صحيح يا كل عمري

غيرك عني الزمان؟

أين إخلاصك وفين؟

مات حب العاشقين.

بالذي زانك ليا

بالنبي بالأولياء

لا تَدَعني للظنون

لا تخلخل بالياء.

عود وامسح باليدين

دمع جرح وجنتين.

آه يا ليتك دريّت

ليلة العيد كم بكيت

والحزن كيف هلّني

بعدما قالوا نسيت.

والدموع كم عاتبين

بسمتك بالصُورتين.

كل جيراني وأهلي

يلبسوا للعيد جديد

وأنا في أحضان صدري

منتظر ساع البريد.

ربما في كلمتين

طمنوني: أنت فين؟

كلما قالوا وصل

قلت أكيد هذا الحبيب

ينقلب يأسي أمل

والفرح يسكب سكيب.

بس فرحي لحظتين

والدموع يتساقطين.

غنّينا معه حتى علا تصفيقنا فوق جدران المقيل، وأعادنا صوته إلى أعوام خلت، إلى زمن البراءة، إلى اليمن الذي كان يشبه الأغاني أكثر مما يشبه السياسة.

سألته:

“لِمَ كل هذا الحزن في الأغنية؟”

فقال مبتسمًا بأسى:

“لأننا أدّيناها… انا وقائلها الشاعر العذري ونحن في الغربة بجدة.”

وغنّى بعدها “رحلك بعيد ما عادناش لك”، ثم أغاني أخرى جعلت الوقت يتهادى ببطءٍ جميل.

حتى بدا المقيل وكأنه ليلة من ليالي الزمن الذي لم يعد.

سجل الاغاني وبث بعضها بصفحته الصديق مصطفى راجح .

وتردد الصوت في المقيل… وفي أعماقنا.

صفّقنا، طربنا، وانسكبت ثلاثون سنة في لحظة واحدة.

كانت جلسةً من تلك الجلسات التي لا تتكرر…

جلسةٌ من أيام الله.

يومٌ أعاد لي شبابًا مضى، وأثبت لي أن الفن وحده يقدر أن يعيد الإنسان إلى نفسه… ولو لساعة.

انتهى المقيل… لكن روحه لم تنتهِ.

كان يومًا يشبه نعمة، يشبه عطية من السماء… يومًا من ألايام التي لا تعوض.

زر الذهاب إلى الأعلى