من ثورة إلى فَوّلة

فَوّلَة ـ تعني باللهجة العدنية حفلة بسيطة للإحتفاء بمناسبة أسرية خاصة يتم فيها سكب أنواع مختلفة من الحلويات والشيكولاته المغلفة الصغيرة على رأس طفل ينجح في مدرسته أو يجتاز عملاً معيناً بنجاح ، فيكافئ بإقامة حفلة صغيرة له يتجمع حوله الأطفال ويتم رشه بأكياس من الحلويات التي تتساقط من رأسه على الأرض فيتخاطف الأطفال من أصدقائه وزملائه وأقاربه قطع الحلوى كل بحسب ما يستطيع حال وصولها إلى الأرض.س
تذكرت هذه العادة الجميلة بعد متابعتي لخطابات الرئيس المصري محمد مرسي الواحد تلو الآخر يوم السبت الماضي بعد إعلان فوزه في الإنتخابات الرئاسية المصرية من ميدان التحرير والمحكمة الدستورية مروراً بجامعة القاهرة وإنتهاءً بالحفل العسكري. فوجدته في كل خطاب ينثر الكلام بانواعه المختلفة والملونة علاوةً على أنه يقول شئياً في خطاب ثم يلقي ما يناقضه في خطاب آخر ، مَثَله كالذي يرمي الحلوى على رأس الثورة وعلى الجميع أن يتسابقوا لإلتقاط ما يقدرون عليه ، مع الفارق أن المغلفات هنا فارغة من أي قطع حلوى.س
ومن جهة أخرى يقول المثل الشعبي "المال السائب يعلم أولاد الحرام السرقة" فكيف يكون الأمر عندما يكون هذا المال ممتداً من المحيط الهندي غرباً إلى الخليج الفارسي شرقاً ومن بحر العرب جنوباً إلى نوسايبين شمال سوريا وسيلوبي وصوران في شمال العراق ، وما بين هذا الإمتداد الواسع طولاً وعرضاً توجد ثروات تكفي لإشباع سكان العالم آلاف بل ملايين السنين .. ليس على مافي باطن هذه الأرض بل على ما بظاهرها وحسب.س
إضافةً إلى أنه كلما تقوم إنتفاضة أو ثورة لأي شعب من أصحاب هذه الأرض الكبيرة الواسعة تتداعى لها بالحمى والسهر بقية الشعوب التي تعيش في إطار هذا الإمتداد الجغرافي المترابط قومياً وثقافياً وتاريخياً وأجتماعياً مما يدل على اللُحمة المتأصلة في مكونات الأمة التي تعيش على هذا الإمتداد الجغرافي. بيد أن إبليس الذي تحدى الله جل وعل ، قام على مدى التاريخ القديم والمعاصر في تقويض هذه الأمة الواحدة بعتاة القراصنة وتجار الحروب وأنواع السماسرة المتأهبين دوماً للإنقضاض على هبوب أي نسمة تفوح منها رائحة النشادر المستنهضة لها من الموت السريري الجاثم عليها.س
ويتمثل هذا الإنقضاض بأساليب مختلفة كل مرة وذلك بحسب ما تمليه الظروف السياسية والإقتصادية والثقافية للمنطقة العربية والعالم ، إما عن طريق الإحتلال العسكري المباشر كما كان الحال في اوائل القرن الماضي ، أم بتنصيب العملاء في مواقع التسلط والسيطرة على مقاليد الحكم للدول العربية بأنظمة تابعة وخانعة للخارج كما كان الحال في منتصف القرن الماضي أم بإستخدام العديد من أنواع الأقنعة كالتي تستعمل في الحفلات التنكرية ، ومنها تزوير الحقائق واختراع المصطلحات الكاذبة التي تؤثر بالوعي الجمعي بقوة كالتنويم المغناطيسي لإعادة الأمة إلى حالة الغيبوبة الدائمة مرةً أخرى كما يجري حالياً من قبل قوى الإسلام السياسي.س
