المشهد في صعدة . . السقوط من سلة الدولة “ليس جديداً
وصلت رياح التغيير إلى صعدة، شمالي العاصمة اليمنية صنعاء، غير أنها سرعان ما اصطدمت بمفردات مشهد فنتازي لاصطفاف استثنائي جمع خصوم الرئيس علي عبدالله صالح، بعض هؤلاء كانوا والى ما قبل الثاني من فبراير/ شباط الماضي أطرافاً رئيسية في إذكاء جذوة صراعات قبلية مسلحة مثلت تداعياتها الجزء الأكثر تعقيدا من مشكلة صعدة المزمنة كمدينة استوطنتها لعنة السلاح والدمار ودوائر العنف المتلاحقة التي حولتها إلى ما يشبه “الخرابة الكبيرة” .
“الخليج” زارت صعدة للتعرف إلى طبيعة التداعيات والمتغيرات الطارئة على واجهة المشهد الأمني والشعبي في هذه المحافظة التي بدأت تشعر ببعض الأمن مع توقف الحرب السادسة في شهر فبراير من العام الماضي .
صعدة وثورة الشباب
كمدينة منكوبة استأثرت بالنصيب الأوفر من دوائر العنف المتلاحقة التي شهدها اليمن منذ عام ،1962 لم تعدم صعدة أسبابها الوجيهة للالتحاق بركب الثورة الناشئة، فما يزيد على نصف سكانها الذين يتوزعون على 15 مديرية لايزالون، ورغم مرور ما يقرب من عامين منذ انتهاء الحرب السادسة، رهن الإقامة الاضطرارية في معسكرات الإيواء المؤقت بعد أن تعثرت مساعي الوساطة القطرية والوساطات المحلية في التسريع بعملية إعادة الإعمار للمناطق المتضررة جراء حروب متتابعة بين الجيش والحوثيين، كما استثنيت صعدة ومنذ العام 2004 من الإدراج في الاستراتيجيات والبرامج والخطط التنموية لاعتبارات تتعلق بكونها تعيش أجواء أمنية غير مهيأة لإنشاء أى مشاريع .
يقول المهندس عبدالرحمن نصر الجريزع، أحد المهندسين العاملين في مشروع إعادة إعمار المناطق المتضررة بصعدة: “حرمت صعدة منذ عام 2004 من الحصول على المخصصات المالية المحددة لتمويل مشاريع تنموية وخدمية في مديرياتها، وتم تجميد تنفيذ برنامجها الاستثماري المحدد في مقررات الخطة الخمسية الثالثة للأعوام 2006-2010 بدعوى أن إنشاء مشاريع جديدة بصعدة سيكون بمثابة تبديد لأموال الدولة كون الصراع بين الجيش والحوثيين ما أن يهدأ حتى يتجدد ويتسبب في تدمير ما تم إنشاؤه من مشاريع . في اعتقادي لقد دفعت صعدة وسكانها ثمنا مضاعفا لحرب السنوات الست بين الدولة والحوثيين، فإلى جانب الدمار والخراب ونزيف دماء الأبرياء من أبنائها لم تحصل على الحد الأدنى من حقوقها المشروعة في مخصصات التنمية” .
تداعت صعدة في معظمها للخروج في مسيرات جماهيرية حاشدة ولافتة اختزلت الموقف الشعبي من الأزمة السياسية القائمة بالانحياز لخيار الثورة الشبابية ضد النظام السياسي الحاكم، كما انفردت ذات المدينة عن غيرها من المدن اليمنية في انحسار المجاميع السكانية المحايدة أو الصامتة لتمثل فعالياتها الاحتجاجية المطالبة بإسقاط النظام أنموذجا متفردا لمشهد التوافق الشعبي منقطع النظير في تحديد الخيارات المصيرية .
اعتبر جلال أحمد صالح الكدس، أحد الصحافيين بصعدة، أن “الثورة على النظام الحاكم بصعدة ليست مجرد حالة من التعاطف أو التضامن مع مطالب المعتصمين بساحات التغيير في مدن البلاد كافة، لكنها ردة فعل شعبية طبيعية تجاه كل ما تعرضت له المحافظة وأهاليها من فظائع تسببت بها ست حروب متتالية كانت تتجدد وتتوقف بمجرد اتصال هاتفي من الرئيس علي عبد الله صالح الذي يحمله البسطاء من أهالي صعدة مسؤولية الخراب والدمار الذي لحق بمنازلهم ومزارعهم وحياتهم كبشر” . ويتساءل: “أي مآثر صنعها النظام والرئيس لصعدة وسكانها كي يتردد الناس في مساندة ثورة باتت تتهدد مستقبله ومصيره” .
