ارشيف الذاكرة .. السيرك
يمنات
أحمد سيف حاشد
– لم يسبق لي أن دخلت مكانا كهذا .. إنه السيرك .. ألق و فخامة .. تصميم هندسي معماري باهر، و لمسات ديكورية و أشياء أخرى تشعرك كلها و أنت في غمرة المشاهدة أنك في مركز الكون .. أول مرة أشاهد عروضا تشبه الخيال .. ما كان مستحيلا صار واقعا تحت بصري، و ما كان بعيدا صار في متناول اليد، و اقصاه على مرمى حجر .. إنها المرة الأولى التي أرى فيها حوريات الجنة من منطقة قريبة، غير مكتوب عليها ممنوع الاقتراب .. الدهشة استغرقني من أول وهلة، و تملكتني ساعتين دون انقطاع .. كل التفاصيل هنا تأسرك حتى آخر لحظة .. هنا الله الذي يناديك بدلا من أن تناديه .. هنا الله الذي يحب الجمال، و هنا للبيت الشعري مقامه و حضوره الطاغي:
“وأنت جميل تحب الجمال * * * فكيف عبادك لا يعشقون”
– رأيت حوريات الجنة بأم عينيي، كما رأى ذلك الدرويش ربه .. الله في منتهى الجمال .. في حضرته يجتمع عشاقه و أحبابه .. جلال الدين الرومي و مملكة الحب .. صاحب الكرامات شمس التبريزي .. إمام الصوفية أحمد ابن علوان .. سلطان العاشقين ابن الفارض .. رائد التصوف الحسين بن منصور الحلاج .. الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، و الصالحون و المصلحون الباحثون عن الله في الحب و الحياة و الجمال..
– يزدحم الجمال في هذا المكان، و تغدو أنت بعض منه .. خلتُ نفسي أنني في قلب قبة هذا الكون المُعجز .. بصري يجول في أرجاء المكان .. أحسست أن الكون يحيط بي من كل اتجاه .. يا الله ما هذا الجمال..!! الدهشة تقيم هنا، و الجمال الآسر يدعوك إلى استحضار رب العالمين و غفرانه..
– الله هنا يتبدى لي أجمل مما كنت أظن .. يحملني العجب على جناحيه، و يلف بي في كل اتجاه .. أتماهى مع ما أراه من مَشاهد، و لم أعد أميّز بين المشارق و المغارب .. كل نقطة في المكان صار بإمكانها أن تكون شرقا و غربا في آن .. البوصلة هنا معطوبة و لا تعمل .. بوصلة الجمال وحدها هي التي تخطف وعي المُشاهد، و تعمل بكل كفاءة و إتقان..
– قبة تجمع أشتات الاتجاهات كعدسة كونية .. و أنا أمعن النظر في حورية السماء التي تطير في المكان .. أحاول أن استجمع صوابي فيطير معها، و أبلغ في السكر حد لم أعد أميز بين أعلى المكان و أسفله .. عيوني تتعلق بخاصرة الفاتنة الأخرى، و الحلقات تدور عليها حتى صارت أعظم من حلقات كوكب زحل، و صرت أنا و هيامي إحدى حلقاتها، أحج و أطوف على خصرها .. حلم و علم حتى أدوخ..
– كل شيء هنا ساحر و منسق و آخاذ .. الموسيقى و الحركة و الأضواء و المكياج، و الحكايات المرسومة بالبهلوان .. المؤثرات الصوتية تكتمل بأخواتها .. كل شيء فيه ألق و سحر و جمال و خفة .. دقة و اتقان و دهشة لا تنقطع .. عروض سيرك متنوعة، و أخرى راقصة و مثيرة .. و ثالثة بهلوانية تلعب بعشرين بيضة و حجر..
– فتية و فتيات .. رجال و نساء بلغوا درجة الاحتراف .. كل يقدم ما تم لديه و ما أبدع فيه و ما بلغ إليه .. كأن الخالق صنعهم من مطاط لا من تراب .. كل الجسد هنا يتشكل على النحو الذي يريد، حتى يبهرك و يخطف منك استقلاليتك التي دوما ما تحرص على كينونتها داخلك..
يتداخل الجسد مع بعضه كعجينة من اللبان، و يزوغ نظرك حد التيه عندما تفقد التمييز بين شعر الرأس و قاع القدم..
– فتيات و فتية أجسامهم تعرض أمامك من المشاهد ما يُغرقك في ذهولك .. أجسام هنا تعمل كالمغزل، و أخرى تتشكل كالعجينة، و ثالثة تطوى كالحبل .. تتشكل و تُعقد على ما يريد أصحابها .. في كل عرض تشهد أمامك معجزة، يعقبها عاصفة من التصفيق الحار و الفرح و الطيران .. لم تكن أيدينا وحدها هي التي تصفق، بل كانت تصفق معها قلوبنا و أرواحنا التي تكاد من الفرح تطير و تنتشر في أرجاء المكان..
– فتية و فتيات بعمر الزهور، و عروض آسرة تحوّل بهو قلبك إلى صالة عرض جميل .. خفة لا يجاريها البصر، و مرونة تتشكل دون مانع .. و بقع الضوء المتحركة تتحرك مع بطل العرض هنا و هناك .. محترفون حد العبقرية .. كل يتحفك بعرضه الخاص .. طيران الحوريات إلى شاهق صالة العرض، و عودتهن محوطات بالسلامة .. طيران بدون أجنحة .. قفزات “الجمباز”، و ترويض الحيوانات، و السير على الحبل، و تأدية العروض عليه .. هنا حاضر كل المستحيل..
– يدخل المروضون و المروضات إلى صالة العرض بخفة النسيم و بغتة الدهشة، و تدخل الوحوش إلى الصالة طيعة مروضة، و كأن قدر قد أستأنسها، و بلغ بها حد الأنسنة .. كل فئة منها تدخل بحسب فقرات العرض المحددة لها .. عرض للأسود و آخر للنمور و ثالث للفيلة، و غيرها كثير .. كل يؤدي العرض بحسب البرنامج و الفقرة المزمنة بدقة .. تتوالى الدهشة و العجب، و تتوالى معها المتابعة .. هنا لا تفلت منك ثانية، و لا تندم على اضاعتها سُدى .. لا ندم هنا و لا عض للأصابع .. الندم فقط عندما تتذكر عمرك المهدور، و كثير من أيامك التي مضت سدا دون عودة أو فائدة..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.