بدأ مصطلح "الجمهورية الثانية" ينتشر لا سيما بعد الفوز الإنتخابي الذي حققه محمد مرسي برئاسة مصر في الإنتخابات الرئاسية الماضية ، بما يوحي بأن ثورات الربيع العربي قد أنتصرت وأتت أكلها بإنتخاب الرئيس الجديد من خلال بداية عهد جديد وأنتهاء عهد سابق ، وبات على الجميع أن يعود أدراجه ويستأنف ما كانت عليه حالته قبل الربيع العربي و"يادار مادخلك شر". وبمقوله أخرى ـ دعونا الآن نجرب الإخوان المسلمين ـ فأرضنا وأمتنا قد خلقت لتكون حقل تجارب على مدى إختلاف العصور ـ وأن ما مررنا به في السابق من تاريخ طويل ومرير ليس له أي معنى او تأثير على العقلية العربية ، وكما لو أننا قد قمنا بتجربة القومية العربية وأتحدنا وأنشأنا دولة عربية واحدة من المحيط إلى الخيلج وفشلنا والآن دعونا نجرب الأمة الإسلامية على أيدي الإخوان المسلمين الذين مايزالون ينكرون وجود شئ إسمه "أمة عربية" بذريعة أنهم لا يؤمنون بتوحيد الأمة العربية فقط بل يؤمنون بالغاية الأشمل والأعم وهي توحيد الأمة الإسلامية وإقامة دولة الخلافة الإسلامية ـ متجاهلين أن هذا الفكر هو سبب نكسة الأمة العربية والإسلامية جمعاء في الماضي والحاضر ناهيك عن محاولاتهم المستميتة بإعادتنا إلى الماضي بحجة العودة إلى السلف دون أي إعتبار لمعطيات العصر. وكأنهم لم يستوعبوا فشل هذه التجربة بل أنهم يعتقدون بأنها كانت تجربة الأصل والسلف الصالح بمعموميتها ودولة الخلافة الناجحة التي يريدون إجتراحها عن طريق القوة ـ وليس بتهذيب النفس الآمارة بالسوء. وبعد أربع سنوات من الآن سيقول لنا آخرون .. ها قد جربتم الإسلام وفشلتم فلتجربوا الآن شيئاً آخر ، وكأن دولنا الإسلامية قد أتحدت جميعها وكونت الولايات المتحدة الإسلامية ، لتحسب علينا فيما بعد تجربة فاشلة.س
وبرغم هذا المفهوم الإخواني ، إلا أن الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي قلب ظهر المجن على الإخوان وعلى غيرهم .. وفاجأ الجميع بدعوته إلى تفعيل منظومات الدفاع العربي المشترك والسوق العربية المشتركة وغيرها من الأولويات العربية كالقضية الفلسطينية بما يقوض الفكر الإخواني نفسه وغيره من الأفكار المستوردة والمهجنة من الخارج بما في ذلك الفكر الوهابي والتوجه العولمي وما إلى ذلك من الأفكار التي تتبناها الصهيونية العالمية. ومع ذلك ربما قد يتفق الكثير على قاله الرجل وما رفعه من شعارات ، بيد أن فاقد الشئ في نفس الوقت لا يعطيه ، لأن الثورة تحولت إلى فَوّله ، ولم يتغير شئ في الوضع المصري جراء الثورة سوى تغير إسم الرئيس فقط من حسني إلى مرسي بل وفوق ذلك أنه رئيس بدون رئاسة وبدون دستور وبدون مجلس شعب وبدون جيش وبدون مؤسسات ولذلك كان محقاً حين قال أنه لن يصدر الثورة. لأن الثورة بالفعل قد توقفت بوصوله إلى الكرسي ، الذي لم يكن ليصل إليه بدون الثورة وبدون القبول ايضاً من ناحية أخرى بشروط "المجلس العسكري" وما آدراك مالمجلس العسكري. لقد تمت البيعة فأنا تؤفكون.س