أول المحافظات المتمردة
سقطت صعدة من سلة الدولة كأول محافظة يمنية تشهد انحساراً قياسياً ولافتاً لمظاهر الحضور والتمثيل الحكومي، في تجسيد لمشهد تداعيات فادحة الكلفة ترتبت عن انشقاق قائد المنطقة الشمالية والغربية اللواء علي محسن الأحمر وقوات اللواء الأول مدرع التي كانت تمثل ما يشبه الحامية العسكرية المتمركزة في صعدة لاعتبارات تتعلق بكونها القوة العسكرية التي أسندت إليها وبشكل حصري مهمة مجابهة حركة التمرد الحوثية المسلحة، وخاضت حروباً متلاحقة استمرت ست سنوات تخللها الكثير من الجدل حول تحول المحافظة إلى ساحة خلفية لصراع غير معلن نشب بين الرئيس صالح واللواء علي محسن على خلفية مواقف الأخير المتحفظة على مشروع التوريث الرئاسي، لتبرز صعدة مجددا كضحية لانتهازية مكرسة أطرافها هم ذاتهم من أسهموا في صناعة أزماتها المعاصرة والدامية، ومن باتوا حاليا يمثلون رموزا لتحالف ناشئ يثير مخاوف البسطاء من أهالي صعدة اطرافه ممثلة بالشيخ فارس مناع، تاجر السلاح الأكبر والأشهر في اليمن وعبد الملك الحوثي، القائد الميداني لجماعة الحوثيين ونخبة من القيادات العسكرية المنشقة والتابعة للواء الأول مدرع، الذين شارك معظمهم كقيادات عسكرية ميدانية في المعارك الضارية التي نشبت على مدى ست سنوات بين الجيش والحوثيين .
يقول الشيخ محمد ناصر قطره، أحد الوجاهات الاجتماعية الشابة : “صعدة انتزعت من تحت عباءة الدولة كواقع فرضه هروب محافظ المحافظة طه هاجر الاضطراري إلى العاصمة صنعاء عقب انشقاق قوات اللواء الأول مدرع وقائدها اللواء علي محسن الأحمر، وتوسيع الحوثيين لنطاق انتشارهم خارج مناطق تمركزهم التقليدية في حيدان ومطره والنقعة، قبيل أن يسيطروا على المفاصل والمصالح كافة الممثلة للدولة بصعدة ويفرضون حضورهم كقوة تهيمن حاليا على كافة مناحي تسيير الشأن العام كافة بالمدينة والعديد من المديريات الأخرى” .
يضيف قائلاً: “ببساطة صعدة تدفع ثمناً مبكراً لتداعيات الأزمة السياسية القائمة في البلاد نتيجة تصاعد موجات الاعتصام والانشقاق داخل المؤسسة العسكرية وانشغال رئيس الدولة بحشد الناس في جمع “الاخاء” و”الوفاء” و”الحوار”، في حين تركت صعدة لقوى متربصة كالحوثيين والشيخ فارس مناع وعسكريين منشقين يتواجدون في المشهد القائم بالمدينة فقط لحفظ تمثيل اللواء علي محسن الأحمر” .
المشهد من الداخل
تسبب اتساع نطاق الاعتصامات الاحتجاجية المطالبة بإسقاط النظام الحاكم لتشمل 17 محافظة يمنية من أصل 21 محافظة في نقل طبيعة الفعاليات الاحتجاجية الشعبية من خانة الاعتصامات المحصورة في نخب شبابية وسياسية محددة إلى خانة الثورة الشعبية مكتملة الأوصاف، بعد انضمام العديد من الشرائح الاجتماعية البسيطة لساحات الاعتصام، ليمثل هذا التحول الدراماتيكي اللافت بالنسبة للكثير من مراكز القوى السياسية والقبلية والفئوية ممن تقاطعت مصالحهم مع استمرار النظام السياسي القائم أو طرأت على علاقتهم بهرم النظام وأركانه التقليدية خلافات مؤثرة ومستعصية،فرصة سانحة لتصفية الحسابات المؤجلة واقتناص مكاسب نوعية عبر المسارعة إلى ركوب واعتلاء موجة الثورة الناشئة والظهور كجزء من مشهد التغيير الطارئ، لتبدو صعدة من الداخل منقسمة على نفسها بين نخب قبلية متسلطة لا تفتقد للأتباع والموالين تسعى لتوظيف المتغيرات الأخيرة على واجهة المشهد الشعبي والسياسي، جراء تصاعد أسهم الثورة الشبابية باتجاه يتواءم وأطماعها في السيطرة والاستحواذ، وبين أغلبية شعبية بسيطة تتعاطى مع حدث الثورة الطارئة كمعادل إنساني لتطلعات بهيئة أيام وسنوات قادمة تتوارى فيها سلطة الشيخ وثقافة السلاح وتستعيد فيها صعدة المنهكة قدراتها التاريخية في إعادة صياغة حضورها الغابر كمدينة للسلام ومزارع الرمان والعنب .
