أرشيف

سمر.. رحلة شقاء وألم انتهت في كوخ مهجور

حب غدر به الأنين..

كانت تتراقص كفراشة مزدانة بأجمل الملابس ناشرة عبق مفاتنها الساحرة ومختالة بنشوة أمام حبيبها كلما حضر للسلام على خاله وكان هو يبادلها نفس الاهتمام والإعجاب ويتماهى عازفاً معها أنغام أغنية الربيع وتراتيل ألحان الحب، سمر التي ما برحت تسامر الشوق وتداعب الورد وتصلي في محراب الحب لتعجيل عقد القران لم تستعد للحظة الغدر التي اغتالت زهو أحلامها.. فلم يكتمل العام الأول من عمل صادق مدرساً للتربية الاسلامية في المنطقة المجاورة حتى طارت الأخبار بأنه خطب فتاة من تلك المنطقة، فحطمت سمر كؤوس نشوتها وأخفت مرارتها وذهبت ت?اري أوجاعها وتكبت أنينها..

وعادت أيام الهوى..

مع أهل القرية التي احتفلت بزفاف خطيب مسجدها حضرت سمر بقلب ممزق داست عليه وحشرجات محبوسة في مجتمع عيب فيه على الفتاة أن تعلن حسرتها على فقدان حبيبها بل عيبٌ عليها أن تحب أصلاً.

مرور سنتين كان ضماناً كافياً لعودة حنين الحب الأول لقلب صادق الذي بدأت الأيام تدغدغ أشجانه الصامتة، واستطاع استمالة سمر للحديث الذي كان في البداية عابراً لكن لهيب الاشتياق سرق ذاكرة سمر فنست أن صادق متزوج وعادت تتبادل معه الهمسات المرتعشة وذكريات أيام الصبا على أعتاب منزلها، وفي كل محفل ولقاء..

وفي المقابل طوى صادق السجاد ونسي أنه الخطيب الزاهد والمعلم القدوة فكان يعود سريعاً من المدرسة بعد أن يتعلل للمدير بالمرض تارة وبالانشغال تارة أخرى، مختلساً اللقاءات التي كانت في بدايتها ذات شجون وأحلام ومعاهدات على عدم الغدر مرة أخرى، كما كانا يتناقشان حول كيفية الزواج وهل ستكون سمر ضرة أو يطلق صادق زوجته الأولى، وفي هذه الحالة ما ذنب الطفلين ومن سيربيهما؟

غلطة ما وراء النافذة

ذات صباح وشمس الضحى تزحف نحو كبد السماء، تخفيها غيوم الشتاء التي تظلل صادق وتبلل وجهه بقطرات من الهثيم وهو يعدو بخطوات الخيانة ويدخل الباب المشرع لإستقباله وعلى مقربة من النافذة يجلسان يترقبان عودة الأم أو الأب كي يغادر صادق قبل وصولهما، وفي برهة من الحب الذي بدأ باللمس والالتماس المصحوب بقبلات تحولت إلى إعصار من الرغبة فالتقى الخد بالخد والتصق الصدر بالصدر وغاب كل منهما في جسد الآخر ولم تفق سمر إلا وهي مسلوبة، جريحة.. فحياتها صارت بيد صادق بعد أن أعطته ربيع قلبها ومنحته بكارتها دون أي مقابل، فارتجفت وانس?بت الدموع على خديها مطراً، وأدركت أنها أخطأت ولم يعد ينفع لطم الخدود، وعندها هدأ صادق من روعها ووعدها بالزواج وظل يزورها كلما رأى فرصة للاختلاء بها ليلاً أو نهاراً، فهو ابن البيت ويطلب منها ما يطلبه الرجل من زوجته دون ممانعة من سمر التي كانت تنسج من ظلمة الليل خيوطاً للفجر، وتلملم عثراتها وتقدم السعادة لحبيبها كي لا ينسل من يدها مرة أخرى.

رد اعتبار في الوقت الضائع

حانت ساعة الويل وبدأت أيام الحساب فالدورة الشهرية لم تأتِ في موعدها.. ارتعدت وتلعثمت كلماتها وتثاقلت خطواتها وطلبت منه أن يتزوجها في أسرع وقت، فلم يتردد وطلب يدها من والدها وبأي شروط حتى وإن كان تطليق زوجته الأولى لكن خاله رفض وأراد أن يعيد الاعتبار لنفسه وابنته التي تركها وذهب ليتزوج بأخرى..

ومرت الأسابيع سريعة وسمر تلاحق أفق الصباح والألم يستعر والأمل يتهادى أمام إمكانية مواراة الفضيحة وحبسها.

خطيب المسجد .. والحجرة المظلمة

محاولات صادق المستمرة تصدى لها خاله بمزيد من الرفض فلم يكن يعلم بما دار في شواطئ العشاق حتى أفاق على انتفاخ بطن ابنته التي انهارت وبصوت مخنوق اعترفت لأمها بما جرى، حينها كان صادق قد ترك المنطقة وولى هارباً نحو العاصمة قبل افتضاح حقيقة أمر الخطيب الواعظ والمربي الفاضل، وترك لسمر الأحزان الثقيلة تسلخها وتجرعها حنظلاً ..