لذا علينا أن نتخيل حجم المأساة عندما نجد أن من يحاولوا أن يحكمونا اليوم بالعافية ، ويساندهم في ذلك الكثير من الغوغاء المحلية والقوى الإقليمية صاحبة المصلحة من وراء هذا النوع من التفكير بإستحضار أمنيات الماضي ، وقلب حقائق الزمن الغابر والعاثر إلى حقبة إسلامية ناجحة ، ولم يتبادر إلى ذهن الكثيرين حتى بدون الرجوع إلى حقائق التاريخ بأنه لو كانت تلك التجربة ناجحة لما وصلنا إلى الحالة التي نعاني منها اليوم كعرب ومسلمين ، ومن أسباب فشل تلك التجربة هو أن "العرب" الذين حملوا إرث المقومات الثقافية الإسلامية في عصر السلف ـ الذين يريدون هؤلاء إجتراحها عنوةً ـ قد تمت في الحقيقة إزاحتهم عن مواقع الريادة من قبل الآخرين بسبب إنحرافهم عن جادة الصواب وليس لعزوفهم عن مغريات السلطة والإمارة التي يريد أن يصل إليها مجدداً هؤلاء اليوم .. دون أن يتعلموا أو يستفيدوا من عبر ودروس التاريخ الإسلامي وأسباب السقوط. وأسباب عدم الإستفادة هذه ، ليس له سوى معنى واحد هو أنه ليس لهم علاقة بروح الإسلام لا من قريب ولا من بعيد إلا بقدر ما يستطيعون على إستخدام شعاراته للوصول إلى أهدافهم المادية بأي ثمن.س
لذا فإن "الجمهورية الثانية" التي يتحدثون عنها اليوم ماهي إلا "المسروقة الثانية" بعد الأولى التي سُرقت في منتصف القرن الماضي وتكالب عليها الإسلام السياسي من كل حدب وصوب بقيادة ما تمسى بالمملكة العربية السعودية ومن على شاكلتها ، والمنتفعين من وجودها أكثر من إنتفاعهم من وجود الدولة الصهيونية نفسها في قلب الوطن العربي ، جميعهم لا يريدون أن يتحقق أي إنتصار لا للأمة العربية ولا للأمة الإسلامية لأنهم يعتقدون أن أي إنتصار لهذه الأمة سيجلب لهم الإنحسار والإندثار. ولهذا قاموا بسرقة الجمهورية الأولى وهم الآن على مشارف الإنتهاء من إختطاف وسرقة المتعوسة الثانية.س
الأسباب الكامنة في إنتصارهم كثُلل فاسدة ومنحطة ، وهزيمتنا كشعوب وأمة ، هو أننا نجهل ما نملك ، نجهل ما تحت أيدينا من مال وثروات سائبة ، نجهل حقوقنا في هذا الوطن الغني والكبير وفوق هذا نجهل طبيعة ثقافتنا الإسلامية ، وهذا الجهل يجعلنا نعتقد بأن ما يتصدق علينا به الآخرون هو في غاية الكرم والأريحية وينبغي علينا أن نتسابق في خدمتهم بالمقل مقابل إستهزائهم وسخريتهم بنا ، بل أن الكثير منا للأسف الشديد بات عنده الإستعداد بحكم الضرورة أو الممارسة أو التوجه ليبيع كل قدراته ومقدراته الكامنة والمستقبلية بما في ذلك مستقبل أبنائه وأحفاده مقابل فتات الفتات جاهلاً او تاركاً قول الآية الكريمة { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً}.س
إذن على هؤلاء الطامعين في السلطة الزائلة التي يعرفون بأنها لو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم ، أن يستنفروا كل قواهم ليعلموا الناس الطريقة التي ستسقيهم ماءً غدقاً إن كانوا حقاً يعلمون ، خيراً لهم من تكالبهم الإرهابي والإجرامي الشرس من أجل الإستحواذ على السلطة بحجة خدمة الدين وهو منهم براء. وعلى الشباب العربي أن يعرف بأن حقوقه مهدورة وبإمكانه بل ومن حقه إستردادها إن إراد إلى ذلك سبيلا.. وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.