يرى أحمد عبدالسلام العوجري، الذي يعمل مدرساً في إحدى المدارس الحكومية بصعدة أن “صعدة أشد احتياجاً للثورة الراهنة والمتصاعدة ضد نظام الرئيس صالح ربما أكثر من غيرها من المحافظات الأخرى، فعلى مدى سنوات طويلة كرس هذا النظام في صعدة واقعاً من التخلف والتعصب القبلي وتشجيع تنامي سلطة الشيخ وتحفيز القبائل للاحتراب فيما بينها كوسيلة لإضعاف من يراهم النظام خصوماً له سواء كانوا أفرادا أو قبائل .لقد دمر الحوثيون والجيش قرى ومديريات بأكملها في ست حروب، لذلك فحماس الناس البسطاء في صعدة، وليس النخب المتمصلحة للثورة، ينبع من اعتقاد جماعي بأن لا طريق أو وسيلة أخرى لتغيير واقع صعدة وإنهاء جذور الخراب الذي تعيشه ووضع حد للاحتراب والنزاعات القبلية إلا بوجود دولة قوية تفرض سيطرتها وهيمنتها على كل شبر في أراضي اليمن، وتعيد الاعتبار للفئات المسحوقة بفعل تسلط المشائخ . بدون هذه الدولة لن يتغير واقع صعدة، لهذا فإن الثورة هنا قادرة على حشد كل هذه الآلاف التي تخرج كل يوم إلى الساحات العامة في المديريات لتطالب بتنحي الرئيس وإسقاط نظامه” .
زخم بمواصفات استفتاء
الزخم الشعبي اللافت المؤيد لثورة الشباب القائمة ضد النظام السياسي الحاكم بصعدة يبدو أشبه باستفتاء عام انحازت نتائجه وبشكل عفوي لخيار الشرعية الثورية وليس الدستورية التي ينادي بها ويدافع عنها الرئيس صالح لاعتبارات يمكن استلهامها من نوعية الشرائح الاجتماعية والشعبية التي تهيمن كأغلبية على واجهة مشهد المظاهرات والمسيرات الجماهيرية المطالبة بإسقاط النظام الحاكم .
الحاج عبده صالح محمد بكير، كهل تجاوز الستين من عمره، أفنى معظمه في زراعة “الرمان الصعدي”، الفاكهة التي احتكرت صعدة ولعقود طويلة خلت إنتاجها وتصديرها بكميات تجارية للسوق المحلية والخليجية، قبيل أن تتحول مزرعته ومعظم المزارع المجاورة بفعل الحرب الخامسة بين الجيش والحوثيين الى مجرد أثر بعد عين .
ذات الكهل يبدو أكثر حماساً من آخرين أصغر سناً منه في إظهار موقفه المؤيد والداعم لثورة الشباب والمشاركة بفاعلية في المسيرات الجماهيرية المطالبة بإسقاط النظام لاعتبارات لخصها ل”الخليج” بالقول: “هذه الدولة لم تمنحنا أي مخارج للحياة، ست سنوات من الحروب المتواصلة بين الجيش والحوثيين دمرت حياتنا ومنازلنا وقرانا وقتلت وشردت الآلاف، وفي النهاية لا الحوثيون انتهوا وضعفوا ولا الدولة سيطرت وعوضت الناس المتضررة، وكأن هذه الحروب ما وجدت إلا لقتل المساكين وتخريب بيوتهم وإحراق أملاكهم، فأية دولة هذه؟ نحن مع الثورة لأنها يمكن أن تخلق لنا دولة؟” .
المصدر: الخليج- عادل الصلوي