فقام الأب بحبس ابنته في غرفة مظلمة وفي تلك الغرفة مضى بسمر العمر وهي تلعق علقم حصادها المر ولم يعرف أحدا كم عانت من آلام المخاض حتى ولدت طفلة رافقتها في سجنها الذي حفرت أنفاقه المظلمة في لحظة متعة عابسة.

وماذا بعد.. يا سمر ؟!

بشقاء الصامتين استمرت سمر يهدها طول الانتظار ترنو بحنين وأسف إلى نافذة من ضوء حتى توفي والدها الذي غزته تجاعيد العار وأصيب بأمراض الضغط والقلب واحتجب عن الناس.. وفي لحظة حزن والدتها وأهل القرية على رحيل الأب فتحوا لسمر باب سجنها فخرجت بجسد شاحب كشبح لذكرى امرأة كانت نسمة من ندى ولمسة من حرير.. فاختلست لها طريقاً من بين الجميع والدموع تسيل بغزارة على وجنتيها حزناً على نفسها وعلى والدها الراحل.. وحينها لم تجد سوى الهرولة نحو القهر وبقدمين حافيتين أخذت تعدو عصر ذلك النهار تحت تجلجل الرعد ولمع البروق وهي تتمن? لو تتحول عاصفة تطوي الطرقات وتمزق المسافات قبل أن يراها أحد أو ينتبه لهروبها.

إلى التربة صغيرتي !!

بينما كانت مأذنة مسجد صادق تصدح بأذان صلاة مغرب ذلك النهار كانت سمر تودع آخر مكان يمكن أن يراها أحد من أهل منطقتها فيه، لقد تخطت الحدود الملتهبة وحان الوقت لالتقاط بعض الأنفاس، وصارت تسير في طريق لا يعرف أحد فيه أنها عار وكل التأويلات ستكون ما دون ذلك.

وعلى درب الأحزان العاصفة ظلت تسير وتستريح وعلى كتفها طفلة تعانق وميض النور لأول مرة مرافقة لأمها في رحلة تلك الليلة المسجاة بزمهرير الشتاء.. واصلت سمر سيرها وهي تردد مواويل الأنين إلى مجهول استقر بها في مدينة التربة وهناك تنفست حرية مليئة بالعبودية والاضطهاد وجمعت في أحد أطراف المدينة أحجاراً ورفعتها من ثلاث جهات وعملت منها كوخاً غطت سقفه بالحطب، كانت تأوي إليه في مساء اتها الشاقة بعد أن تتجول في النهار باحثة عن يد حانية تواسيها بخير تشتري به خبزاً أو حليباً لطفلتها بعد أن صامت حلمتا ثدييها عن إدرار اللبن?

بؤس وتحرش

في هذا الكوخ المسكون بالكآبة ظلت سمر تراقب الغيوم وتتعقب أذيال الأمل باحثة عن خيال يطفئ بؤسها الذي لم يشفع لها من استعار مراهقة الشباب وطيش الرجال الذين لم يرحموا ضعفها ولم يردعهم اهتراء جسدها وقذارة ملابسها من أن يعطيها أحدهم فتاتا من مال ويشترط عليها قبلة والآخر لمسة أو تحسس أجزاء من جسدها، وبعضهم لا يقدم لها شيئاً وإنما يزاحم القدر في إيذائها، وبين هذا وذاك غدت سمر علامة مميزة لمدينة التربة وماركة من ماركاتها، وكبرت ابنتها ووصلت إلى السبع السنين هزيلة تعاني حالة فصام من هول ما عاشته وتعيشه.. وانتقل عناء?التحرش إليها وظلت سمر تدفع عن ابنتها وتقاوم بطش وحوش البشر ببقايا جسدها وروحها المنكسرة..

الدور يتكرر مع ابنتها

لم يكتف الزمن بما جرعها من بؤس ويأس فقد ظل الطفح يلاحقها ويتغذى من وجعها..

فذات ظهيرة ظامئة اختطف ثلاثة شبان ابنتها من جوارها وظلت تلاحقهم حتى اختفوا وذهبت لتشتكي بهم لكن من يسمع شكواها، وفي مساء ذلك اليوم التي اختفت فيه النجوم حياءً، عادت الطفلة دون أن تعرف سمر من أي اتجاه جاءت لكنها كانت ترتعد خوفاً وبرداً والدماء قد غسلت الجزء السفلي من جسدها، بعد أن افترس الخاطفون عفتها وبراءتها.

كوخ الفراق الأبدي

ارتجفت الأم وصاحت وصرخت وحملت ابنتها على جثتها المتجعدة وناحت وطال نواحها دون فائدة، فعادت إلى كوخها ولم تفارقه منذ تلك الليلة، ومرت أيام وهي معتكفة في كوخها حتى خرجت ابنتها ذات صباح تبكي موت أمها، فحزن عليها الجميع ووري جسدها مثواه الأخير أما الطفلة فمنذ ذلك اليوم لم يشاهدها أحد وكأنها فص ملح وذاب، لا أحد يعلم إلى أين رحلت أو من تكفل برعايتها وتحدث الناس عن اختفائها بروايات كثيرة حتى مرت السنون فأنستهم سمر وابنتها ولم تعد سوى قصة يرويها بعض الناس بأسماء مختلفة لأن سمر لم تذكر لأحد اسمها الحقيقي هناك ففي كل يوم كان لها اسم.

زر الذهاب إلى الأعلى